في تذكّر "رقصة الجراح والموت"
مليءٌ بالحكاياتِ يأتيك بها من كلّ الجهات، لا يتقصّاها ولا يعدو خلفها، وكأنّما خُلقت معه، هو هادئ في غضبه وبهْجته، لا يتحوّل منه إلاّ لونُ المُحيّا، يُذكّرك إن جالسته بالآباء القدامى في وعيه وإدراكه وانفتاحه على الكون، مغرقٌ في التأصّل، منغرسٌ في الحداثة، يُمكن أن ينفر الوجود بمناصبه وهباته وأمواله وأن يظفر بحكاية، كأنّما خُلق ليكتب الرواية، ذاك وجودُه في الكون.
لم يكن علي المعمري كاتبا روائيّا عابرا، بل كان إنسانا جدّا ووجودا يعيش الحكاية في واقعٍ مليء بالحكايات، يخوضُه بكلّ جوارحه وأحاسيسه ويُواجه مصائره بإبداع الرواية. في قراءتي لعلي المعمري بالذات، خاصّة في روايتيه الفارقتين، "همس الجسور" و"بن سولع"، أجتهد في الفصل بين الشخص والشخصيّة، بين الراوي والكاتب، أجد صعوبةً أن أكون ناقدا بنيويّا عازلا النصّ عن صاحبه، وفاصلا الشخصيّة الأساس عن مركزيّة الكاتب الذي أعرفه وأعرف أين يتوجّه ذهنه، وكيف قضّى جانبا معلوما من حياته، وكيف هي صلته بالحكاية/ الحياة، وهل نعيش من الحياة إلاّ حكاية!؟
يمتاز علي المعمري بعينٍ رامقةٍ تقرأ الواقع العامّ، وتنفذ إلى دواخل الشخصيّات/ الأشخاص أو الرموز -على حسب منطلقات القارئ- تُبْدي منها المكتوم والمعلوم، لا ينأى بك بعيدا عن وجوه تعرفها، وعن أحداث ممكنة الوقوع، وعن أحاسيس هي الأقرب منك، تشعر وأنت تُلاحق شخصيّاته أنّك تعيش نفس الفضاء الذي تعيشه شخصيّاته، وأنّك داخل الحكاية، قد تُنكر منه سُبُلا إذ يُغرق في تتبّع الوقائع التاريخيّة، أو يُنهي شخصيّةً، أو يأتي فعلا في الرواية لا يُوافق هواك، ولكنّك تعيش أضداده مثلما تعيش أضدادك في الحياة. تحيا مع الرواية عالمها، وقد تحسد "سريدان الحرسوسي" على حياته المنطلقة، وقد تغضب من حياته السائبة، ولكنّك ملتذّ بالحكاية، تتابع مسارها وتبحث عن منتهاها.
شخصيّاته قريبة لا غربةَ تعتريها، يُمكن للقارئ أن يشعر بها حيّة تعيش معه "بأحشائها وأفعالها وصفاتها"، غير أنّ ذلك لا يعني أنّه غارقٌ في المُطابقة، مُكْثرٌ من الشخصيّات الإحاليّة، فقد يهتدي إلى ابتكار شخصيّة رامزة، يُجمّع فيها المُثل التي يراها، ويحشوها بمواقف ورؤى. "ميثاء العُمانيّة" -على سبيل المثال- عالمٌ من الرموز التي تحتاج قارئا عالما بتفكيك الإناسة، شخصيّةٌ جامعة لخلال وصفاتٍ، بِدعة الكاتب الكبرى، مَخرجٌ وَجَده الروائيّ ليُفتّح دوائر السرد، ليخرج عن مألوف الشخصيّات الأنثويّة التي غرق في لحمها وشحمها وألوانها وأنوائها وخطابها وما تحمله من حكاياتٍ معها، شخصية تُحْدث توازنا في الرواية -شكلا- إذ تقف أمام الشخصيّة المحوريّة (بن سولع)، وتُحدثُ توازنا في القيم، وتُحدث توازنا في تعديل ميزان الأحداث ومزاج الشخصيّات، وفي فتْح آفاق للسرد رحبة، يصفها الراوي، إذ يُفعّلها في الرواية، يقول: "جذّابة أي وربي هذه الميثاء، ولا يمكنني بأيّ حال من الأحوال أن أخسرها. أنيقة وعقلها راجح، ويزن معدنها النادر الكريم كنوزا لم أسمع بها في حياتي. وبها ألفة وعذوبة ما تعوّدتها من أحد في هذه البلاد، وكأنّنا نعرف بعضنا البعض منذ زمن بعيد، حيث لم أعهد قبلا هذا النوع من علاقات الجذب في جنس النساء".
