عُلَبُ الحكاية (1)
هل نضبت عُلَب الحكايات عند الروائيين حتّى يعودوا إلى ذواتهم وسِيَرهم وحكاياتهم يبحثون فيها عن روايةٍ تمتنع فيها البِدَعُ وتثبُتُ فيها السيرةُ أرضيّة حامية من جموح التخييل، مانعة من الدخول في عوالم لا ظلّ لها بشكل مباشر في بناء خطاب السرد، أو أنّ الأدب تنبّه الآن إلى منزلة أدب الذات بكلّ تفريعاته السيريّة واليوميّة والتخييليّة؟
وهل صارت اللّغة التخييليّة منفِّرةً جالبةً للملل ومبينةً عن التقعّر والتكلّف، واضعةً القارئ في اغتراب يُبعده عن التلذُّذ بكون الرواية؟ هل نُعيد الأسئلة القديمة حول ماهيّة الأدب ووظيفته في حياة البشر؟
عادني هذا الموضوع بعد فوز الفرنسيّة بريجيت جيرو Brigitte Giraud بجائزة غونكور -وهي أقدم جائزة أدبية فرنسية- عن عمل روائي ينتسب إلى أدب الذات، وعن عمل بعنوان "العيش سريعا" وهي "رواية" ناتجة عن تجربة ذاتية تمثّلت في تعرّض زوجها إلى حادث مرور مات على إثره، وترك في نفسها أثرا وزّعته على أعمالها الروائيّة، فنقلتها الجائزةُ من منزلة الروائيين غير المقروئين تصنيفا إلى منزلة الروائيين الأوائل الذين يُمثّلون المشهد الأدبيّ الفرنسيّ، ومنه المشهد الأدبيّ الكونيّ. ما كتبته بريجيت جيرو هو حكايات قتلتها هي قبل أن يقتلها القارئ، ولا يقع في ظنّي أنّها ستشكّل حلقة هامّة في السرد الروائيّ الفرنسي والكونيّ، لا لأنّها كتبت روايةً سِيَريّة، ولا لأنّها كتبت الرواية البسيطة لغويّا وتخييليّا، ولا لأنّها اتّخذت مسارا من ألم ناتج عن حادثٍ ماضٍ تكتب فيه، بل لأنّها حصرت آفاق التلقّي، وأصرّت على ارتباط ما تكتب بواقعةٍ ما، أرادت أن تبوح بآلامها وآثارها في نفسها، ممّا دفع أحد الصحفيين إلى طرح السؤال التالي بتتالي تصريحات الروائيّة أنّها لا تفعل شيئا بكتابتها سوى التعبير عن ألمها من جرّاء هذه الفاجعة التي تعرّض لها زوجها، وكان محور السؤال: هل تعافيتِ الآن؟
غضبُ الطاهر بن جلون من منح الجائزة إلى بريجيت جيرو لا يُدرَكُ بالضرورة على أنّه وقوف ضدّ مقدَّس النسويّة ونكران فوز النساء، وإنّما في اعتقادي الأمر راجعٌ إلى الضعف الفنّي للرواية وتراجع مساحة التخييل الروائيّ، وقد كانت له الجرأة أن يبين عدم اتّفاق لجنة التحكيم، وأن يُظهر موقفه من الرواية بأنّها كتابٌ صغير رامزٌ إلى محدوديّة الرواية فنيّا، معليا عليها العمل المُنافس وهو رواية "ساحر الكرملين" لجوليانو دي أمبولي.
والأمر يختلف إلى حدّ مع الكاتبة الفرنسية أيضا أني أرنو الفائزة بجائزة نوبل، ذلك أنّ آني أرنو تدخل عالم التخييل من خلال بسط قضايا لها مرجعيّة ثيميّة في الواقع، تُلبسها كائنات وتُسند لها أحداثا، وتصنع فضاءات تخييليّة بمرتبطة بالسيَر ولا تحصرُ رؤيتها الروائيّة في فعلٍ حادثٍ عارض وإنّما في موقف من قضايا إنسانيّة تُعبّر عنها بواسطة الحكاية.
