مطرب الحيّ لا يطرب.. في تكريم أمين معلوف
أقبَلت وزيرة الثقافة الفرنسيّة ريما عبد الملك على أمين معلوف باسمة بهِجةً بفوزه بكرسيّ الأمين الدائم للأكاديمية الفرنسيّة، وهو منصب جليل، أسرّت له والأرض تُهدهدها من فرط نخوتها قائلة: «نحن نستحقّ هذا وأكثر، فأنت كاتب عظيم ورجل حوار وتهدئة»، ووزيرة الثقافة الفرنسيّة ريما عبد الملك هي شريكة الكاتب اللبناني أمين معلوف في الوطن وفي المهجر، وهي مثيلته في التوزّع انتماءً ولسانًا إلى حضارتين، تأتيه عَدْوًا لتكرّمه بحصوله على الكرسيّ العلميّ الأعرق في الثقافة الكونيّة ولتقول له صراحة: يا أستاذ أمين، إنّ فوزك بهذا الكرسيّ يحمل «رمزية رائعة لجميع الناطقين بالفرنسية في العالم»، ولتقول ضمنا: إنّ هذا العالم الغربي على عنصريّته وغلاضته ضدّ العرب إلاّ أنّه يُحِقُّ الحقّ ويقرّ بفضل الفضلاء ويقدّر العلم والعلماء ويجعل أصحابه في مرتبة العِلّيين وإن نافسوا ذوي الأصول الفرنسيّة الخُلّص الانتماء. لم يحصل أمين معلوف على هذه المنزلة؛ لأنّه باع دينه وشرفه وقوميّته، ولا لأنّه كان عميلا غربيّا مستغربا، ولا لأنّه تشدّق بسواد حضارته وضياء الغرب، وإنّما حظي بهذا التقدير وفاز بالأمانة العامّة الدائمة للأكاديمية الفرنسيّة العريقة القائمة منذ 1634 لأنّه أوّلا مبدعٌ حقيقيّ وثانيا لأنّه مفكّر حرّ منجزٌ لعديد الأعمال التي كان لها عميق الفضل في الحضارة الإنسانيّة، راغبٌ في الوئام والمصالحة والحوار رافض للحدّة والشدّة والتعصّب من كلّ الجهات. لقد عرفت أمين معلوف في بداية التسعينيّات من خلال رواياته وكتبه وأنا طالب في نهاية مرحلتي الثانوية، ثمّ تعمّقت معرفتي به وأنا طالب في الجامعة مهوس بالاطّلاع على الروايات، مهوسٌ بتقصّي الكتابة الفكريّة خاصّة منها ما يعرض للقضايا العربيّة، أو علاقة الشرق والغرب، ونحن الذين توزّعنا في تكويننا -فعلا وليس اتّهاما- بين حضارتين وتكلّمنا بلسانين ونظرنا بأربعة أعين. تابعتُ هموم أمين معلوف لأنّها همومي، وانشغلتُ معه بمشاغل كانت مدار صراعات في الجامعة، وكان سؤال الهويّة من أوكد الأسئلة، كان سؤالا حارقا صعبا، ربّما لا يُطرَح هذا السؤال بنفس العمق عند إخواننا في المشرق، ولكن في هذه البلاد كان السؤال المعرفيّ المؤسّس لأفكار ولكتابات ولرؤى، الهويّة التي أحسن أمين معلوف إثارتها في كتابه الذي نُقل إلى أغلب ألسنة العالم «الهويّات القاتلة». هو كتابٌ مُعبّر عن حال مزدوجي الثقافة، الذين يعيشون تمزّقا بين أصلين، بين لغتين، بين تاريخين، بين حضارتين. ومبلغ الأمل أنّ يصل هذا المزدوج إلى الإيمان بأنّه بتلك الخصلة هو الأقوى والأميَز، فحسبُ الإنسان أن يملك ثنائيّا من الإدراك والوعي، وأن يكون جامعا بين حضارتين، مقدّما لإضافة لا يُمكن أن يُقدّمها صاحب الوجه الواحد والفكر الأحادي والنظر الأوحد، ولذلك فإنّ صاحب الكتاب يحلمُ ويأمل، فأمّا الحلمُ فهو ماثِلٌ في رغبةٍ أن يكون العالم الشرقيّ مؤمنا بالاختلاف، وأن يتخطّى «الهويّات القاتلة، وأن يكون وطنا وسيعا للجميع، يقول: «أنا الذي أتبنّى كلا من انتماءاتي بأعلى صوتي لا أستطيع الامتناع عن الحلم بيوم تسلك فيه المنطقة التي ولدت فيها الطريق ذاته، تاركة خلفها زمن القبائل وزمن الحروب المقدّسة وزمن الهويّات القاتلة لكي تبني شيئا مشتركا. أحلم بيوم أستطيع فيه أن أنادي الشرق الأوسط بمثل ما أدعو به لبنان وفرنسا وأروبا: «بلدي» وكلّ أبنائه مسلمين ويهودا ومسيحيين من كلّ المذاهب وكلّ الأصول، مواطنون. تلك هي الحال في رأسي الذي يتأمّل ويتوقّع باستمرار، ولكنّي أودّ أن يُصبح الأمر كذلك يوما ما على أرض الواقع وللجميع»، تلك أحلام باحثٍ روائيّ قارئ للوجود الإنسانيّ وحالم بشرق يتخطّى ما ينبت في خاصرته من خناجر، أمّا آماله فهي ضاربةٌ بجذورها في جيل قادم قد يتعدّى الأحفاد إلى أحفاد الأحفاد، في جيل يعجبُ ويذهل إذ يعلم أنّ أجداده كانوا يخوضون في مثل هذه الموضوعات التافهة في نظر ذلك الجيل القادم، نأمل أن يأتي هذا الجيل الذي يتخطّى هذه العقبات النفسيّة والابستيميّة والحضارية، لينعَم بهدْأة نفس وتوازن فكر، يقول أمين معلوف في ختْم كتابه «عادة، عندما يصل الكاتب إلى الصفحة الأخيرة، تكون أمنيته الأغلى أن يبقى كتابه مقروءا بعد مائة عام، أو مئتي عام (...) بالنسبة لهذا الكتاب، وهو ليس تسلية ولا عملا أدبيّا، أتقدّم بأمنيّة معاكسة: أن يكتشفه حفيدي عندما يصبح رجلا، في مكتبة العائلة بالمصادفة، فيقلّبه ويتصفّحه قليلا ثمّ يعيده إلى المكان المغبر الذي سحبه منه، ويهزّ أكتافه مستغربا أنّه في زمن جدّه كانت هناك حاجة بعد لقول مثل هذه الأشياء».
