وَجَاهة الاختلاف
أعتقد دوما أنّ الحكاية نشاطٌ إنسانيّ طبيعيّ، فالإنسانُ كائنٌ حكّاءٌ بطبعه، يعيش الحكاية وهو يضع رأسه على فراش النوم ليمرّ شريطٌ سرديّ في ذهنه يضمّ ما كان أو ما يكون، يستحضر قبل النوم سلسلة من الأحداث ويُقلّبها على أوجه عدّة وفقا لإمكانات سرديّة متعدّدة، متسائلا ماذا لو فعلت كذا بدلا من كذا؟ ماذا لو واجهتُ فلان بفعاله؟ بل أكثر من ذلك يُمكن أن يتخيّل الإنسانُ العاديّ ردود فعل كبتها في يومه تُجاه رئيسه أو تُجاه شخص ما، كلّ ذلك داخلٌ في نسق سردي يومي يعيشه الإنسان، في أحاديث الرجال والنساء أو الرجال في مجالسهم، في المحاورات بين الأصدقاء، في كلّ فعل يُمكن أن يجتبيه الإنسان هنالك حضُورٌ لحكاية ما بشكل علني حواري خارجيّ أو بشكل ضمنيّ باطني داخلي تخييلي، ولذلك فإنّ الحكاية في شكلها الأدبيّ لا تخرج عن النشاط الإنسانيّ اليومي، ولكن عبر التاريخ اتّخذت الحكاية في هيئتها الأدبية النخبوية أشكالا تتلبّسها انتهت بها إلى الشكل الروائي الذي نهتمّ به اليوم، وهو شكلٌ حادثٌ عند العرب، ولكنّ الحكاية قديمة قدمَ الإنسان، ولقد اختُلف في حُدوث الشكل الروائي، وتنازع المنظّرون أمر النشأة والبداية، ولكن الرواية العربيّة لم تكن يوما رواية عربيّة في تأصيلها وبيان إشكالها وأشكالها بل كانت رواية مشرقيّة تكاد لا تتعدّى مصر وبلاد الشام وما عدا ذلك هوامش لا يقع تأصيلها ضمن «النخبة الروائيّة العربيّة». القصص الخليجيّ أو السرد في الخليج أو الرواية الخليجيّة أو الرواية في الخليج، كثُرت التسميّاتُ لظاهرة انتشار الحكاية في زيّها الحديث، أي الرواية (وهي الشكل الحكائي الدارج اليوم) في منطقة جغرافيّة محدودة، لها في ظنّي من المقوّمات التاريخيّة والحضاريّة والأسطوريّة ما يجعلها تختلف إلى حدّ بعيد عن منطقتين جغرافيتيّن تُشاركانها الانتماء العربيّ والإسلاميّ، وهما المشرق العربيّ والمغرب العربيّ. فلا يجوز في هذا الإطار الحديث عن تماه تامّ في وسْم المنطقة العربيّة، كما لا يجوز الحديث عن تاريخ مُشترَك موحّد، وهي مسألةٌ فيها لغطٌ كبير ومُختَلف نظريّ وسيعٌ، ولكن قبل أن أثير هذا المبحث في عدد من المقالات اللاّحقة أردتُ أن أضبط جُملةً من العوامل الحضاريّة والتاريخيّة والأنتربولوجيّة التي تجعل منطقة «الخليج» أو شبه الجزيرة العربيّة، منطقة لها جملة من المظاهر الأصوليّة والحضاريّة التي تُشكّل وعيا حكائيّا يختلف عن مُشتَرَكها «العربيّ»، فشبه الجزيرة العربيّة هي منطقة جغرافيّة تجتمع فيها مختلف القبائل العربيّة التي تُمثّل فكرةً أصليّة ومعتَقَدا ما أصوليّا مشكّلا وعيا بالانتماء إلى الأصل العربيّ إن لم نقل أحيانا وعيا بالاختلاف أو الاستعلاء -أحيانا- عن بقيّة من انتسبوا إلى العرب ممّن أتوا من أصولٍ فرعونيّة أو بربريّة أو آشوريّة، وهو استعلاءٌ يُقابله استعلاءٌ سابقٌ من بقيّة المنطقة العربيّة افتخارا بالماضي المختلف وارتفاعا بأسبقيّة التغرّب في زماننا الحديث، وهي أزمةٌ أحسن محمد العبّاس وصفها عندما تحدّث عن صورة عرب الخليج السلبيّة في السرديّات العربيّة والغربيّة قائلا: «الصورة السلبية لعرب الجزيرة العربيّة في السرديّات العربيّة والغربيّة مردّها خطابات ثقافيّة وإعلاميّة في المقام الأوّل تنهض على مخيال منفصل عن الواقع، يريد تأطير إنسان هذه الأرض في محطّة البداوة، باعتبارها اللّحظة المتخثّرة من التاريخ، بتعبير آرنولد توينبي. هي سرديّات مقبولة وموجّهة للحطّ من قدر عرب الجزيرة العربيّة وإبقائهم خارج التاريخ، وتثبيت معادلة المراكز والأطراف. حيث يُحمَّلون إثم الانحطاط الحضاريّ بما يُشكّلونه من عبء على عرب التحضّر