«ماذا لو؟»: القصص الممكن
تأتيها الحكايات من كل حدب وفج، تزدحم بها فتصبغ عليها من ستْر اللغة وسحرها ما يحولها من واقع حال إلى متخيل يجتهد متلقيه في تركيب عناصره وبعْث تأويله بعد أن يكون قد أخذ بهدهدة قصصه. عالم من الحكايات المبذورة التي لا تتصل بواقع يحدد هويتها أو ينسبها إلى فضاء بعينه، لا مرجع يتوضح، المرجع الوحيد هو الذات الإنسانية، بل الذات الأنثوية في تقلبها وتقليبها الحوادث والأفكار، الأعمال والمشاهد. ثلاث قصص هي آخر ما نشرت القاصة والروائية جوخة الحارثي، نعتمدها في بناء هذا المقال، هي «النخالة الوردية»، «جنة»، «زيارة»، وهي قصص نشرت بلغتها الأصيلة في مضان مختلفة (النخالة الوردية، مجلة نزوى عدد 111، «جنة»، مجلة ميريت، «زيارة»، مجلة الدوحة). ولاقت هذه القصص القبول الحسن، فترجمتها مارلين بوث إلى الإنجليزية، «Pityriasis Rosea» نشرت في مجلة «كلمات بلا حدود» الأمريكية المختصة في الأدب المترجم، و«Paradise» نشرت في مجلة سكة الإنجليزية، وقصة «زيارة» نشرت مترجمة في العدد السادس من النسخة الإسبانية من بانيبال، وهي مجلة تعنى بالأدب العربي الحديث الناطق بلغات أخرى. تجتمع هذه القصص في وحدة عضوية وبنائية قوامها، وجود شخصيتين، أحدهما متكلم، متفكر، والآخر منكفئ على ذاته، عالم من الأسرار، وقوامها أيضا أسلوب «حكاية ماذا لو»، أو الحكاية بالافتراض، تتشكل كل قصة من صوت واحد غالب هو صوت الراوي المشارك، الذي يتعهد بالحكاية، ويتعهد بالفعل، صوت نسوي ييئر حبيبا حاضرا غائبا، وينخرط في سرْد قائم على الفرضيات التي منها ندرك تفاصيل القصة. من الذي قال إن القصة القصيرة لا تنصرف إلى سرد التفاصيل وأنها تقتصر على موتيفات السرد الكبرى؟ القصة في هذا المقام هي قصة التفاصيل، قصة الجزيئات في الغوص في الذات، في تبئير الآخر -جنة أو جحيما-، في تجميع فتات عالم رحب من حكايات مشروعة، وفي بذر حكايات ممكنة تظل مكتنزة، مختصرة في القصص الثلاث.
من «زيارة»،و«النخالة الوردية»، و«الجنة»، تتفتح آفاق لحكايات ممكنة، تظل في الإمكان السردي دون أن يروى ظمأ القارئ، المكان محدود ولا مرجع له إلا الخطاب، فعلى خلاف ما انتهينا إليه في وسْمنا العام في المقال السابق للتجربة القصصية في عمان بأنها تظل موصولة بإحالات تشد القصص إلى الواقع المحلي، فإن هذه القصص تنبت في ظاهر قوْلها عن واقعها المحلي، لا تبدو منها إشارات تصل القصة به، وإنما المكان وإن تحدد في قصة «زيارة» في بناية، بل في ممر بناية، وإن تحدد في قصة «جنة» بغرفة فندق ومطعم وشاطئ في آسيا الشرقية، وإن تحدد في قصة «النخالة الوردية» بغرفة وأبواب ومكان ثالج، فقد ظل عائما غائما لا يمكن أن نقرأ به الشخصية، وهي ظاهرة موصولة ببعد نفسي وجودي غالب على مجموع القصص. لا تبدو للشخصية الأساس في القصص الثلاث ملامح، ولا أسماء، ولا صفات، ولا أعمال، إنما هي نقطة من الأحداث تتسع قصصا، هي لحظة من السرد عليها تقام القصة، مثل وقوع حصى في بركة ماء ساكن، تخرق هدْأته وتبعث فيه الدوائر. الحدث بسيط في قصة «زيارة» امرأة أو فتاة أو شابة أو كهلة لا نعرف بالضبط، تزور حبيبها وتدخل بناية وافرة الشقق لتتسلح بممكنات السرد، وبـ«ماذا لو»، تفترض وقوع أحداث عديدة وهي في ممرها الموصل إلى الشقة، إلى أن يحدث معوق للمسار يحول الأحداث ويفشل الزيارة.
