هل كلامُنا رجيعٌ مكرورٌ؟

14 مايو 2024
14 مايو 2024

«سُحقا لمن سبقونا فقد قالوا ما قُلْنا»، دوما كنتُ أتساءل عن نظرة التصغير والتقليل لِلاّحق منظورا إليه في ميزان السابق، وكانت اللّغة هي المدخلُ الرئيس لإظهار أنّنا محضُ أصداء لأصُولِ أصواتٍ تأسّست معانيها ومبانيها منذ أمدٍ، وكلّما تقدّمنا في الزمان فَقَدْنا أُلْق الأشياء، وبكارة المعاني، فهل يسير الأمر هكذا، أي على الشكل الذي عبّر عنه ابن رشيق في محنةِ الصراع بين القديم والمُحْدث، في مقام التنازع بين أفضليّة السبْق للشعر الجاهليّ وما نحا نحوه من شعرٍ شبيهٍ، ودونيّة الشعر المُحْدث باعتبار تأخّره الزمني وصناعته في زمن قد استقرّت فيه المعاني على الألفاظ، وأتى الأقدمون على ممكن المعاني، ولم يترك للاّحق إلاّ فَضْلة، على قولِ الفرزدق: «إنّ الشعر كان جملًا بازلًا عظيمًا فنُحر، فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه، وعمرو بن كلثوم سنامه، وزهير كاهله، والأعشى والنابغة فخذيه، وطرفة ولبيد كركرنه، ولم يبق إلا الذراع والبطن فتوزّعناهما بيننا»، وقوله هو إعلانٌ انتهاء الجدّة في ابتكار المعاني الشعريّة، كما أعلن دُعاة الأخلاق اكتمال الأخلاق وتحقّق نموذجها الأوفى، وكما ادّعى الفقهاء انتهاء النظر الفقهيّ واكتمال مدوّنته، فصدّوا بابَ الرأي، وفتحوا باب الاقتداء والاحتذاء. وهي فكرةٌ خطيرةٌ متى سادت وصارت يقينا واعتقادا، فالقدماء ليست لهم أسبقيّة الزمن، وإنّما كانوا مجيدين في فضاءاتهم ومقاماتهم التي احتوتهم وتأثّروا بها، ولم يأكلوا كلّ المعاني، ولم يأخذوا الجَمَل بما حمل، وإنّما فيهم الغثّ وفيهم السمين، والسمين منهم في أدبه غثّ وسمين، فأشعار الأعشى وزهير وامرؤ القيس وغيرهم هي أشعارٌ قليلة المعاني وفيرة الألفاظ، لا تصنَع معجزةً في القول لا تُؤتَى، ومعانيهم -كما ذكر ذلك أغلب الدارسين- هي معان سطحيّة، فتبقى أشعارهم ذات مرجعيّة تأصيليّة تأسيسيّة، وحسبُها أن تكون كذلك. إنّ فكرة أنّ الأوائل قد أتوا على جامِّ المعاني، ولم يتركوا لنا ما به نُعبّر خارج دوائرهم هي الفكرة العقيدة التي أغلقت باب الاجتهاد في تاريخ الفكر العربيّ، وأدّت بالفكر العربيّ إلى التآكل والذوبان والاجترار، ثقافة الاجترار جلبت إلينا ثقافةً سادت هي ثقافة الاستحمار لخلْق شعوب لا تؤمن بذاتها، وإنّما ترى أنّها تُواصل طريقا قد مُهِّدت وتأسّست وانتهت على قول ابن رشيق في كتابه «العُمدة»: «أنّ مثل القدماء والمُحدَثين كمثل رجلين ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه، ثمّ أتى الآخر فنقشه وزيّنه»، يقتصرُ دورنا على التزيين والتجميل دون الابتكار والابتداع والاختراع (يُمكن لهذا السبب كانت فكرة الإبداع في الفكر العربي مرفوضة) وهذه فكرةٌ خطيرة جدّا، فالإنسانُ باقٍ دوما على اجتراح المعاني، وعلى مواجهة المعاني الحادثة التي لم تكن في الزمن الماضي. ولذلك فإنّ المقولات التي يُردّدها أنصار الإيمان بأنّ فكرنا هو رجيعٌ وتكرار وإعادةٌ على هيئة قولة قيتغنشتاين السابقة «سحقا لمن سبقونا فقد قالوا ما قلنا» وعلى هيئة ما قاله زهير بن أبي سُلمى (وهو صادقٌ في قوله باعتبار نُدرة المعاني وقلّتها في الفضاء الجاهليّ الذي كان يعيشه): ما أرانا نقولُ إلا رَجِيعًا/ ومُعادًا من قولِنا