معلّم الصبية والقصص: قابيل وهابيل
عندما كُنّا صغارا نرتاد المدارس الابتدائيّة البسيطة، التي بالكاد توجَد فيها مقاعد خشبيّة ثنائيّة، مجموعة، تشبه المكتب، وفيها أرضيّة مكتب خشبيّة خشنة مهترئة دوما، عليها نكتب ونضع كتبنا، ويتوسّط شبه المكتب ذاك، حُفرةٌ يأتي العامل كلّ صباح ليملأ بالحبر محبرة صغيرة في تلك الحفرة، لنا فيها مآرب عدّة غير غمس الدواة فيها وتحبيرها للكتابة. في تلك الفترة، كانت الفواصل بين الخير والشرّ واضحة، ولم يكن المُدرّسُ يُشقي نفسه لإيجاد قصص الشرّ المؤدّية إلى الهلاك، وقصص الخير المؤديّة إلى السلامة، كنّا مؤمنين أنّ الإنسان يحتاج إلى قصّة، وأنّ كلّ حركة في الكون، وكلّ فكرة يؤمن بها الإنسان أو يرفضها، هي قصّة، وكيف لا، والله عزّ وجلّ أمر نبيّه الكريم أن يقص القصص؟ كيف لا، والله عزّ مقامه قد تعهّد بفعل القصص، إذ قال «نحن نقصّ عليك أحسن القصص»، وكان آباؤنا، كلّما جدّ موقف أو فعلنا فعلا معيبا، يُجلسوننا أمامهم، ويقصّون علينا قصّة، قصّة عن «التعلّم»، قصّة عن «فعل الخير»، قصّة عن «قيمة الأخلاق»، قصّة عن «ترك الكسل»، قصّة عن «النهوض باكرا»، قصّة عن «مائة نملة دخلت الغار»، قصّة عن «عقاب معذّب الحيوان»، وأمّهاتنا وجدّاتنا يُبدّدن ليالي الشتاء الطويلة، وليالي الصيف الحارّة بقصص البطولات والأخلاق والجميلات، وقس على ذلك من الحمل على الاعتبار بالقصص.
ولم يكن معلّمونا آنذاك يجنحون إلى القصص لقوّة إيمانٍ فيه، ولا لعقيدة تأمرهم بالقصص، بل كانوا يقومون بذلك انطلاقا من علّم الأطفال وهم يُنصتون إلى القصص، وعلى ذلك، كان معلّمونا الأوائل قصّاصين بامتياز، بعيدا عن ضغوط ضرورة إنهاء البرامج، وكلّ ترسانة المبادئ التنظيريّة التربويّة التي انتهت إلى الفشل الذريع، كان المعلّم هو الذي يختار طرق تحقيق مقاصد الدرس؛ لأنّ المقصد ليس التعليم فحسب، بل إخراج إنسان سويّ، قادر على نفع بلاده وعباده، أن يكون سويّا نفسيّا واجتماعيّا، وأن يتعلّم وهو يُدرك قصّة الكون، ولذلك امتلأنا بقصص الكون منذ كُنّا في مراحل الابتدائيّة الأولى، التاريخ قصّة، الدين قصّة، العلوم قصّة، اللّغات قصّة.