والتقدّم العلميّ، حسب تصوّرات الآخر العربي المحمول على عقد التفوّق والكفاءة»، وهي هوّةٌ وجب إثباتُها والإقرار بها بين مختلف الأقطار العربيّة، ووجب أيضا الاعتراف بها بعيدا عن منطق الانتقاص أو الاستعلاء، فهنالك أصلٌ حضاريّ، تاريخيّ يُجيز إفراد ظواهر أدبيّة نسبةً إلى منطقة جغرافيّة حضاريّة تشترك في العرق وفي الدين وفي الإرث التاريخيّ، وتتداخل نَسَبا وتترابط تحوّلا وثباتا. فالخليج العربيّ مختلفٌ بتاريخه وماضيه وأساطيره، وعاداته وتقاليده عن دُوَل عربيّة أخرى تشترك معه في ماضٍ قريب وفي اللّغة وفي الدين -نسبيّا-، إضافة إلى هذه الهوّة البائنة فهنالك واقعٌ لمنطقة الخليج العربيّ يجعلها متفرّدةً بإرثِ اللّغة تأصيلا، وبإرثِ العرق انتسابا، وبخاصيّة تاريخيّة تنزع إلى فكرة «الأصيل» و«الدخيل»، و«العربيّ» و«غير العربيّ» و«القبلي» و«غير القبليّ»، وهي إثنيّة مؤسّسة لحكايات وأساطير، وهذا الواقع الخلافيّ منتجٌ لثيمات يُمكن أن تكون محاور لتكوين الشخصيّات ولاستدعاء الأحداث في الخطاب الروائيّ، فمثلا هنالك قضايا في المشرق والمغرب العربيين ناتجة عن سؤال الهويّة وتحديد مفهومي الأصيل والدخيل، ومناقشة اللّغة التي ينبغي أن تُستَعمَل (في لبنان ومصر وسوريا هنالك تنظير لإجراء الدارجة وتقعيدها- في المغرب هنالك دعوة عميقة لإعمال اللّغة الأصليّة الأمازيغيّة)، وفي الإطار ذاته هنالك التباسٌ مفهوميّ في اعتبار العرب غزاة في خارج دوائرهم أو اعتبارهم ناشري دعوة إسلاميّة بالحُسنى دون إكراه، هنالك أيضا اتّهام من المشرق العربيّ للمغرب العربي بالإفراط في التغرّب، وهنالك منظور سائد من المغرب والمشرق العربيّ إلى دول الخليج على أنّهم حديثو نعمة بسبب من طفرة النفط، إلى غير ذلك ممّا يُمكن أن يسود من أفكارٍ، لكن الأساسيّ بالنسبة إليّ هو بيان أنّ القضايا المطروحة على السطح الخليجي مشاريع للرواية، ليست هي القضايا ذاتها التي يعيشها المشرقي، إضافة إلى أنّ لكلّ منهما رؤية للآخر المختلف، قضايا الخليجيّ مرتبطة بإرثه الحضاريّ، وبأنّه أصيلٌ، ومن هنا تتأتّى قضيّة أساسيّة في البناء الذهني والنفسي والاجتماعي والتاريخيّ للخليجي، هي قضيّة القبيلة التي تُشكّل حضورا أقوى من الدين أحيانا، مرتبطة أيضا بمحاولة الحفاظ على هذه الأصالة في الملبس والسلوك والتفكير (وإن أبدى الفرد الخروج عنها)، مرتبطة أيضا بجوارٍ مختلف، وبآخر مختلف، الجِوار الآسيويّ والهنديّ الذي يُمكن أن يشكّل مرجعيّة ذهنيّة حول الآخر المختلف وأشكال التواصل معه. إضافة إلى واقعٍ حادثٍ ومقتضيات حياة يوميّة واجتماعيّة تؤسّس لسرديّة اجتماعيّة ثقافيّة مخصوصة. سؤالنا المركزيّ بعد هذه الأرضيّة العاجلة هو هل فعلا هنالك تطوّر في حركيّة الرواية الخليجيّة؟ وهل تُمثّل الرواية في الخليج ظاهرةً -لا طفرة- مختلفة عن الرواية في بقيّة الوطن العربيّ؟ كُنتُ دوما ضدّ مبدأ إطلاق اسم «الرواية العربيّة»، لأنّ واقع الرواية عند العرب لا يتّخذ شكلا واحدا ولا هيئة متماثلة، كما أنّ الوطن العربيّ هو تسمية قوميّة عرقيّة سياسيّة لا تعني وحدة المشاغل وتماثل الأشكال، ولذلك فإنّ المنطقة العربيّة لا تنهل من تراث حكائي واحد وإن اشتركت في بعض الموروث، ولا تُمثّل نسيجا عرقيّا أو اجتماعيّا مشتركا اشتراكا تامّا، ولذلك أيضا فإنّ عبارة «الرواية العربيّة» ليست عبارة دقيقة، وإنّما هي عبارة غائمة عائمة لا تشفّ عن روايةٍ تحوي مُشتَرَكا تاريخيّا وحضاريّا، ومن أمثلة ذلك أنّ أغلب العناوين النقديّة التي تتصدّرها عبارة «الرواية العربيّة» تهتمّ بالرواية المصريّة في الصدارة وبالرواية المشرقيّة في درجة ثانية، فبالرغم من