كلام فنون: بشأن التأريخ للموسيقى العُمانية «4».. الآلات الوترية العودية
في المقال السابق ذكرت أبيات في النشيد والموشح للشاعر محمد بن عبدالله المعولي وهو من شعراء دولة اليعاربة في القرن السابع عشر الميلادي، ونبهت في ذلك المقال إلى أهمية النشيد كقالب شعري وغنائي في التراث الغنائي العماني لما يحمله من إرث أدبي وشعري قديم، وكان هذا الفن يؤدى في العادة في المجالس العمانية التقليدية من غير مصاحبة آلات موسيقية ولا يزال كذلك لأسباب فقهية معروفة.
في هذا المقال وربما عدد من المقالات القادمة ستكون مخصصة للآلات الوترية العودية، وهذه في الواقع متابعة مستجدة، حيث كتبت من قبل عن آلة العود في هذا العمود الأسبوعي المتواضع. وفي هذا السياق التعريفي والتاريخي عن دور ومكانة هذه الآلات الوترية العودية قد استعرض بعض الآلات الأخرى ذات الصلة بالأداء الفني في الموسيقى العُمانية.
والآلات الوترية العودية لا تصنع في عُمان حسب معلوماتي ولم تنشأ صناعتها في بلادنا إلا في وقت قريب رغم قِدم الاستعمال، وكانت تستورد إما من اليمن كما الحال مع القمبوس أو من العراق والشام ومصر كالعود المعروف لنا في الوقت الحاضر.
وبشكل عام الآلات الموسيقية أنواع عديدة وطرق صناعتها وأساليب أدائها مختلفة وهي لذلك منجز إبداعي تضافرت فيه مهارات الصناع وعبقريات العازفين وتطلعات علماء الموسيقى ونظرياتهم.
ولآلة العود (نسبة إلى المادة التي يصنع منها) أسماء عديدة عند مختلف الشعوب في هذه المعمورة، ولكن جميعها مهما اختلفت أسماؤها تعتمد على مبدأ أساسي في طريقة استنباط الدرجات النغمية من خلال قسمة الوتر، وقد كشفت الآثار عن استعمال هذه الآلة الوترية في حضارات العراق والشام ومصر القديمة واليمن بالجزيرة العربية. والعود القديم عند كل هذه الشعوب له صندوق صوتي صغير ومنه نوعان: ذو الرقبة الطويلة وآخر ذو رقبة قصيرة، ويحمل هذان النوعان عددًا من الأوتار تتراوح ما بين واحد إلى أربعة أوتار تنقر بالريشة أو بالأصابع. والعود ذو الرقبة القصيرة من أنواعه عود المِزهَر وهو الأقدم في الجزيرة العربية منذ قبل الإسلام كما سنرى في مقالات قادمة، فيما كان عود منصور زلزل أو العود الكامل هو الأحدث والأكبر حجمًا وصنع في القرن الثامن الميلادي من قبل العازف منصور زلزل وهو الشائع في وقتنا كما وقعت الإشارة.
وفي عام 2006 أثناء التحضير لعقد ملتقى العود الدولي بمناسبة مسقط عاصمة الثقافة العربية وبناء على التصنيف الذي اعتمده مركز عُمان للموسيقى التقليدية بشأن أساليب العزف على آلة العود ودعوة المشاركين بناء عليه، ورد من السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- سؤال إلى وزارة الإعلام ومركز عُمان للموسيقى التقليدية في غاية الأهمية، هو: «هل للجزيرة العربية عودها الخاص؟».
وكان ذلك التصنيف المعروف للمختصين اقترح العمل به الدكتور محمود قطاط وفريق العمل بالمركز معبرا عن الهوية العالمية للملتقى المشار إليه كحدث فريد من نوعه من الناحيتين المعرفية والفنية في العاصمة مسقط. وقد تمكنا في ذلك الملتقى من عرض -ولأول مرة في مسقط- أهم خمس مدارس للعود صناعة وعزفا وتعريفا وتحليلا، وحضر بناء على ذلك كبار العازفين والصناع من العراق، وتركيا، والشام ومصر، وتونس، وأوروبا وأمريكا اللاتينية، وبطبيعة الحال مشاركة أساسية من اليمن الذي كان عودها الطُربي/ القمبوس أيقونة ذلك الملتقى لفرادته وأصالته وتراثه الفني الهائل في اليمن وعُمان والجزيرة العربية حيث كان هذا العود القمبوس حسب التسمية الشائعة عندنا الآلة الأساسية المصاحبة للمطربين العُمانيين والخليج والحجاز حتى مطلع القرن العشرين على الأقل، ولليمنيين أسلوب فريد في العزف عليه.
وهكذا جرت إعادة هذه الآلة العريقة والمعروفة في هذه المنطقة منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام مرة أخرى إلى الواجهة ولو مؤقتًا بعد أن كادت تنقرض. وكان الباحث الفرنسي الدكتور جون لامبير المختص بالموسيقى اليمنية قد أتقن العزف عليها وعمل على إعادة صناعتها في اليمن وله الكثير من الجهود في هذا الشأن، وحسب متابعتي المتواضعة يوجد اليوم بعض الاهتمام بهذه الآلة ويتقنها عدد من العازفين في اليمن.
لم تتغير هذه الآلة كثيرا في الشكل والحجم رغم تغيير مسمياتها عبر القرون، ومن أقدم أسمائها في الجزيرة العربية هو المِزهَر، والطربي، ثم القمبوس الشائع في عُمان وحضرموت والخليج وشرق آسيا في إندونيسيا وماليزيا. وتعرض هذه الآلة في متاحف عديدة كآلة موسيقية عربية جنوبية منها المتحف الوطني العُماني. واسم القمبوس أو القنبوس في اعتقادي أحدث أسمائها حيث استعملها المهاجرون العرب بهذه التسمية في أداء أغانيهم، وبواسطتهم شاع استعمالها عند تلك الشعوب والبلدان ولا تزال تحظى بأهمية هناك ولها غناء باسم قمبوس سونج.
وشهاب أحمد (أو أحمد شهاب) أقدم عازف على عود القمبوس معروف لنا حتى الآن في مدينة مطرح بعُمان، وقد ذكرته بعض المصادر البحرينية المكتوبة وروايات مطربين عُمانيين حصل عليها كاتب هذا المقال كما سنرى في المقالات القادمة. وحسب هذه المصادر فإن هذا الفنان هو واحد من أهم أساتذة فن الصوت والغناء العودي في المنطقة يأتي إليه المطربون ربما للتعلم وحفظ الجديد من هذا الغناء. وكانت المدن الساحلية للجزيرة العربية ابتداء من مسقط وصور وصلالة إلى جانب مدن المكلا وعدن والمخا والحُديدة وغيرها مراكز ثقافية وموسيقية ينتقل بينها المطربون مع ألحانهم وأنماطهم الغنائية عبر السفن التجارية، وفي هذا السياق لعبت آلة القمبوس دورًا أساسيًا في بلورة ثقافة هذه المنطقة الغنائية وصياغة هويتها المشتركة منذ أزمنة قديمة.. وللمقال بقية .
مسلم الكثيري موسيقي وباحث