رؤساء أمريكا واستقلال البنك المركزي

19 أغسطس 2024
ترجمة: قاسم مكي
19 أغسطس 2024

يوم السبت (10 أغسطس) طُلِب من كمالا هاريس الردّ على اقتراح دونالد ترامب بأن يكون للرئيس دور في اتخاذ قرارات البنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) حول أسعار الفائدة. عارضت هاريس الفكرة بشدة قائلة «البنك الاحتياطي الفيدرالي كيان مستقل وأنا كرئيسة لن أتدخل أبدا في القرارات التي يتخذها».

استقلال البنك ليس قضية ذات أهمية للناخبين. فمعظم الناس ربما لا يفهمون حتى الفرق بين السياسة النقدية والسياسة المالية (الأولى تخص البنوك المركزية والثانية وزارات المالية – المترجم.) لكن احتمال أن يقوم ترامب إذا فاز في الانتخابات بتسييس البنك يشغل أذهان أولئك الذين يحللون مثل هذه الأشياء. وهذا أحد الأسباب التي دفعت الاقتصاديين الذين استطلعت صحيفة وول ستريت جورنال آراءهم في يوليو الى القول بأن معدل التضخم سيكون أعلى في الفترة الرئاسية الثانية لترامب (إذا فاز) من معدله في فترة إدارة بايدن. ويفترض أن ينطبق ذلك أيضا على هاريس إذا تولَّت الرئاسة.

لكن لماذا يجب أن يكون البنك الاحتياطي الفيدرالي مستقلا؟ الوضع القانوني للبنك معقد لكن لا يوجد مبدأ دستوري أساسي ينص على وجوب عدم تدخل المسؤولين المنتخبين في عرض النقود (السياسة النقدية)

تاريخيا، البنوك المركزية كالبنك الاحتياطي الفيدرالي كثيرا ما عوملت كوكالات حكومية عادية. فبنك إنجلترا على سبيل المثال كان عمليا جزءا من وزارة المالية البريطانية حتى عام 1997 عندما منح استقلالا تشغيليا.

في هذه الآونة على أية حال معظم البلدان الغنية والعديد من تلك التي بها اقتصادات صاعدة لديها بنوك مركزية مستقلة، وتحرص على تعيين خبراء غير حزبيين نسبيا لإدارتها. لكن لماذا؟ لماذا سَحبُ هذه السياسة (النقدية) تحديدا من أيدي مسؤولين منتخبين؟ إحدى الإجابات على ذلك عدم الرغبة في سيناريو فنزويلا والذي تعتمد فيه الحكومة على ماكينة طباعة النقود لسداد فواتيرها (نفقاتها) وهو ما يمكن أن يقود إلى تضخم جامح. ولا تقولوا ذلك لا يمكن أن يحدث في الولايات المتحدة. فالعديد من الأشياء التي اعتدنا على اعتبارها لا تخطر على البال في الولايات المتحدة صارت كذلك هذه الأيام.

لكن حتى إذا وضعنا جانبا مثل هذه السيناريوهات المتطرفة، الشيء الحاسم في أهميته بالنسبة للسياسة النقدية أن استخدامها هو الأسهل من بين كل الدوافع التي لدى الحكومات للتأثير على الاقتصاد، ومن هنا سوء استخدامها. لقد وجد القادة السياسيون من باب البراجماتية أن تقييد أياديهم بوضع السيطرة على عرض النقد في أيدي تكنوقراط شبه مستقلين هو الطريقة الأفضل لحماية أنفسهم من هذا الإغراء.

كيف تُدار السياسة النقدية؟ عادة البنك الاحتياطي الفيدرالي يشتري ويبيع الدَّين الحكومي. وهذا يمنحه نفوذا ضخما على أسعار الفائدة في الأجل القصير كسعر الفائدة الأساسي. وهو سعر الإقراض والاقتراض بين البنوك (التجارية) لليلة واحدة.

التغيرات في أسعار الفائدة قصيرة الأجل عادة تتسرب بدورها إلى أسعار الفائدة الأطول أجلا كأسعار فائدة قروض الرهونات العقارية والتي تؤثر بشدة على الاقتصاد الحقيقي.

من أين يحصل بنك الاحتياطي الفدرالي على المال الذي يستخدمه لشراء الأوراق المالية الحكومية؟ إنه يصنعه من لا شيء (يأتي به من العدم). فمثلا يبيع بنك مّا بعض أذونات الخزانة وتُضاف أموال مقابل ذلك إلى حساب يحتفظ به هذا البنك لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي. كل هذا يمكن أن يبدو غامضا بل حتى سرَّا باطنيا. لكن أثر عمليات السوق المفتوحة يمكن أن يكون ضخما.

لننظر فيما حدث في أوائل الثمانينات. وقتها شدّد بنك الاحتياطي السياسة النقدية (قلّص السيولة في الاقتصاد برفع أسعار الفائدة – المترجم) وأدخل اقتصاد الولايات المتحدة في انكماش عميق. ثم عكس مساره في منتصف عام 1982وبعد شهور قليلة لاحقا عادت الأمور إلى نصابها في أمريكا.

