«ما أكثر ما أُعْطَى ما أقل ما أخَذْتُ»
عُنوان لديوانٍ من دواوين الشاعر الإنسان محمّد الغزّي، يختصرُ سهما من تصوّره لوفرةِ الفيض الشعريّ الذي تنعّم به، محمّد الغزّي يسير على غير نهج عموم الشعراء الذين يصدحون بعبء ثِقَل الشعر، وبأوجاع المعنى، محمّد الغزّي شاعرٌ رضِيّ هانئ بما «أُلقي في فيه من كُبَّة الشعر»، هانئ بما أُعْطي من فيضِ المعنى، الوهْبُ وافرٌ غنيّ والعبارة قاصرةٌ والآخذُ لا يُسْعفه الزمن للنهلِ من وفير المعاني المبسوطة، الملقاة على قارعة الوجود، هو الفيضُ ذاته الذي لَقِيَه خِيرة المتصوّفة، واكتفوا منه بقليلٍ يُبهج حياتهم، هي الرؤيةُ التي تُعْجِزُ اللّغة وتجْعلها قاصِرة عن مجاراة فيض المعنى، «كلّما اتّسعت الرؤية، ضاقت العبارة»، تلك هي العينُ التي منها يشرب الغزّي «فلا ينحت في الصخر» وإنّما «يغرف من البحر» على قول أسلافه، ولا يتعصّى عليه الشعر، وإنّما يأتيه طوعًا ورغبةً.
لقد حملْنا يوم الجمعة الماضي محمّد الغزّي إلى رحلة أخرى، ليغيب عن عالمنا العينيّ المُدرَك، وليدخل في تجربةٍ كثيرًا ما تَبَصَّرَها، واريناها الثريّا ومِثْله لا يُوَارى الثّرى، وسلّمناه لأصحابه الذين عانى من فقْدهم، واغترب من غيابهم، كان المرحوم الروائيّ صلاح الدين بوجاه في انتظاره على عتبة العالم الآخر، ينتظر خليله ورفيق درْبه ومؤنس وحدته. لم أكتب اليوم لأتحدّث عن خلالِ شاعرٍ عربيّ له في تاريخ الشعر العربي منزلة، ولم أكتب لنعيِ أستاذ وصديقٍ، وإنّما أكتب إلى محمّد الغزّي الإنسان الذي يصعُب أن تراه متجهّما أو مُحبَطا أو مأزوما، قليلون هم الشعراء الذين أخذوا من الشعر بهجته، ومنهم الغزّي الذي عرَفتُه أستاذا في التعليم الثانويّ نهاية الثمانينيّات من القرن العشرين يُدرّسني الأدب العربيّ بشكل لا يختلف كثيرا عن عصابةٍ من مجانين اللّغة العربيّة، منهم الشاعر منصف الوهايبي والمفكّر أستاذ الفلسفة عبد العزيز العيّادي، وعرفته بعد ذلك وأنا طالب في اختصاص اللّغة العربيّة وآدابها في أروقة كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان وقاعاتها، وقد انتقلنا معا إلى التعليم العالي، هو أستاذ بعد أن أنهى رسالة الدكتوراة، وأنا طالب بعد أن أنهيت التعليم الثانوي، وترك في جيلي بصمة لا تُنْسَى، بإنسانيّته وببهجته، وابتسامته التي لا تُفارقه، وبعلمه الغزير وبقدرته على تحسيس الطلبة بجمال الشعر.
