نظرة عابر إلى الثقافة في عُمان

26 نوفمبر 2024
26 نوفمبر 2024

لم أكن -وأنا القادم من عنفوان الثقافة ووفرة صراعاتها فـي تونس- أعرف شيئا عن الحراك الثقافـي فـي عُمان، ولم أكن أتوقّع أن أجد ثراءً يُوازي أو يفوق الثراء التراثي، أو العبء الذي تركته من ورائي، وكانت إقامتي الأولى فـي نزوى سنة 2007، بابًا لمعرفة حالٍ من الوعي، وحراك ثقافـي مشجّع وباعث على الاهتمام به، كانت مصافحتي الأولى مع جماعةٍ من طلبة الماجستير، كانت نخبةً من طلبة العلم الشغوفـين بالعلم، العارفـين بحركة الأدب العالميّة، الطامحين إلى النهل من مصادر المعرفة، الحاملين للسؤال، الراغبين فـي ممكن جوابٍ.

وكنت أصبو لتعليمهم فإذا أنا أتعلّم عنهم حبّ المعرفة مع التواضع المخجل، ومنهم أدركتُ عُمقًا فـي الثقافة العمانيّة حوَّل مسار أبحاثي، وبعثني على صرْف قسمٍ من اهتمامي إلى النبش فـي التراث العماني أوَّلًا وعلى متابعة حادث الأعمال من جهةٍ ثانية، ومن هذا المنطلق كان اطّلاعي على حياةٍ مسرحيّة ثريّة وحادثة، كان فـيه اللّقاء مع صديقين عزيزين، آمنة الربيع نقدًا وتأريخًا، وهلال البادي إنجازًا وكتابةً، وعلى نشاطٍ موسيقيّ ثريٍّ يُقدم عليه شبابٌ مليءٌ بالرغبة وعشق الموسيقى، ومع توفّر أرضيّةٍ داعمةٍ مشجّعةٍ توفّرت أعمالٌ متشرِّبةٌ للحادث، متواصلةٌ مع تراثها الشعبي الموسيقي، وكان لي شرف التعرّف على مؤرّخ ودارسٍ فذٍّ للموسيقى العمانية وهو مسلم الكثيري الذي -فعلًا- خصّص حياته لتدوين الموسيقى العمانيّة وحفظها من التلف والضياع، وقس على ذلك أعمالا وأنشطة فـي الفنّ التشكيلي، وكان لي شرف التعرّف على أعمال أنور سونيا وعالية الفارسي ويوسف النحوي، وهي دائرةٌ ثقافـيّة وإطارٌ معرفـيّ حاضنٌ لما هو داخلٌ فـي اهتمامي من متابعة الحراك الأدبيّ، فكانت الخطوة الأولى أن قرأتُ بعضًا من الأعمال التي توفّرت لي لشبابٍ واعدٍ صاعدٍ، وكان أيضًا أن عملتُ على تنشيط متابعةٍ أكاديميّة علميّة لهذا النشاط من خلال تأطير عددٍ من طلبة الماجستير وجّهتهم إلى أدبٍ عمانيٍّ حادثٍ، وقد نجحت هذه التجربة بشكلٍ كبير، إذ توفّرت الأرضيّة الملائمة لتكوين فكرٍ نقديٍّ بعيدٍ عن المجاملة أو الإطراء أو الوقوف على عتبات النصوص دون تعمّقٍ فـي بيان خواصّها وخصائصها.الملمح المهمّ فـي هذا الشأن أنّي انتبهت إلى تقصيرنا نحن أهل المغرب العربي، وابتعادنا عن المكوّن الأدبي العميق فـي عُمان، ولم نكن نتابع بشكل دقيق ما يحصل فـي هذا البلد من نهْضَة أدبية وعلمية جديرة بالمتابعة والاهتمام، تفتّحتُ أوّلا على أعمال المرحوم علي المعمري (وأنا صاحب الهوى السردي)، وقرأتُه قبل أن ألقاه، فلقيتُ شخصًا مليئًا بالوعي والتجربة والرؤية، خبر الحياة وأدرك منها قصَّتها، فرواها وبثَّها فـي رواياته، علي المعمري بالنسبة إليّ أصلٌ مكينٌ من أصول الرواية فـي عُمان، وأعْماله منبئةٌ بطاقةٍ فـي السرد عجيبة وبمعرفة بالحاضر وبالتاريخ وسيعة، تعرّفتُ على سعود المظفّر وما بناه من تأسيسٍ للرواية الموسوعيّة، وناقشنا معه مسألة الأسبقيّة وبدايات جنس الرواية، تعرّفتُ على حسين المعمري وناقشنا الرواية وأثرها ودورها، وأدركتُ معه التوجّه النفسي فـي تجارب الكتابة الروائيّة، تعرّفتُ على عقلٍ نافذ، عارفٍ بالتاريخ وما يخفـيه، محمد اليحيائي بقصصه المؤسّسة وبروايته الفارقة، وخضنا