لم يكن أمين معلوف قلقا -بحثيّا- على مستقبل الهويّات فحسب، بل كان قلقا على مستقبل الكون، قارئا لحالاته الحضاريّة، ناظرا في كتابه «اختلال العالم» في «الشرعيّات الضالة»، وفي «التيقّنات الخيالية»، وفي «الانتصارات الكاذبة» التي تعيشها أوروبا في درجة أولى والعالم من حولها في درجة ثانية، مقرّا بهبوب العاصفة على كامل شعوب الأرض، أغنياء أو فقراء مستَعمِرين أو مُستَعمرين، فالسفينة واحدة والعاصفة جامعة، ولا ينبغي أن نستلذّ «الموجة القاتلة» لبعض الشعوب لأنّها لا محالة شاملة الجميع، ومن هنا ضرورة التفكير في إنقاذ السفينة، إنقاذ الكوكب. أمين معلوف لم يقتصر على النظر في نكد الحضارات وسبل الخروج من المآزق الكونيّة الكبرى بل تفاعل مع التاريخ وهو همّه وهاجسه، التاريخ الذي يراه رواية مفتوحة لا تنغلق وعالما من الحوادث تحكمها الرؤى وزوايا النظر، وعلى ذلك فقد أجاد في عكس الحروب الصليبيّة على مرآة العرب، نابشا في كتب المؤرّخين القُدامى وآراء الفقهاء والأخباريين والرحّالة ليعيد تشكيل صورة نادرة عن «الحروب الصليبيّة كما رآها العرب»، في كتاب يسرد قصّة الحروب الصليبيّة من زاوية نظر مختلفة، تتحوّل الحروب الصليبيّة في منظور العرب إلى «حروب إفرنجيّة»، ينطق فيها الوصّافون والقصّاصون والأخباريون والمؤرّخون والخطباء المسلمون بما يَسم هذه الحروب التي تتحوّل في كتابة أمين معلوف إلى قصّة يقصّها بأسلوب جامع بين خفّة القصّة وبساطتها وطرافتها وبين التوثيق والتمتين التاريخيين، وهو كتابٌ لاقى القبول الحسن عند من يقرأ من العرب وعند الفرنجة. الوجه الآخر لأمين معلوف هو الوجه المعروف بوفْرة وكثرة، وهو وجه الروائيّ الذي كتب الرواية الأشهر «ليون الإفريقي» التي صدر فيها عن شخصيّة تاريخيّة تُدعى الحسن الوزّان الجغرافي الرحّالة صاحب الدراية بالطبّ المتنوّع النسب، ووظّف فيها أسلوب الرحلة وطريق كتابة السِيَر. هذه سيرة مفكّر حمل عبء التاريخ نظرا وروايةً، تفكيرا وتدبيرا وحكايةً، وحمل ثِقَل الواقع دون أن يكون كأغلب «المهاجرين» حبيس حمل هموم العرب إلى الغرب، وقدّر ودبّر وأجْهد الذهن والخاطر واجتهد وأنتج رؤى وأفكارا لا لغوَ كلامٍ سائبٍ، فكان مثالا للعربيّ الحامل للأدب، المُعتَرف به في محافل لا يخوضها إلاّ الكبار، مسجّلا فِكره في تاريخ البشرية، نائيا عن زوائد التشكّي والتظلّم وبكاء الديار والدمن. درسٌ لنا في علاقتنا بالغرب أنّ الأدب الناجح لا حدّ له ولا هويّة، وليس بالضرورة أن نكون علماء ذرّة حتّى نحقّق العالميّة، ونماذج عربيّة وعمانيّة تحديدا عديدة خاضت عالم الفكر والأدب وبُرّزت، ولا يجب أن أنهي مقالي بالقول ألاّ نبيّ في قومه وإنّ مطرب الحيّ لا يطرب.