مكْرُورا. وفي رواية أخرى: ما أرانا نقولُ إلا مُعارًا/ أو مُعادًا من قولِنا مكْرُورا. أو قول عنترة: هل غادر الشعراء من متردّم /أم هل عرفت الدار بعد توهّم. وقس على ذلك من أقوالٍ يُرسّخها الفكر العربيّ تحديدا على أنّنا في زمن دائريّ قائم على الاستعادة، ومبنيّ على أنّ الرجوع إلى الماضي هو الفضيلة المُطْلَقة، وأنّ كلّ انفصالٍ عن الماضي هو الضلال والفراغ والانبتاتُ، هي مقولاتٌ دالّة على عقليّة سائدة في التفكير العربيّ لا ترى الزمن يسير بشكل خطّي إلى الأمام، بل تراه دائريّا، فضْل اللاّحق في استعادة السابق أو في البقاء في جُبّته. لقد فوجئت بابنتي عندما شبّت تسألني في غرابةٍ ودهشة، تقول: «ما أصْبَركم تجلسون فارغي الاهتمام تُنصتون إلى أغنية تدوم ساعتين، تُعيد فيه المغنيّة الجملة عشرين مرّة»، أو تقول: «من هذا الذي يطرب لعبد المُطّلب وهو يُكرّر ويعيد «حبّيتك وبحبّك وححبّك على طول»، أو كيف تطربون لأغنية تقول «ساكن في حيّ السيّدة وحبيبي ساكن في الحسين»، وتضحك منّا وتتعجّب، فأجد في كلّ ملاحظاتها منطقا ووجاهة، نحن من جيلٍ آخر يحبّ أن يشمّ أوراق الكُتب، لا يتفاعل كثيرا مع الكتاب الإلكتروني، لأنّا ارتبطنا مع الكتاب ارتباط وجود لا ارتباط تحصيل معرفة فقط، غايتنا منه ليست نفْعيّة فحسب، وإنّما علّمونا أنّ الكتاب هو الصديق وقت الضيق، وأنّه نِعم الرفيق. ولكن يجب أن نفهم أنّ هذا الجيل ينحت معانيه التي تخصّه، والتي تجعله يَسْخر ممّن يجلس لساعات يُنصت لأسطوانات مكرورة، أو يتصفّح كتبا صفراء بالية. هذا الجيل لا يُكرّر معانينا وإنّما يبني معانيه ويبني عوالمه التي ستصبح لاحقا بالية وقديمة، نحن نسير في خطّ مستقيم، لا حظّ فيه للتكرار، إلاّ إن فَهمْنا التَكرار بالمعنى الفلسفي النقدي الذي فيه يكون جوهر الإنسان قائما على معاني جوهريّة -وفق عبارة حازم القرطاجنّي- هي المعاني التي تتحكّم في وجود الإنسان في صورتها المطلقة، مثل الحبّ والكراهيّة، والغضب، الكُره، السعادة، الحزن، وهي المعاني الجوهريّة التي يعمل الإنسان على إخراجها في أشكالٍ تُظهرها. الفكر الحديثُ يقرّ ألاّ وجود لشيء مُكرَّر، لا أقوال تتكرّر وتُعادُ لسانيّا، وإن أعدنا نفس العبارة، فقد أعادها متكلّم مختلف في مقام مختلف وفي زمن مختلف، يُصبح التكرار إعادة صياغة، ونحن نعيد صياغة أنفسنا كلّ يوم بشكل جديد. إنّ مقولة مثل مقولة م. بلانشو في كتابه «الحوار اللامتناهي»: «من ذا الذي سيُولي عنايته لقولٍ جديد، قول لم يُنقل؟ ليس المهمّ أن نقول، وإنّما أن نكرّر القول، وفي هذا التكرار، أن نقوله مرة أخرى أوّلَ مرة»، يتلقّفه دعاة الفكر الدائري على أنّه إثباتٌ وتثبيتٌ لفراغ معانينا وجواهرنا، وأنّ عمْقنا في استعادة ما قيل، والحقّ أنّ المقولة أعمق وأنفذ، فالجدّة وابتكار المعاني حاصلة في نسق معرفيّ قائم. محمود درويش على سبيل المثال، وهو صنّاع المعاني، فاتق المباني، مخترعٌ في الشعر أبوابا لم تكُن فيه، هو سُلالة حركةٍ شعريّة كاملةٍ انطلق منها حتّى يُنْفِذ جديده، ويُلقي مِنْ فيه كُبّةً من الشعر لَم تُلْق في فَم غيره من الشعراء القدامى. هامّ جدّا أن نخرج من جبّة الماضي ونحن فيها، أن ننقدها ونحن آتون منها، وأن نخرج من فكرة أنّ الخلاص ماثلٌ في الاقتراب من القديم وفي استرجاعه.