أنّ سمر روحي الفيصل عندما أصدر كتابه الببليوغرافي القيّم الذي جمّع فيه الروايات العربيّة: «الرواية العربية ومصادر دراستها ونقدها»، قد ثبّت فيه الروايات بتواريخ صدورها من أغلب المناطق العربيّة واجتهد أن يحوي ثبْته الببليوغرافي كلّ الروايات العربيّة دون تمايز، إلاّ أنّ الدراسات النقديّة المؤصّلة للرواية «العربيّة» هي دراسات محكومة دوما بالمحور والأطراف، ولكم أن تنظروا في العناوين التي تحوي عبارة «الرواية العربيّة» وأن تتبيّنوا صدقَ قولي، فمن ذلك مثلا روجر آلن في كتاب «الرواية العربيّة»، الذي وإن عَبَر في عنوان عابرٍ استعمال كلمة الرواية في الخليج فإنّه ذَكرها عَرَضا في عنوان جامع حول الرواية في العراق والخليج العربي دون أن يقف على اسم رواية واحدة سوى المعلوم من أعمال عبد الرحيم منيف الذي انتقاه لإثبات ظاهرة الطفرة النفطيّة المُبدلّة للأحوال، والناقلة لعرب الخليج من البداوة إلى الحضارة (وهنالك حديثٌ عميق في التعامل مع مفهوم البداوة في شبه الجزيرة العربيّة، فالبداوة ليست مقابلا للتحضّر)، يقول في هذا الإطار: «ولكن العراق وأقطار الجزيرة العربيّة شهدت تحوّلات جذريّة نتيجة لاكتشاف النفط، وذلك خلال العقد الأوّل من القرن العشرين في إيران. وتلا ذلك العثور على أكبر مخزون للنفط في العالم على الطرف الجنوبي للخليج العربي في الثلاثينات من هذا القرن»، يُمكن النظر أيضا في دراسة صلاح فضل «أساليب السرد في الرواية العربية، والحقّ أنّه لا يتحدّث عن الرواية العربيّة بل عن الرواية المصريّة أوّلا والرواية المشرقيّة في درجة ثانية، ولا صلة لكتابه بالحديث عن الأسلوب في عموم الرواية العربيّة. كتاب بلحيا الطاهر «الرواية العربية الجديدة، من الميثولوجيا إلى ما بعد الحداثة: جذور السرد العربي» داخلٌ في نفس المرجعيّات، فبحكم أنّه جزائري، فإنّ الرواية العربية عنده هي الرواية المصرية ونماذج من الرواية الجزائريّة، وينصرف عدد هامّ من الكتب التي تتّخذ اسم «الرواية العربيّة» عنوانا فرعيّا أو أصليّا إلى الحديث عن الرواية المصريّة وبعضا من الأعمال الروائيّة العربيّة التي فرضت نفسها في مقام عربي أو غربيّ، من ذلك كتاب «الرواية العربية: النشأة والتحوّل» محسن جاسم الموسوي، وكتاب «فن الرواية العربيّة» ليمنى العيد، وكتاب «الرواية الآن: دراسة في الرواية العربية المعاصرة» عبد البديع عبد الله، وكتاب «اتّجاهات الرواية العربيّة الحديثة» لمنصور قيسومة. ولم تدخل الرواية الخليجيّة للدراسة، إلاّ في أعمال في جامعات خليجيّة أو في جهود بعض الباحثين تخصيصا، ولكن هل نجد تأصيلا للرواية العربيّة يُراعى فيه المختلف الخليجي والمختلف المغربي والمختلف الشامّي، لقد وقع في يقيني -طيلة مرحلة طويلة من زمن دراستي- أنّ المقصود بالرواية العربية هو الرواية المصريّة والرواية الشاميّة، أمّا ما خالف ذلك فإنّنا نُرجعه إلى قُطْريّته، فنقول الرواية العُمانيّة والرواية السعوديّة إلى غير ذلك. خُلاصة الرأي الذي أريد الوصول إليه هو أنّ عبارة «الرواية العربيّة عبارة ضالّة مُضِلّة، لا تعني المحمول الدلاليّ الذي وُضِعت له، حتّى صِرتُ في جيلي عندما أرى عنوانا «الرواية العربيّة» فإنّي أتوقّع وجود الرواية المصريّة في درجة أولى والرواية الشاميّة في درجة ثانية. وعلى ذلك، فإنّ وجاهةً تبدو من إعادة ترتيب المفاهيم وتبديد المفهوم العامّ للرواية العربيّة وتفتيته إلى ظواهر محليّة جغرافيّة حضاريّة يُمكن أن يكون لها مشترك حضاري واجتماعي وثقافي واحد، ويُمكن أن يكون التقسيم على الشكل الآتي: الرواية المغاربيّة - الرواية المصريّة - الرواية الشامية - الرواية الخليجيّة.