فبعيدا عن الأكاديميّة الكأداء، حيث الوجوه المصفرّة والمتجهّمة، وبعيدا عن الشدّة والعُنف في التدريس، وبعيدا عن الدروس المملّة لأساتذة اللّغة العربيّة، كان محمّد الغزّي يُمارس طقوسه في الالتذاذ بالأدب، ويُشعُّ بتذوّق الأدب، فيدفعنا إلى مُتَعٍ هو بابُها ومحرابُها، أينما تحرّك أشعَّ بهجةً وابتسامًا، وبسّط المشاكل الكأداء، ثمّ زاملتُه أستاذا في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان، واقتسمنا تدريس الأدب العربيّ القديم والحديث، كان له باب الشعر، وكان لي باب النثر، فلم يتغيّر، ولم يتغيّر منظوري إليه، ثمّ صاحبتُه في تجربة التدريس في سلطنة عُمان، وكان ثالثُنا أستاذي الجليل صلاح الدين بوجاه، فأدركْتُ من وجهه الواحد وجه الصديق، وأبدى لي محبّة لِعُمان وعشقا لتاريخها وشُكرا لأهلها، ما لم أعهده من محمّد الغزّي الذي لا يُثْني على مكان ولا يطيب له في غير مكان واحد، هو عنده كلّ المكان، هي القيروان التي يعشقها، ولا يُبادلها بمكانٍ في الكون، ولم يختر العيش في غيرها، على وفرَة الأماكن التي كانت مبسوطة له داخل تونس وخارجها، وأذكُر أنّه في مرّة من سنوات التسعين الأخيرة سُمّي مستشارا لوزير الثقافة، ولم يكن يحبّ السياسة ولا الخوض فيها، فرأيته في المساء -على عادته اليوميّة- يجول في القيروان العتيقة بصُحبة صلاح الدين بوجاه، فسألته متعجّبا: ألم تُباشر مهامّك وتنتقل إلى العاصمة؟ فأجابني والبسمة تعلو وجهه -على عادته- قبلتُ المهمّة على أن أقوم بها من داخل القيروان. لقد وقع في ظنّنا -نحن تلامذته- أنّه إن نام ليلة خارج القيروان، فإنّه سيختنق. أُعْجب محمّد الغزّي بنزوى لأنّها تشترك والقيروان في عديد الخلال، ولأنّه وجد فيها ما يُلهمه في الكتابة، فلم يفتقد القيروان كثيرا، وكان -رحمه اللّه- كلّما التقيته، يُحادثني عن عُمان وعن العمانيين، عن صُحبته لمحمّد الحارثي وسيف الرحبي، عن طيبة أهل البلاد، عن وفرة الحكايات، عن التاريخ الثريّ، مردّدا عبارة واحدة «قدّاش تِتْحَبّ اك البلاد».
محمّد الغزّي الإنسان، محمّد الغزّي الأستاذ، محمّد الغزّي الشاعر الذي اكتشف أنّه الشاعر الطفل، فوجد في الكتابة إلى الأطفال هواه، تبكيك القيروان بدموعها الثقال، وأنت سليل فُرسان الأدب، ووريثُ أجدادٍ أدركوا المعنى وغاصوا فيه، ولم تُعْجزهم اللّغة إذ دانت لهم، لعلّ روحك اشتاقت لابن رشيق وللحُصري ولمحمّد الحليوي وللشاذلي عطاء الله ولمحمد مزهود ولصلاح الدين بوجاه، فلم تردّ داعيك إليهم، ولم تقل له اليوم «إِنْ يَجِيءْ قَبْلَ صِيَاحِ الدِّيكِ مَوْتِي/ وَيُفَتِّحْ بَابَ بَيْتِي/ سَأُنَادِيهِ تَمَهَّلْ سَيِّدِي/ فَعَلَى الأَرْضِ خُمُورٌ لَمْ أَذُقْ أَطْيَبَهَا/ وَذُنُوبٌ جَمّة لَمْ أَقْتَرِفْ أَجْمَلَهَا/ فَاذْهَبِ اليَوْمَ وَدَعْنِي لِغَدِ»، لعلّك أردتَ تجربةً أخرى قبل أن تملّ من هذا الوجود، ولم أعلمك ملولا. محمّد الغزّي من الشعراء الكِبار الذين غاصوا في تجربةٍ صُوفيّة، حيث الإشارة أقوى من العبارة، كان يعيش في عالمٍ أحبّه، وأدرك معانيه، ولم يبتئس أنّ وجوده عارض بل تفاعل مع الوجود ومع الغياب، وامتلأ قلبه بالعشق، كان عاشقًا للمكان، محبًّا لأرضه