هل هنالك أزمة دَين أمريكية وشيكة؟ وهل هي ممكنة أصلا؟
يوم الثلاثاء قبل الماضي فاجأت فيتش وهي إحدى وكالات التصنيف الائتماني الثلاثة الكبيرة العديدَ من المراقبين بتخفيض تصنيف دَين الولايات المتحدة. لم يكن مسؤولو إدارة بايدن الوحيدين الذين صدموا وغضبوا من ذلك. فهنالك قلة من الاقتصاديين بمن فيهم بعض الذين حذروا بشدة من التوسع في الإنفاق أعلنوا أن القرار «أخرق» أو «غريب» أو «عبثي».
في الواقع من الصعب تصور تراجع التوقعات المالية المستقبلية لحكومة الولايات المتحدة على أي نحو من الأنحاء منذ العام الماضي عندما منحتها فيتش شهادة صحية نظيفة «تقييما إيجابيا لأوضاعها المالية».
مع ذلك قفزت تكاليف اقتراض الولايات المتحدة مع ارتفاع سعر الفائدة على السندات الحكومية لمدة 30 عاما من 4.03% في31 يوليو إلى 4.32% في 3 أغسطس. هل فعلت فيتش ذلك (هل تصنيف فيتش الائتماني الجديد تسبب في ارتفاع تكاليف الاقتراض)؟ وماذا كان رد فعل السوق على خفض التصنيف؟ ليست لدي أية فكرة.
لكن من المفيد السؤال عمّا الذي يعنيه خفض تصنيف الدين الأمريكي.
الولايات المتحدة ليست شركة يمكن أن تفتقر إلى النقود. بل هي حتى ليست بلدا مثل اليونان المدينة بأموال مقوَّمة بعملة لا تسيطر عليها. أمريكا تُصدِر (سندات) الدَّين بالدولارات التي يمكن أن تطبعها أيضا.
ذلك لا يعني أننا (نحن الأمريكيين) لا يمكن أن نواجه مشاكل عجز عن السداد أو أن مستوى الدين الحكومي ليس مهمّا بالضرورة.
لكن سرد حكاية مقبولة عن أزمة الدين الأمريكية أكثر صعوبة مما يتصور العديد من الناس. وعلم الحساب والتاريخ كلاهما يستبعدان حدوث مثل هذه الأزمة في المستقبل المنظور. سأعود لاحقا (في هذا المقال) إلى المسائل المفاهيمية. لكن دعونا الآن للتنويه بأن معظم خبراء الاقتصاد يعتقدون بوجود حَدٍّ للدَّين الذي يمكن أن تقترضه حكومة الولايات المتحدة كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي. (النسبة هي المهمة وليست القيمة الدولارية المطلقة ويجب ألا نأخذ مأخذ الجد من يضجّ بالشكوى من مديونية تبلغ تريليونات الدولارات). التاريخ وتجربة البلدان الأخرى يشيران إلى أننا بعيدون عن ذلك الحد.
أوضح مثال لذلك اليابان التي كدَّست، قياسا إلى الناتج المحلي الإجمالي، مديونية أكبر من مديونيتنا. لكنها تحدَّت على مدى عقود التنبؤات التي تشير إلى تعرضها لأزمة دين وشيكة.
بل ما هو لافت بقدر أكبر مثال بريطانيا التي عاشت معظم القرنين التاسع عشر والعشرين بمستويات دين أعلى كثيرا من الدين الحالي للولايات المتحدة دون أن تواجه مشكلة مديونية.
إذن ما الذي يجعل الناس يهتمون فجأة بِدَين الولايات المتحدة؟ من الأشياء التي اجتذبت اهتماما كبيرا مؤخرا تصاعد مدفوعات الفائدة. لقد ظل بنك الاحتياط الفيدرالي يرفع أسعار الفائدة لتهدئة التضخم. وهذا قاد إلى قفزة في مدفوعات الفائدة الحكومية سواء بصورة مطلقة أو كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
حتى الآن هذه المدفوعات قياسا إلى الناتج المحلي الإجمالي أقل بقدر كبير مقارنة بأوائل التسعينيات. لكنها ارتفعت كثيرا عن مستوياتها في السنوات الأخيرة.
دفع ذلك بعض الناس إلى الشعور بالقلق من تشكل «دوّامة دين». أي الخشية من أن يقود ارتفاع مدفوعات الفائدة إلى ارتفاع حجم الدَّين والذي يقود بدوره إلى مدفوعات فائدة أعلى مما يضيف المزيد من الدين. وهكذا ندخل في دوامة مالية شريرة.
هل هذا شيء يثير القلق؟ لا. لا يدعو إلى القلق حقا. ولكي نعرف لماذا سأتولى صياغة معادلة حسابية.
ضعوا في بالكم أننا نتحدث عن معدَّل الدَّين إلى الناتج المحلي الإجمالي (نتحدث عن نسبة الدين إلى ما ينتجه البلد من سلع وخدمات) وليس ببساطة عن مستوى الدين. مضمون المعادلة كالتالي: التغير في هذا المعدل يساوي نسبة العجز الأساسي (عجز الموازنة دون حساب مدفوعات فوائد الدين) إلى الناتج المحلي الإجمالي زائدا سعر الفائدة على الدين الحكومي ناقصا معدل نمو الاقتصاد.
إذا كان معدل الفائدة على الدين الحكومي أكبر بقدر مهم من معدل نمو الاقتصاد يمكن أن تتشكل دوامة ديون. وفي هذه الحال يقود ارتفاع الدين إلى تراكمه بوتيرة أسرع.
