مستقبل الرواية في عمان
لماذا نُفردُ عُمان بالسؤال؟ لماذا لا نتساءل عن مستقبل الرواية العربيّة في ظلّ تساؤل نقديّ عامّ عن مستقبل الرواية عموما؟
لسؤالنا مقام ومرجع، فنظرا إلى ما تشهده الكتابة الروائيّة في عُمان من تعدّد ونشاط مبرز وحيويّة حادثة، كنت قد قدّرت في مناسبات سابقة فرادتها واقتدارها على خطّ سبيل به يُمكن أن تخرج عن عباءة نجيب محفوظ (نجيب محفوظ أستعمله رمزا للمرجعيّات الروائيّة الشرقيّة التقليدية) القاتلة التي ما زال عدد من الروائيين يتّبعونها، هي عباءةٌ قاتلةٌ لسببين، الأوّل أنّه يستحيل استعادة تجربة سابقة مهما كانت منزلتها، والثاني أنّ المقام الذي أينع فيه نجيب محفوظ وغيره من أتباعه من الروائيين "المتَّبعين" يختلف عن واقع الحال. وفي حين نجد ساعة النقّاد وخاصّة الأكاديميين منهم قد توقّفت عند هذه التجربة، فإنّ تجارب أخرى حديثة ظاهرة قد احتلّت مركز الصدارة، وجذبت ميل القارئ، لم يتمكّن هؤلاء النقّاد من فهمها واستيعابها وتمثّلها ووضعها في مقامها الإبداعيّ. القصور في عالمنا العربيّ في جانب كبير منه هو قصورٌ نقديّ وليس قصورًا إبداعيًّا.
الرواية العُمانيّة تحديدًا موجودة ومتحقّقة على نقيض ما يذهب إليه بعض الأكاديميين العمانيين (الذين توقّفت ساعة نقدهم) وغير العمانيين، وخاصّة منهم في المركز الشرقيّ القديم الذي ما زال يتعهّد رعاية الأدب وسيادته، الرواية موجودة؛ لأنّها قائمة عبر تراكم تاريخيّ معاصر أسهم في تحقيقه علي المعمري وبدريّة الشحّية وحسين العبري وغيرهم كثر من أولئك الذين مهّدوا سبيلا صعبا لجيل من الروائيين المتحقّقين عالميّا وعربيّا وعمانيّا، الرواية العمانيّة صارت تُدرَس نموذجا من الرواية العربيّة في أمريكا وفي بريطانيا وفي إيطاليا وفي الهند وفي عدد من بلاد العالم.
لا مُستقبل للرواية في عُمان إن خرجت من جُبّتها، من خصوصيّة واقعها المحلّي الذي يُميّزها، وعجزت عن تمثّل تاريخها وواقعها، بكلّ ما فيه من تعدّد قبليّ واعتقادي واجتماعي وعرقي، وبكلّ ما فيه من تنوّع جغرافيّ صحراويّ وجبليّ وسهليّ وبحريّ، وبكل ما فيه من صراع محليّ خارجيّ. هذا هو الثراء الذي تستمدّ منه الرواية نَفَسها، وهو ثراء حاضر في الحكايات الشعبيّة، وفي معتقدات النّاس، وفي قسم من التاريخ الرسميّ والشعبيّ الذي ما زال بكرا قابلا للحكاية.
لقد علقت الرواية العربيّة بنماذج أفسدت تقدّمها وتطوّرها وتعدّدها، وخضعت لهيمنة المارد الشرقيّ الذي تحكّم في النشر وفي التوزيع وفي منح الانطلاقة الروائيّة أو منعها، وهي هيمنةٌ سيَّدت نماذج وجب أن تُقبَر حاضرا وأن تدخل مُكرَّمة لمتحف التاريخ الروائيّ، وعلى رأس هذه النماذج كتابة نجيب محفوظ وأسلوبه. لقد كان بلزاك سيّد الرواية الفرنسيّة ولكنّ الغرب وضعه في خانة التاريخ من زمن، غير أنّ قدر العرب أن يعيشوا دوما على نماذج متحقّقة في الماضي.
الأمر الأوّل الذي يُمكن أن يضمن للرواية العمانيّة، ومنها الرواية العربيّة في قُطريَتها، أُلقها واستمرارها وتطوّرها، معقود على المؤلّف في تخيّر نماذجه والعمل على استدعاء واقعه، فلا كونيّة خارج المحليّة.
الأمر الثاني معقود على الحركة النقديّة التي تبدو في واقع الحال غير مسايرة لمنزلة الرواية، وفي حال من الضعف والوهن، وهي راجعة إلى مصدرين عاجزين، أوّلهما النقد الصحفيّ الذي وإن شهد وجود بعض الصحفيين المطّلعين الفاعلين الناقدين، إلاّ أنّه على الوجه العامّ ظلّ صورة عن عدم الدقّة وقلّة الاطّلاع وعدم التوفّق في أن يكون الصحفيّ ممثّلا للقارئ في حدّه الأعلم وفي حمل الأسئلة التي يُمكن أن تتبادر إلى ذهن القارئ، ويظهر ذلك في مواكبة المنشور الروائيّ وفي الحوارات الضعيفة وفي المقالات التي لا تُظهر جهدًا في الاطّلاع. في حين أنّ النقد الصحفي الروائيّ مهمّة خطرة ووازنة لأنّها تُعبّر عن نبض عموم القرّاء، ولذلك فهي لا تقتضي موظّفًا وإنّما ناقدًا صحفيًّا مثقّفًا ودائم الاطّلاع. وثانيهما هو النقد الأكاديمي، وكما هو معلوم فإنَّ كليّات الآداب بمختلف فروعها، علم اجتماع، تاريخ، لغة عربية، لغات أجنبيّة، هي الجهة المختصّة بالتنظير وإبداء الرأي في المنتج الروائيّ العماني، فهل تؤدّي هذا الدور؟
من الضروريّ أن تُراجع الأقسام الأدبيّة في العالم العربيّ أداءها ومسارها وطرق تدريسها، وهو أمرٌ يُمكن أن نعود إليه لاحقًا، غير أنّه في واقع الحال يبقى النقد الأكاديمي هو الحلقة الأوهن والأضعف، فلا نتاج له يُذكر، ولا رأي يُعتمد، الأكاديميّون أكلتهم صُفر الكتب وصِفر الانفتاح على واقع الحال، فبقيت مواضيعهم بالية، منفِّرة للطالب، ولذلك فبحوثهم بمنأى عن طرح مسائل الرواية ومشاغلها ومقبلها في عمان.
تساءل حسين العبري منذ سنوات عن حاجة الكاتب أن يعرف أصداء ما يكتب، فهل كاتب الرواية يحتاج حتّى يتواصل إنتاجه ويعرف موقعه إلى رأيٍ عالم؟
الرأي العالم سنَدٌ هامّ حتّى يتبيّن الكاتب منزلته ومساره، وأنا ممّن يدعون إلى التصريح بالرأي الذاتي من العمل الروائيّ، يعني أن يتوجّه الرأي العالم إلى إعلان وهن الكتابة الروائيّة أو تفرّدها وتميّزها. الرأي العالم غائب غائم جالّ على قصور يتحوّل فيه الأكاديميّ إلى مؤدّب صبية لا رأي له ولا رؤية.
الجناح المكسور في مواكبة تطوّر الرواية العمانيّة هو المؤسّسة النقديّة التي ارتضت سكينة السكون واجترار أوراق الدروس البالية.