أحاديث ونقاشات مديدة وممتعة، تعرّفت على الكاتب والسينمائي والمثقّف المتألِّم عبد اللّه حبيب، علمٌ فاعلٌ يخطّ فـي فنون البصر أثرًا وفـي فنون الكتابة آثارًا، لاقيت الآباء المؤسّسين، وعلى رأسهم سما عيسى وتبيّنتُ دوره وأثره فـي احتواء الشباب اللاّحق وعنايته الفائقة بأعمالهم على علوّ منزلته وكِبَر قدره، لاقيتُ خيرةً من الشباب الذين يكتبون القصّة والرواية ويجتهدون فـي خطّ سبيلٍ به يتفرّدون، العزيز، الخلوق، الضحوك، المبدع عبد العزيز الفارسيّ تغمّده اللّه برحمته الوسيعة، وبقدر ما انعكس فـي قصصه وظهر، بقدر ما امتلك قُدرةً على التخييل كبيرة، وفُوجئتُ بـ«مساميره» شكلًا فـي الكتابة السرديّة الوجيزة فريدًا، الخطّاب المزروعي وخطّه المميَّز فـي نبْت الحكاية، وقصّه الشفويّ الجاذب وسعة ثقافته واطّلاعه، حمود الشكيلي وعمله على نحت القصّة النابعة من عمق الحياة وكدّها، حمود سعود وما يغرفه من بحر القصص القصيرة التي بها يتفرَّد، والصديق العارف، الممتع حديثه وما يكتب وما ينطق سليمان المعمري، وتقلّبه فـي الكتابة من القصة إلى الرواية إلى المقالة، بأسلوبه الساخر الجاحظي، ودوره الجليل فـي تغذية الثقافة فـي سلطنة عُمان.كنتُ من الأوائل الذين انتبهوا إلى «سيّدات القمر»، وتعرّفتُ على عُمقِها، وعرفتُ من ورائها كاتبة عالمة مثقّفة عاملة جاهدة، محبّة لما تفعل دون مللٍ أو تذمّرٍ يغلب فـي العادة على الكُتّاب العرب، ورغم أنّي فـي مقالتي التي كتبتُها فـي سنة 2011 كنتُ شديدًا فـي نقدي لها، مؤلِمًا أحيانًا، إلاّ أنّ صلةً وصلتني بها وأفقًا معرفـيًّا تواصَل معها، وتقبّلًا عجيبًا منها كان لشدّة نقدي لاحظته معها ومع غيرها من الكُتّاب الذين أعجبتني كتاباتهم فجرَّحتها لأنّي دومًا أريد الأفضل، وعرفت من ورائها سيّدات كاتبات، آمنتُ بقدرتهنّ على نهجٍ طريقٍ مميَّز فـي الكتابة النسويّة، هدى حمد التي تابعتُ أغلب ما كتبت، وأعجبت بقدرتها على الحكاية على اختلاف تقلّباتها، ومتعة قصصها، رحمة المغيزوي التي غابت عن الكتابة فجأة على عُمق ما خطته من الحكايات الأسطوريّة، وغيرهنّ كثيرات، لاقيتُ جمْعًا من المثقّفـين، منهم من بقي صُحبةً أبديّةً، ومنهم من أخذه الزمان أو المكان أو أخذته ظنون الحياة، نُخبةٌ من الكُتّاب والمثقّفـين تنعم بهم سلطنة عُمان وجبَ أن يُقَدَّروا وأن يجدوا المحلّ الأسمى، وهم المُقبِل الذي تأسّس فـي أرضيَّةٍ باعثة نشطة آمنة محبّة لما يفعلون، باب التعليم الذي فُتِح، والنوادي الثقافـيّة والموسيقيّة والمسرحيّة والتشكيليّة، والأوبرا السلطانيّة، ودار الأوبرا، ومركز السلطان قابوس للفنون والآداب، وجائزة السلطان قابوس للفنون والآداب، والجامعات، والحوارات، كلّها أرضيّةٌ خصبة لإنتاجٍ ثقافـيّ رائدٍ بدأت أصوله تظهر ريادةً وقيادةً وألقًا ونبوغًا فـي الفنون والآداب والرياضة، ولعلّي أذكر هنا ما يهمّني فحسب، من حصول بعضِ الأصدقاء الذين تابعتُ ما يكتبون عن كثبٍ، زهران القاسميّ وأفق روائيّ عربيّ كبير، وهو يخطو خطواته نحو العالميّة بتواضع وأناة، جوخة الحارثي، العالميّة التي تناهز ترجمات رواياتها الثلاثين لغة، وهي -حقّا- الوجه المتألّق لسلطنة عُمان، وبها عرف أناسٌ من أقاصي الأرض قدرة العرب على القصص، وهمُّوا بعمان زيارةً وحبًّا فـي اكتشاف المكان، من يقول إنّ الأدب قد ركدت بضاعته؟