السؤال الأساسيّ في كلّ هذا الجدل هل تحقّقت لذّة الرواية، ذاك السحر الذي لا نجد له علّة ولا سببا، وقد نُوجد له أسبابا وعللا، كما فعل رئيس لجنة التحكيم الخاصّة بجائزة الغونكور، المنتصر لبريجيت جيرو إذ ذهب إلى أنّ "بريجيــت جيــرو تناقـش، بكثيـر مـن البسـاطة والمصداقيـة، َإشـكالية القـدر"؟ فكم من رواية ناقشت إشكاليّة القدر وبأسلوبٍ مُرغّب، وجاذب؟
ليس كلّ ارتباطٍ بالذات يُمكن أن يُقيم كونا روائيّا، وهو مسلك إن شاع هزُلَت الرواية وضاقت آفاقها ومعالمها، أدب الذات بالشكل التقييدي الذي عبّرت عنه بريجيت جيرو في عدد من مواقفها قاتل، وما أُشِيد به من قُدرة الروائيّة على تجنّب الأساليب البلاغيّة والتصويريّة واعتماد اللّغة اليوميّة البسيطة السطحيّة هو أمرٌ يُخْرج الكتابة من حيّز الأدب، ويجعلها مركبا يسيرا خالي الوفاض.
هل يدخل هذا النوع الذي صار دارجا وشائعا من الكتابة الروائيّة في ما نعته ميلان كونديرا بالأدب الخارج عن تاريخ الرواية، الخاوي، الأجوف المحدود الصلاحيّة، الزائل على مرّ الزمان، في قوله إنّ عبارة "نهاية التاريخ" "تُكدّرني إن طُبِّقت على الفنّ، فهذه النهاية، لا يسعني إلاّ أن أتخيّلها بوضوح لأنّ القسم الأعظم من الإنتاج الروائيّ اليوم يُنتج بمعزل عن تاريخ الرواية: تُرْوى الاعترافات والتحقيقات وتصفية الحسابات والسير الذاتية وإنشاءات الأسرار والوشايات والدروس السياسيّة واحتضارات الزوج والأب والأم، والولادات، روايات لا تنتهي حتّى نهاية الزمان دون أن تقول شيئا جديدا، وليس لها أيّ طموح جمالي، ولا تُحدث أيّ تبديل في فهمنا للإنسان ولا في الشكل الروائيّ، وتتشابه فيما بينها، ويُمكن أن تُستَهلك كاملة في الصباح وتُلقى كاملة في المساء" (الوصايا المغدورة 21).
فهل انعزل الأدب يوما عن ذاته الكاتبة عبر تاريخه الطويل، لنتحدّث اليوم عن سيادة أدب الذات؟ ألم يكن الأدب دوما هو تعبيرٌ عن الذات ولكن ليس بلغة اليوميّ الدارج (وهي اللّغة التي يُنظّرون لها الآن)، وليس كذلك بلغة متعالية حوشيّة نابية، وإنّما بلغة تصويريّة تخييليّة. لقد بلغ بنا الأمر أن رأينا بعضا من النقّاد الفرنسيين ينتقدون استعمال الأوجه البلاغيّة في الكتابة الأدبيّة، ويُمجّدون الكتابة المتخلّصة من لغة الخيال والإيحاء، انتصارا لخطّ آني أرنو في الكتابة المُسطّحة!
لقد كانت كتابةُ الذات في علاقتها بالوجود هي محور الفنّ عموما والأدب تخصيصا دوما، فالإنسان الكاتب يعمل على إخراج ما به أو على تقديم تصوّره للكون من خلال الكتابة، هي كتابةٌ إنيّة، ذاتيّة حتّى وإن أغرقت وجنّحت في التخييل، غير أنّها لم تكن بالضرورة كتابة مباشرة، ماذا يبقى من الأدب إن دخلنا في اللّغة المباشرة، اللّغة المُسطّحة أو البيضاء، لغة الأدب -إلزاما- هي لغة إيحاء ودفع إلى إعمال الخيال، أو أنّنا مضطرّون إلى تغيير مفهوم الأدب وأثره.
هل أنّ لجان الجوائز بصدد صناعة ذائقة أدبيّة جديدة، وترويج لنمط من الكتابة مقصود؟ هل كتابةُ الذات بالشكل البسيط يُمكن أن تكون خطابا حكائيّا لجيل جديد؟ وهل أنّ عُلَب الحكايات المولِّدة من الواقع حيلا وصورا لآفاق لا حدّ لها قد ضاقت بها السبلُ لتنتهي حسيرة حزينة تتبع السؤال الإنساني الأقدم عن القدر وآثاره؟ هل تنتهي الحكاية في عُلبة واحدة هي السيرةُ السطحيّة البسيطة لإنسان تزوّج أو مات أو وُلد أو نزل عليه جدارٌ فهدّ أركانه؟