أتذكّر جيّدا دروس اللّغة العربيّة نحوها وصرفها، كانت تُقَدَّم إلينا انطلاقا من نصّ طريف مرغِّب في القراءة محبّب في العودة إلى أصل الكتاب، فكاهةً أو طرافةً أو موقفا إنسانيّا. ومن قصص التعليم الابتدائي الباقية في ذهني قصّة قابيل وهابيل، لم يكن من العسير تمثّل القصّة، ولا تخيّل حوادثها، ولكن كان من العسير علينا إدراك أنّ أخا يُمكن أن يقتل أخاه، وأن يدفنه أيضا، كان سؤالنا المُحيّر الذي لم نقدر على طرحه، ما هو السبب الذي من أجله قتل الأخ أخاه؟ كنّا مبهورين بالقصّة الأولى، وبمعرفتنا كيفيّة نزول الإنسان إلى الأرض، ولكن الأهمّ من كلّ ذلك هو معرفة تآخي الخير والشرّ، ووجود سُلالة تكرّست لكل ما هو شرّ على الأرض، هي سلالة قابيل قاتل أخيه، ورافض أمر ربّه، وسُلالة للخير والتقوى وطاعة الله، هي سُلالة هابيل المقتول، وأنّ الخير والشرّ قد نتجا عن جذر واحد وأصل واحد، هو آدم عليه السلام الأب الأوّل الذي لا يخلو هو نفسه من قصّة تُقرّبه إلينا ونحن صغار، وقصّته هي العصيان والندم، فقد عصى آدم أمر ربّه بعدم الأكل من الشجرة الممنوعة، ولكن بتوفّر عوامل مساعدة على إنجاز العصيان، وعلى رأسها الشيطان، أصل الشرور، ومنبع كلّ فعل دنيء يُمكن أن يأتيه البشر، يتحقّق الطرد من الجنّة، ومعاقبة آدم عليه السلام بإنزاله أرضا ملؤها الشرّ، بإطلاق الشيطان فيها إغواءً وإغراء، وكانت أسئلتنا آنذاك، تدفع معلّمينا إلى توسيع نوى القصّة وتأثيثها بتجهيز إطار الحكاية وتوصيف شخصيّاتها ومسرحة الأقوال، يُصبح المعلّم قاصّا معملا خياله، وممثّلا مؤدّيا لأدوار عدد، كُنّا نسمع القصص فنهنأ، ونسعد، ونتعلّم، ونُدرك أنّ الخير والشرّ في الإنسان، وأنّ العالم فيه من الجمال ما يَجُبّ الشرّ، وأنّا لا نخاف الشيطان لأنّه لا يدخل إلّا النفوس الضعيفة، ولذلك تظاهرنا بأنّا أقوياء، وحفظنا ما تيسّر من القرآن الكريم لفعل ذلك، بعد عقود من الزمن، وقد تطوّر العالم وتعدّدت معارف المعلّمين، وتيسّرت سُبل التدريس والدراسة، ولم يعد لطاولة التلميذ ذات المقعد المتّصل والتي يشترك فيها طالبان الجلوس مع أرضيّة خشبيّة أقرب إلى الحديد، ومحبرة تتوسّطها، وخشب بال منه تتكوّن، وحديد يمكن أن ينتأ من أيّ مكان، وجودٌ وحلّت محلّها مكيّفات ومقاعد وثيرة، وقاعات بهيجة وطريقة في التعليم ضعيفة، لا يعرف اليوم الأطفال قصّة قابيل وهابيل شغفا وحبّا وإن قيلت لهم في المدارس؛ فالطالب لم تهفُ نفسه إليها ولم يعلق لا بالقصّة ولا بالقاصّ، وأذكر جيّدا أنّ ابنتي وهي في الابتدائية الأولى كانت تقوم مفزوعة ليلا وتُصاب بكوابيس مرعبة، فلمّا سألتها عمّا تراه، أخبرتني أنّها تحلم بيأجوج ومأجوج يأكلونها، فقلت لها من أين تعرفين يأجوج ومأجوج، فأخبرتني أنّ معلّمها وهو من إحدى الدول العربيّة، وكُنّا آنذاك في عُمان، أخبرهم بأشراط الساعة، وبخروج فئة من الأقوام، ليسوا بالبشر، وهم أقزام في حجم إبهام اليد، وينتشرون في الأرض يلتهمون النّاس، فِلْم الرعب هذا لا وجه له من الحقّ، ولا تسويغ له لقصّه على أطفال في أعمار الزهور يُقبلون على الدنيا، ويرون في الخير انتصارا وفي الشرّ اندحارا، الإسلام ترغيب ونورٌ وضياءٌ وأملٌ وليس ترهيبا وظلاما وعَتمة، فعلّموا الأطفال بالقصص، علّموا الأطفال وهم مبتهجون، راغبون، لاعبون، ضاحكون، مقبلون، مُحبّون.