وأرض أسلافه وافرة الدلالة، ينتسبُ إلى مفاخرها، إلى أروقتها، إلى جُدرانها، إلى جوامعها، إلى ما تنبسُ به كلّ صباح ومساء من جليل المعاني، القيروان كانت معشوقةً مُلْهمة، كانت بحرا يتغزّل به الغُزّي في كلّ قولٍ وفي كلّ حركة، يقول فيها: « قَبْلَ أَنْ تَبْلُعَ القَيْرَوَانْ/ سَوْفَ تَسْأَلُ سَابِلَةَ اللّيْلِ عَنْ بَابِهَا/ وَسَتَذْرِفُ أَعْوَامَكَ البَاقِياتِ عَلَى دَرْبِهَا/ وَسَتَعْلَمُ مِنْ بَعْدُ أنْ تَهْرَمَ الرُّوحُ/ أَنَّكَ لَنْ تَسْتَدِلّ إلَيْهَا السَّبِيل». كان عاشقا لكلّ الموجودات، مستلذّا بجوهر الحياة، عارفا بالبدايات والنهايات. محمّد الغزّي تنعاك القيروان التي فقدت رجالها تباعا، وأقفرت من المعنى بموتهم، سلّمناك للثريّا، لترفرف روحك فوق المكان، ولِتصْحَب من أحببتَ من الغرباء، ألم تقل يوما، كلّ من أحببتهم غادروا، فالتحقْ بهم، وبُحْ لهم بما فعلت غُربتُك في الحياة الدنيا. لقد نعاك الناعي في مدينة القيروان بالنصّ الذي نسمعه كلّ يوم، والذي عبّرتَ عنه يوما بأنّه شكل من أشكال حضور التراث، فالناعي في مدينة القيروان، يطوف كلّ صباح بأرجاء المدينة مكرّرا النصّ نفسه، مبدّلا الاسم فحسب، ليُعلن على رؤوس الأشهاد من انتقل إلى جوار ربّه، مستهلاّ قوله: «سبحان من لا ينقضي دوامه/ سبحان من هذه أحكامه/ سبحان من عنده مفاتح الغيب وهو علاَّمه/ يا ذوي العقول والألباب والفضل والآداب وخير أمة أنزل على نبيّها الكتاب/ من أراد منكم الأجر والثواب فليحضر الصلاة على محمّد الغزّي بن المنَعَّم المرحوم الهادي الغزّي/ يُصَلَّي عليه عند صلاة العصر/ الموت سبيل لا بدّ منه، سبحان الحيّ الدائم الباقي بعد فناء خلقه»، لقد أشرتَ إلى القيروان التي تضجُّ بتراثها، فقلتَ يوما: «في مدينة القيروان التي هي مدينة تراثيّة خارجة من كُتب التاريخ، بأسواقها العتيقة، بهندستها، بجوامعها المائة، بمعمارها.
إنّها مدينة صغيرة فيها مائة جامع. ثمّ إنّه وجد في القيروان في القرن الثاني إمام يُسمّى سحنون نشر المذهب المالكي في كلّ المغرب العربيّ. كان هذا الرجل قد أعطى نصّا للنعاة، حتّى إذا مات إنسان يقوم هذا الناعي بجولةٍ في المدينة ويُلقي هذا النصّ. هذا النصّ منذ القرن الثاني إلى هذه اللحظة ما زال النعاة يردّدونه عندنا بنفس الطريقة وبنفس اللهجة التي كان يُردّد بها قبل ألف ومائتي سنة»، وها قد نُعِيت بالنصّ ذاته، وقد نقلناك إلى العالم الآخر بالطريقة التي تعشقها، وها نحن نعمل على وصيّتك التي تركتها لنا: «ابتهج بالحياة/ ولا تحتفلْ بوصيّتنا الباطلة/ نحن نُؤْنا بأعباء حكمتنا/ وأضعنا صواب ضلالتنا/ ولم نستدلَّ السبيل/ فلا تَقْفُ خُطْوَتَنا/ وتشبّثْ بِغَفْلَتِك العاقة». تتلقّاك السماء بهجةً عشِقَةً، وقد عُدت إلى طبْعِك وأصل جوهرك، فارقتَ عالم الزيف والمادّة وعُدْتَ رُوحا كما أردتَ دوما، يتلقاك من بهجة السماء خلاّنُك، ورفاق دربك، يتلقّاك من أسعدوا حياة دنياك لتكملوا حياة الخلود في جنّة الخلد، ترفرف أرواحكم الزكيّة. محمّد الغزّي لم نفقدك، بل ألحقناك بأشباهك وأسرارك، نقلناك إلى تجربة أخرى، إلى عالم ينقطع فيه صوتك عن حياتنا وتبقى هازئا ممّا بقي لنا من حياةٍ.