الشيء المهم أن تحركات السياسة النقدية على مثل هذا النحو وخلافا للتغيرات في الضرائب والإنفاق على سبيل المثال لا تتطلب إجازة مشروعات قوانينها بواسطة الكونجرس مع كل التأجيلات ونقاط الاختناق التي تنطوي عليها العملية التشريعية. فكل ما تحتاجه هو التصويت بواسطة لجنة السوق المفتوحة التابعة للبنك الاحتياطي في واشنطن والتي ترسل التعليمات إلى فريق السوق المفتوحة في نيويورك ويحدث المطلوب.

توضح هذه السرعة والبساطة لماذا نحن عادة نستخدم السياسة النقدية وليس السياسة المالية لمحاربة الانكماش ومحاولة احتواء التضخم.

لكن السهولة التي يمكن بها تغيير السياسة النقدية قد تغري الساسة على التصرف غير المسؤول.

فلماذا مثلا لا يخفضون أسعار الفائدة عندما تقترب الانتخابات؟ قد يدفع الاقتصاد في نهاية المطاف الثمن في شكل ارتفاع في التضخم لكن يمكن معالجة ذلك لاحقا (بعد الفوز في الانتخابات).

في الواقع هذا كما يبدو ما حدث بالضبط في عامي1971 و1972 عندما ضغط الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون على آرثر بيرنز رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي لاتباع سياسة نقدية توسعية في الفترة التي سبقت انتخابات عام 1972. وربما أن تصرفات بيرنز أعانت على ابتدار حقبة التضخم الجامح الذي أعقب ذلك.

ربما ألهمت هذه التجربة ورقةً كلاسيكية في عام 1975 أعدها ويليام نوردهاوس تحت عنوان «دورة الأعمال السياسية» عن الكيفية التي يمكن أن يقود بها التلاعب السابق للانتخابات بالسياسة النقدية إلى عدم الاستقرار الاقتصادي.

هنالك مشكلة مختلفة قليلا لكنها ذات صلة وهي أن البنوك المركزية يلزمها أحيانا أن تفعل أشياء غير محبوبة. لقد أشرت إلى الانكماش الحاد الذي فرضه البنك الاحتياطي الفيدرالي للسيطرة على التضخم في سنوات الثمانينات. لكننا لا نحتاج إلى العودة لذلك الماضي البعيد لنرى كيف يمكن أن تصبح السياسة النقدية سياسية. لقد بدأ البنك رفع أسعار الفائدة في عام 2022 لاحتواء التضخم وحافظ على ارتفاعها على الرغم من انخفاضه. هل يتخيل أي أحد أن ترامب إذا كان لا يزال في البيت الأبيض سيلتزم صمتا مبدئيا إزاء هذه السياسة وإنه بالتحديد لن يصرخ مطالبا البنك الاحتياطي بخفض أسعار الفائدة في سنة انتخابية؟

بالطبع لا يعني أيٌّ من هذا أن البنك مصيب دائما أو يجب أن يكون محصَّنا من النقد. قد تكون لدى مسؤولي البنك الفيدرالي معلومات داخلية حول الأسواق المالية إلا أنهم في معظم الأحيان يتخذون قراراتهم على أساس نفس البيانات المتاحة لنا عن التضخم والبطالة وغيرهما. لذلك من المعقول تماما للمحللين المستقلين تحدي قرارات الفيدرالي.

في الحقيقة أنا أعتقد أن البنك انتظر أطول من اللازم لخفض أسعار الفائدة. بل لا بأس حتى لأعضاء الكونجرس مثل السناتور اليزابيث وارن انتقاد بنك الاحتياطي الفيدرالي والمطالبة بإجراء تعديلات في سياساته.

ومن الممكن تصور أوضاع تستوجب حتى من الجهاز التنفيذي التعليق على السياسة النقدية. مثلا يمكنكم تخيل رئيس «غير مسؤول» للبنك عيَّنه رئيس من الحزب الآخر ينخرط فيما يمكن أن يرقى إلى التخريب الاقتصادي. لا تقولوا إن ذلك لا يمكن أن يحدث في الولايات المتحدة.

لكن المعهود أن الرؤساء ومسؤولي إداراتهم لا يعلقون على السياسة النقدية حتى عندما يعتقدون أنها خاطئة. وما شاهدناه لِتَوِّنَا أن هاريس تعهدت بممارسة ذلك النوع من ضبط النفس. ترامب لن يفعل ذلك بذات القدر. بل في الحقيقة لن يكبح نفسه إطلاقا.

بول كروجمان أستاذ اقتصاد متميز بمركز الدراسات العليا - جامعة مدينة نيويورك وحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2008.

الترجمة عن «نيويورك تايمز»