قليلةٌ هي الشخصيّات التي تبقى في ذهني عالقةً، لا تُفارقني، ذكرتُ منها هذه الميثاء التي صنعها علي المعمري فأحسن صُنعها، وأذكر أيضا عددا آخر من الشخصيّات في الروايات العمانيّة التي يفوق أثرها في ذهني أثر الشخصيّات المحوريّة.
عندما كتب علي المعمري رواية "بن سولع" كنت آنذاك في عُمان وتابعتُ الرواية، وقرأتها بلهفِ طالب المعرفة، الراغب في المتعة، ذلك أنّه قادر أن يأخذك في متعة القصص حدّا بعيدا، ثمّ يُلقي بك على صخرة التوثيق والإحالات المرجعيّة المفزعة، سألت آنذاك عن وقائع وعُدت إلى مراجع تؤرّخ لما أحال عليه، ولكن ما جلب انتباهي هو اسم شخصيّة في الرواية بدت لي عند قراءتي للرواية، شخصيّةً ورقيّة من صناعة الراوي، اسمها غريب لم أعهده، وأنا قليل الدراية بالتاريخ الحديث للجزيرة العربيّة، اسمها "شخبوط"، فإذا الشخصيّة من عمق الواقع اسما وفعلا، وإذا إدماجها في كون التخييل مقصودا، وإذا بي أخرج من الرواية إلى تتبّع الشخصيّة في واقع التاريخ.
فتّحت لي الرواية طلب معرفة بتاريخ المكان وبالشخصيّات الفاعلة فيه، فكانت حافزا أن أتبيّن التخييلي المحض من التخييليّ الإحاليّ، وأن أميّز بين أرضيّة مرجعيّة لشخصيّات الرواية وأحداثها، وأرضيّة مُبتَكرة مبتدعةً تكون فيها الشخصيّات والأحداث من تركيب الراوي ولا تحيل بالضرورة إلى خارج معلوم.
كان علي المعمري في رواياته العديدة، قارئا نهما لواقع الأرض التي يعيش عليها، مُدركا تاريخها الفاعل في حاضرها، يتوزّع ذاتا عاقلةً، مُدركةً لقضايا بلاده أوّلا ولقضايا العالم من حوله ثانيا في مجمل رواياته، يكتب بِحُرقة وألم، لا يصبو إلى التعليم أو الإصلاح كما تذهب بعض القراءات النقديّة إلى ذلك، بل كان يطلب متعة القصص التي يجنيها هو أوّلا بأن ينقد ويُبدي مواقفه وآراءه في حكايةٍ، هي حكايته.
فهل تموت الحكاية بموته، ويدخل حيّز النسيان، كيف يُمكن أن نترك الرواية حييّة، وألاّ نقبرها بقبْر جسد صاحبها، هذا الذي انتبهنا إليه بعد موته، فأثرنا أعماله وتتبّعها النقّاد والأكاديميون لتعود بعد ذلك إلى النسيان، موت المبدع هو وقوعه في النسيان، كيف يُمكن ألاّ نجعل الكاتب يرقص رقصته الأخيرة، وأن ندفع عنه ألم الجراح والموت؟
"ورقصت في العراء رقصة بن سولع الجريح والمضرج جسده بالدماء النافرة حينما يُصاب بسهم قاتل في خاصرته من قوس قناص دنيء وحقير. وتقمصتني روح بن سولع وهو يترنّح، ويخرّ صريعا على الأرض، وأخذت أرقص رقصة ألم الجراح والموت".