ماذا لو افترستها القطط وهي في طريقها إلى حبيبها، «وخيل إلي أني أسمع صوت شخير، ربما لا يكون شخير رجل، ماذا لو كان شخير قط ضخم، يحدس وجودي المرتبك خلف الباب وينقض علي بمخالبه»، ماذا «لو نزلت السلالم الآن وخرجت للشارع ودرت حول البناية واشتريت علبة علكة من الحارس وقفلت راجعة لانتهى كل شيء»، ولانتهت القصة الزيارة، ولتعطل مشروع القصص. في قصة «النخالة الوردية» تواصل الكاتبة البناء الأحادي للحكاية، مع إيجاد طرف مقابل هو الرجل، الساكن، الجالس في محل لا يفارقه، ولا وجه أو ملامح أو صفات للشخصية المرأة الحاكية، كل التبئير على التفاصيل، على الحلم الذي يتحقق، على النخالة الوردية التي بانت في جسدها، والنخالة الوردية «هي طفح جلدي يبدأ غالبا في شكل بقعة بيضاوية على الوجه أو الصدر أو البطن أو الظهر»، ما علاقة هذا الطفح الجلدي (النخالة الوردية) بالثعلبة الرابضة أمام مدخل البيت، بالحلم، بالبابين، بالشخصين الباردين قوام القصة؟ صمت غالب على وجْد جارف، امرأة صادحة، ناطقة، حالمة، ورجل رابض، ساكن، صامت، «حتى أني لما خرجت من البيت أجر حقيبتي الخضراء القبيحة، ذات الموديل القديم، الباهتة عليها آثار ملصقات المطارات، لم ينهض لتشييعي، ولم يحاذ خطواتي. لم يمش خطوة واحدة، حتى أنه نسي كيف يمشي». في قصة «جنة» تغلب الحكاية «بماذا لو؟»، في انفراد حبيبين في مكان ومقام واختلاء كانا فيه كأنهما في الجنة، صوت واحد غالب هو صوت الراوية، تطلق منظورها ورؤيتها، وتعتصر الحياة في جنة، مكان، تكون فيه مع الحبيب، الذي توجد له مختلف الإمكانات السردية في تقدير احتمالات ممكنة، «ماذا لو» كانت الخيانة في الجنة؟ «نظرت إلى بقعة العصير تحت قدميها مباشرة، شعرت بالدوار لكنها سارت بثبات إلى الخزانة، أخرجت جواز سفره، قلبته، ثم بدأت تتخيل كيف سيبدو لو قطعته إلى نتف صغيرة جدا، تتساقط لتختلط بالسائل الأصفر على أرض الكوخ الخشبية». عوالم هذه القصص الثلاث داخلة في منظور غالب للمرأة في تقلب وجْدي وجودي، حيث تصْمت الراوية الشخصية الآخر الرجل، وتتكلم هي من منظورها ومنظوره.
هذا الرجل الذي يدخر الاحتياط في الملبس والمأكل والحب، الذي يصنعه الخطاب دون ملامح وبصفات، أهمها أنه يوفر كل ما يخصه من باب الاحتياط «كانت حقيبته مفتوحة على الأرض، اندهشت: كل هذه القمصان من أجل هذه الأيام القليلة؟ ضحك: أحضرتها كلها احتياطا»، «فتح حقيبة ظهره التي لا تفارقه: أحضرت الماء احتياطا»، كان من النوع الذي يأكل احتياطا؛ لئلا يجوع فيما بعد. وقد اكتسبت هذه العادة منه، عادة الاحتياط. فحين يتجولان ويلمح دورات مياه، سيصيح على الفور: من الأفضل أن ندخل، قبل ألا نجد حمامات أخرى. وإذا قدم الطعام في رحلات القوارب سيقول: من الأفضل أن نأكل كيلا نجوع لاحقا. كان من المضحك أن تتذكر هذا الآن. هل عانق التايلندية احتياطا؟» هذه الشخصية التي تنفر من واقع لا يبدو بئيسا، ولكنها تشعر فيه باغتراب، ولذلك تسير القصة نحو بحث الشخصية عن التوازن، فكل فعل في «الجنة له مرجعية، الحمام ذو السقف المفتوح، يدفع إلى استرجاع رغبة ابنها، عشاء الروبيان يذكر بالزوج الذي ظل مهيمنا معرفيا فقد «ظل دوما يعرف أكثر».
«لعبة التوازن» تحرك السرد، رغم انعدام التوازن في توزيع أسهم السرد، إلا أن الشخصية الرابضة في الجنة لم تكن في حقيقة الأمر في جنة، وإنما ظلت باحثة عن إمكان توازن، تعْدل به وجودها، التوازن بين الماضي والحاضر، التوازن بين الأنا والجحيم، التوازن بين الحلم والواقع، التوازن بين الحب والمعهود المعتاد، التوازن بين الهروب لتحقيق الذات أو البقاء في وحل اليومي، في مج المعتاد، كل شخصية هي في الأصل مشروع بحث عن إمكان توازن، وهو الأمر البائن في كل القصص، الخروج من الجنة بأثر فعل الاحتياط، الرجوع عن الزيارة، بسبب العامل المعطل، الرجل، الطفح الجلدي، الذي يتمكن وينتشر ثم يضمحل، «بمجرد أن قال «العودة» عادت لعبة التوازن إلى رأسها مرة أخرى. لقد قطعا الطريق الشاق. لقد سددت الأثمان الباهظة نفسا نفسا من أنفاسها. لقد وصلا للحظة. للجنة. أي عودة؟». ثلاثية باعثة على التدبر والتفكر، تحوي خطوط اشتراك، منها البنيوي إطلاقا لصوت المرأة ومنظورها، وفي حضور شخصيتين هما مدار القصة، ومنها المضموني في فشل التقاء المحبوبين، وتداخل الممكن مع الواقع، وتظهر تجربة في كتابة القصة فاتحة لمعالم البحث والنظر، فيها ما يرغب الباحث ويحث الناقد على تجميع خيوط من السرد أحكمت الكاتبة بذرها، وبعْثها قصصا في بناء تجريبي تعلق أواخر القصص فيه ببداياته، وتنساب الشخصية في إعلاء صوتها المكتوم، الكامن، القائم مساره في أغلب مراحل السرد. ثلاثة قصص قد تدعو قصصا أخرى بالبناء ذاته، والمضمون نفسه، تؤسس لرؤية في كتابة القصة.
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي