للقصّة نصيبٌ
«من فضل القصة القصيرة أن تعطيك في وجيز من اللفظ وقليل من الشخصيات وبسيط من الأحداث وفير المعاني، وأن تفتح لك سُبل التدبر والتفكر ويقظة الفكر، ذاك أن ما يفرقها عن شبيهتها، الرواية، أنها قصيرة والثانية طويلة، أنها محددة والثانية فسيحة، ولعل في هذا الأمر بالذات قوة القصة، إذ يعتصر صاحبها الحدث ويتحرك في دائرة تضيق عليه، فليس له من المساحة الورقية ولا الزمنية ما يُطلق حبل الحكاية على غاربه، ومن عادة الحكاء أن يؤثث حكايته، أن يزيد ويتزيد، ولعل هذا ما يجعلني ساعة عقْد المقارنة بين الرواية والقصة القصيرة أن أستحضر البلاغة، وفيها من هذا شَبَه، في صلة الاستعارة بالتشبيه، فالأولى مكثفة، يعطي فيها وجيز اللفظ وفرةَ المعنى، والثانية بينة واضحة تكثر ألفاظها وتقل دلالات دلالاتها». هذا قول صدرت به مقالة كنت قد خصصتها مذ سنوات خلت لمجموعة هدى حمد القصصية «الإشارة برتقالية الآن»، وأعود إليه اليوم بعد أن شهدتُ مدا روائيا غالبا، وسطوةً للروائيين على المشهد العام وتحولا بينا إلى كتابة الرواية وإلى الكتابة عن الرواية وانصرافا عن القصة القصيرة التي تُعَد في أحايين كثيرة اللبنة الأولى للرواية والبذرة الأصلية للروائيين. عددٌ مهم من كُتاب القصة القصيرة في المشهد الأدبي العماني له منزلةٌ حقيقة بالنظر والتدبر، منهم مَن حافظ على خطه في كتابة القصة وتحقق بها واكتفى بها عما سواها، ومنهم من تحول إلى كتابة الرواية وانقطع في الظاهر عن كتابة القصة، ومنهم مَن صمت، ومنهم من راوح بين هذا وذاك. وعلى ذلك، فقد ارتأيتُ أن أنصرف إلى إثارة المنصَرَف عنه وأن أتحدث عن ظاهرة تُبين أن تَصَدر الكُتاب العُمانيين للمشهد الروائي ليس طفرة، ولا ظاهرة عابرة، وإنما وراء الأكمة جهد وإنتاج في القصة القصيرة. عُدت بسبب من كتابتي لهذا المقال وتنبهي إلى أنني انجرفتُ مع تيار الرواية إلى كتاب مخطوط كنت قد أعددتُه حول القصة القصيرة في عُمان، ولم أتمكن من نشره، فتذكرتُ ثراء كنتُ قد فصلتُ ملامحه على مدى سنوات من الدراسة والتقصي. والسؤال الذي أصدرُ عنه، لمَ اتخذت الروايةُ مسارا من البروز والاهتمام -دون تقليل من منزلتها- وبقيت القصة القصيرة في الظل؟ هل يعود ذلك إلى ذائقة قرائية عامة سائدة اختارت نصها الروائي الأقرب إليها؟ هل يعود الأمر إلى تخصيص جوائز للرواية لها أثرٌ ومنزلة في توجيه القُراء وصرفهم إلى جنس أدبي بعينه؟ هل يرجع العزوف عن تبريز القصة القصيرة إلى تراجع دور الدوريات والمجلات والملاحق الأدبية المتخصصة؟ أسئلة عديدة يحق لي طرحُها، وأنا المتابع بشكل دقيق للحركة السردية في عُمان، ويحق لي أن أستنتج المنزلة الهامة للقصة القصيرة وتنوع مظاهرها وتفرد مقاربتها، وأن أتساءل عن علة تهميشها نقديا؟ لا ريب أن انصراف الجوائز العربية إلى الاحتفاء بالرواية له دور في تنشيط قراءة الرواية وترْك القصة القصيرة في مصيرها الطبيعي مِن ندرة القراءة دون تحفيز أو حث، ولا ريب أيضا أن تراجع دور الملاحق الأدبية والمجلات له أثرٌ في عدم تغذية الانصراف إلى القصة القصيرة، ولا شك أخيرا أن الوطن العربي يُعاني من نُدرة وجود نقدٍ يقطرُ ولا يُقطَر، يُتْبَعُ ولا يلهث خلف المتحقق ينفخ فيه، يتنبه إلى ملامح الفرادة بعيدا عن حسابات الجوائز والتكريمات. أقول هذا الكلام لأعود إلى آثار في القصة القصيرة في عُمان تركت أثرا يعسر تخطيه أو المرور عليه بسلام، ممن بُرِز في الكتابة القصصية ولاقت قصصه على تنوع ألوانها وأشكالها هوى في أنفس قرائها عبد العزيز الفارسي رحمه الله الذي وافق طبعُه شكل القصة القصيرة، وكان لماحا حكاء ذا مخيلة قصصية، تستمد من الواقع جذورها، وتتخذ لبوسا حسن المظهر، وتبعث في القارئ متعة الحيرة وإطلاق الخيال، وله الفضل أن لعب على شكل في القصة وجيز جدا، وخصص له مجموعة أسماها «مسامير» وهي كذلك دون تفصيل، وله الفضل أن أمْتعني بقصص تأخذك إلى غيْبَة القراءة، منها «لا يفل الحنين إلا الحنين»، و«أخيرا استيقظ الدب». وفي السياق نفسه تألق صاحبه وشريكه في الكتابة القصصية وفي سيرة الحياة سليمان المعمري في كتابة قصص تُشكل أرضية مرجعية هامة، خاصة في مجموعتيه «الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة» و«عبد الفتاح المنغلق لا يُحب التفاصيل»، وقد لاقتا مني رغبة ودراسةً، وإضافة إلى ما يُمكن أن تثيره هاتان المجموعتان من تفصيل قول في أساليب القصص، والارتباط بواقع الحال ومعانقة الكونية، فإن بحثا وجوديا في التحقق غلب عليهما قولا وإجراء، فقد استهل سليمان المعمري قصته «لأنها لم تر الأرض.. فإنه لم ير السماء»، بقول اختصر به تمزق الكاتب في رغبته في التحقق عبر القول، عبر الكتابة، يقول: «أتوق إلى لغة لا تشبه اللغة.. إلى حروف لم تُستَهلك بعدُ، تسمعني صوت تكسر الأشياء الثمينة داخلي.. في هذه اللحظة الذاهبة في الحزن أمسك بالقلم الذي يتثاءب في يدي كعصفور مقصوص الجناحين، أحاول أن أخط به شيئا يخرجني من حالة الإحباط التي تسكنني منذ فشل روايتي الأخيرة..» (الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة» 21). تراكم من تجربة الكتابة القصصية أتعجبُ من الإعراض عنه حتى داخل الجغرافيا الثقافية في عُمان، لتظل هذه التجارب حبيسة عدد من القُراء المهتمين فقط، ناهيك عن تصدير هذه التجارب خارج عُمان، وكأن حمية الفوز والتبريز المستحق للسرد العُماني لم يحمل معه القصة القصيرة، وهي أصلٌ من الأصول، يكفي أن أشير إلى تجربة ثرة وثرية لهدى حمد التي أراها في القصة في منزلة لا تقل عن منزلتها في الرواية، ومحمد اليحيائي الذي تفوق منزلته في كتابة القصة مكانته في الكتابة الروائية، وجوخة الحارثي التي لم تنقطع عن جذورها القصصية إذ تنشر بين الحين والحين قصة تظهر فيها قدرتها على امتلاك ناصية هذا الشكل السردي، ولعل من أواخرها القصة الجميلة «النخالة الوردية»، ومحمود الرحبي، والقائمة تطول. وأما من بقي على عهد القصة لم يفارقه، وله فيه مآثر وأفضال فهو يحيى سلام المنذري، وهو اسم جدير أن يحتل منزلة المؤثرين الأوائل في الكتابة القصصية، والخطاب المزروعي المنسحبُ مؤقتا عن النشر، المغروس فيه عشق الحكاية، يهيم بلغة تخصه ولا تشبه إلا جوهره، يتميز بلغة لها شعريتها وتهويمها ومفارقتها الحدث، «لُغَةٌ تَرْقُبُ ذاتها، تقُدُ منها عالمَها وفضاءَها وأعوانَها وأعمَالها، لغةٌ هي العتادُ الأفقر والأغنى في هذا الزمن الخانق، المُفجِع، وكثيرةٌ هي الأفكارُ المُفْزِعَةُ في هذه القصص التي تحملها لُغَة الخطاب فتنوءُ بحَملها».
كتابة قصصية تبحث عن ذاتها، عن خصائص تميزها، عن فرادة في الأفق مرجوة، عن لغة حديثة تُخرج ما في الكائن، عن كتابة تحوي عمق الألم والأمل، عن مساحة سردية تُعبر عن الذات بجموحها وانكسارها ومختلف حالاتها، وهو القائل في نصه الجميل «لعنة الأمكنة»: «ملعونة هذه الكتابة...هذا المستحيل الذي نتكسر على صخوره، الدوار الذي يجعلنا ندور ولا يدور، الزئبق الذي نقضي العمر في مطاردته، وحين نظن أننا أمسكنا به نكتشف أننا أمسكنا بالسراب..». لغةٌ يستند إليها الخطاب للإفصاح عن عالمه، عن نفسه، عن مجاله، للإفصاح عن وقْعِ الواقع في ذاته، عن رؤيته للوجود والأشياء والأحداث والأحياء وأشياء الأحياء والأموات وأنصاف الأموات. تجاربٌ عديدة تتجاوب ولا تتشابه، تتجاوبُ في البحث عن سبيل للحكاية، وتختلف في طبيعة اللغة وجنس الهم الذي يحمله الكاتب. تجارب تستحق أن أخصص لها قسما من هذا العمود.