لكن قبل سنوات قليلة ألقي أوليفييه بلانشارد وهو أحد كبار علماء العالم الأجلَّاء في مجال الاقتصاد الكلي خطابا رئاسيا أمام الرابطة الاقتصادية الأمريكية أوضح فيه أن معدل الفائدة على الدين الحكومي ظل عموما أقل من معدل نمو الاقتصاد. وبالتالي لم تحدث دوامة ديون.
هل غيَّر ارتفاع أسعار الفائدة هذه النتيجة؟ ليس كثيرا. فحتى بعد الارتفاع الذي شهدته أسعار الفائدة في الأيام القليلة الماضية كان معدل الفائدة على السندات المحمية من التضخم لمدّة 10 سنوات يساوي 1.83%. وهو الأقرب إلى معظم تقديرات معدل نمو الاقتصاد المُستدام.
إذا افترضنا أقل هذه التقديرات من الممكن أن نواجه دوامة دين. لكنها ستكون دوامة بطيئة جدا.
بمعنى إذا كان معدل الفائدة على الدين الحكومي يساوي 1.8% ومعدل نمو الاقتصاد يساوي فقط 1.6% يستوجب تحقيق معدل دين مستقر عندما يعادل الدين 100% من الناتج المحلي الإجمالي أن يكون معدل الفائض الأساسي 2% من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا زدنا نسبة الدين إلى 150% من الناتج الإجمالي سيزداد الفائض الأساسي المطلوب بنسبة 3% فقط (الفائض الأساسي يساوي الدخل الفائض عن الإنفاق باستبعاد مدفوعات الفوائد على الدين- المترجم.)
لذلك إذا واجهنا احتمال حدوث زيادات كبيرة في الدين في المستقبل (وهو ما نواجهه) لن يكون السبب الرئيسي في ذلك مدفوعات الفائدة على الدين الموجود بل ستكمن المشكلة في تلك العجوزات الأساسية. (العجز الأساسي هو عجز الموازنة دون حساب مدفوعات فوائد الدين. أي أن الحكومة تقترض لتغطية النفقات الأخرى خلاف مدفوعات الفائدة- المترجم).
هذا يعني أن المسألة سياسية بالضرورة. وكما سبق أن ذكرت يجب تجاهل أولئك يضجون بالشكوى من إنفاق تريليونات الدولارات. يجب أيضا تجاهل أولئك الذين يشكون من الهدر في الإنفاق الحكومي.
الحكومة الفيدرالية أساسا شركة تأمين تملك جيشا. وهي تنفق بشكل رئيسي على الأشياء التي يريدها الناس كالجيش والضمان الاجتماعي والبرامج الصحية. لكن لدينا ائتلاف سياسي فعال يعارض تخصيص الأموال الكافية لتلك البرامج. لذلك سنستمر في مراكمة الدَّين إلى أن يتم حل ذلك الانسداد.
لكن وكما قلت التاريخ يشير إلى أن أمريكا لا يزال لديها مجال واسع. بل هنالك حجة معقولة فحواها أن مستوى الدين ليس مهما على الإطلاق. أنا لا أتحدث هنا عن النظرية النقدية الحديثة. محاولة الحديث مع أنصار هذه النظرية من الصعب أن يكون مثمرا. فهو يبدو مثل لعبة «كالفين بول» فكرية يغير لاعبوها قواعدها باستمرار حسب مزاجهم. فكلما حاولت تحديد ما يقولونه يصرون على أنك ببساطة لم تفهم ما يقولونه.
لكني أرى أن ثمة وجاهة في مبدأ «التمويل الوظيفي» والذي قد يكون أو لا يكون جزءا من النظرية النقدية الحديثة على نحو ما طرحه آبا ليرنر في عام 1943. (التمويل الوظيفي يعني وجوب تركيز الحكومات على تحقيق أهداف اقتصادية محددة كالتوظيف الكامل واستقرار الأسعار بدلا عن توازن الميزانية- المترجم.)
أعلن ليرنر أنه «طالما كان الناس على استعداد لإقراض الحكومة ليست هناك مشكلة مهما كان عدد الأصفار التي تُضاف إلى الدَّين العام».
لستُ مقتنعا تماما بدعوى ليرنر. لكن مقالي هذا طال أكثر من اللازم. لذلك سأناقشها في وقت آخر. ما هو صحيح أنك عندما تنظر إلى البلدان التي تقترض بعملاتها يصعب جدا أن تجد نماذج تاريخية لنوع الأزمة التي يميل من يهوِّلون موضوع الدَّين إلى التنبؤ بوقوعها.
في الحقيقة أنا أعرف مثالا واحدا فقط هو فرنسا في عشرينيات القرن الماضي والتي اضطرها فقدان ثقة السوق إلى التخلص بالتضخم (المتعمَّد) من جزء من الدَّين الذي راكمته خلال الحرب العالمية الأولى. وحتى ذلك لم يكن كارثة للاقتصاد الحقيقي. فاقتصاد فرنسا في الواقع حقق نموا سريعا تماما أثناء فترة العشرينيات.
الخلاصة هي هل من المرجح أن تواجه الولايات المتحدة أزمة دين في أي وقت قريب أو حتى في العقد القادم أو العشرين سنة القادمة؟ بالتأكيد تقريبا لا. وإذا لم تكن قلقا بشأن المستقبل البعيد أنصحك بأن تكون أقل اهتماما بانفلات الدين وأكثر اهتماما بما يبدو على نحو مطرد تغيرا مناخيا منفلتا.
بول كروجمان أستاذ متميز بمركز الدراسات العليا بجامعة سيتي في نيويورك. فاز بجائزة نوبل للاقتصاد عام 2008
«خدمة نيويورك تايمز»