سبيل الرواية العربية: الخلل التأصيلي
أن تتحوّل الرواية إلى معطى حياتيّ أو سند في العلوم الإنسانيّة أو مصدر للفنون والآداب، أن تخرج الرواية من عالم الورق إلى عالم البشر، أن تصير شخصيّاتها أمثلة وصورا مرجعيّة، تكتسب مرجعيّتها البَعديّة وليست القبليّة، هو ما يجعلها حييّة نَضرة، فاعلة، وهو ما لم يحصل في الرواية العربيّة التي ظلّت تُراوح مكانها في أغلب التجارب، فما علّةُ ذلك، والحال أنّ نشاطا روائيّا مشهودا في العالم العربيّ وأعمالا روائيّة لاقت رواجا ونجاحا على المستويين العربيّ والعالمي؟
أعتقد أنّ مسار الرواية العربيّة اتّخذ سبيلا خاطئا بتبريز نجيب محفوظ وجعْله السلطة الأبويّة الوحيدة للرواية العربيّة، بالرغم من أنّ رواياته لم تتحوّل فعلا إلى أعمال عالميّة لها عميق الأثر في الآداب الكونيّة، وإنّما عالميّتها انحصرت في المقروء العامّي والعامّ لآداب الشعوب الأخرى، ولم تتمكّن من الإبهار والإدهاش وأن تتوزّع شخصيّاتها وأحداثها خارج عالم الورق. ما حقّقه نجيب محفوظ من عالميّة لا يدخل ضمن مجال الإحالة البعديّة، أي أن تؤسّس الرواية مرجعا تهتدي به عوالم غير كتابيّة، وإنما هو داخل في الاستعمال الداخلي على مستوى المرجعيّة البعديّة، ولا تخرج رواياته في القراءة الكونيّة عن عالم الورق، فلم تخرج بذلك على أن تكون رواية جميلة يقرأها الروسي والصينيّ والأوروبي فيُعجَب بها، ولم تقدر على أن تتحوّل إلى مصدر مؤثّر مُلهم للروائيين وللأدباء والفنّانين عموما، كما كانت ألف ليلة وليلة، وكما تحدثنا في المقال السابق عن أثر رواية دون كيشوت، الروايات الصانعة لعوالم قليلة في الوجود، وعالم نجيب محفوظ واحد قائم على اجترار قصص الواقع، الشخصيّات المألوفة التي يعْهدها العربي ويتعايش معها.
تؤسّس روايات نجيب محفوظ لنمط من قراءة الكسل، القراءة البسيطة التي يهنأ بها القارئ العادي، يجد فيها نفسه وأناسا يقتربون منه، عالم الرواية يشبه واقع القارئ الذهنيّ أو العيني، يغيب الإدهاش في أغلب أعمال نجيب محفوظ، بالرغم من حضور القدرة على القصص، إذ إنّه حافظ على وتيرة في السرد واحدة، عالمٌ من الأحداث والشخصيّات الممتلئة بآثار محاكاة الواقع.
هنالك أساس في تاريخ الرواية العربيّة، لم يُهتمّ به كثيرا من حيث هو مظهر مختلف، وهو عبد الرحمن منيف، الذي مثّل ظاهرة متوازية مع نجيب محفوظ، يسيران في خطّين متقابليْن. منيف يُمكن أن يُمثّل المرتكَز المرجعيّ الأهمّ، تكثُر خوارقه السرديّة، يرصد الواقع ولكن بشخصيّات أفكار، بأحداث تقرأ الواقع ولا تُحاكيه، في «شرق المتوسّط» يختلف عنه في «الأشجار واغتيال مرزوق»، هو يتلوّن ويتحرّر في كلّ كتابة جديدة، يبحث من الحكاية عن وجود، وليس فقط عن متعة قصص.
عندما كتب منيف موسوعته الروائيّة المعجزة «مدن الملح» أسّس للملحمة الروائيّة في الأدب العربيّ، في رؤية جيوسياسيّة للواقع، تفكّكه، وتُعيد تركيبه للحصول على ما سيحدث بناء على ما حدث، ركّب قطع الواقع فبانت له حرب الخليج التي كتب عناصرها قبل وقوعها، في حكاية ممتعة.
منصور عبد السلام، إلياس نخلة، رجب إسماعيل، متعب الهذال، هي شخصيّات منسوجة من واقع غريب عجيب، لا تؤسّس لنمطيّة بل لهزيمة، فـ«متعب الهذال» -مثلا- في خماسية منيف ليس شخصيّة مرجعيّة، بل هو قيمةٌ وفكرةٌ، هو حمّال عبء تاريخيّ، وعبءٌ مستقبليّ، اختفاؤه مؤذن ببدايات بطل مهزوم مأزوم كواقعه الناشئ بنشأة النفط في الخليج، الذي حوّل مسار التاريخ والرهانات، وبنى مستقبلا واحدا، يقول إلياس خوري واصفا عالم الشخصيّة «اختفى متعب، وصارت ظهوراته تأتي وسط خراب الروح، الكل كان في انتظار عودته، لكنه لن يعود، صار أشبه بصوت نبوي يعبر فوق السيول، ويمتد على مساحة الصحراء، كأنّه ضمير أخير أو صرخة استغاثة لا تغيث منتظريها. في أحد ظهوراته سوف يصرخ: «لا تخافوا.. لا تخافوا من اللي تشوفوه ها الحين.. الخوف من الجايات».
يختفي متعب لكنه يبقى كطيف يظلل الحكاية بأسرها، يقال إنه ظهر مع هاجم وخاله اللذين يريدان الثأر لموت مزيان، ويروى أنه ظهر خلال إضراب العمال، ثم يتقمص في فواز الهذال وشقيقه مقبل الذي قال الناس: «إنّهم رأوهما يطيران فوق الرؤوس»، كلّ هذه الحكايات تأتي لتصبّ في حكاية الاختفاء الأسطورية التي جعلت من متعب طيفا يُحوّم فوق خرائب الروح».
منيف يُمكن أن يُشكّل المنطلَق الثاني للرواية العربيّة الذي قد يتعدّى الدور الذي أدّاه نجيب محفوظ من دخول في شخصيّات نمطيّة وأحداث متعاودة، متكرّرة، تربط الرواية بالنسخ لا بتوليد الشخصيّات الممكنة التي يُمكن أن تكون نبوءة الروائيّ في إدراكه للواقع وتفاعله معه، بمعنى أوضح الفارق بين الروائيين، أنّ نجيب محفوظ ومَنْ دخل في خطّه التأليفيّ يصوغ شخصيّاته الإشكالية التجاء إلى الواقع، هو يصوغ شخصيّات تشبه شخصيّات الواقع، في حين أنّ عبدالرحمن منيف يصوغ شخصيّاته من ربطه للأسباب بالنتائج، فشخصيّاته على قدرتها الإحاليّة لا تُنسَخ من الواقع بل تكون النتاج الطبيعيّ لأثر الواقع.
وعلى هذا الأساس فإنّ تأثير نجيب محفوظ كان سلبيّا في الرواية العربيّة خاصّة بوجود محفوظيين يسيرون على الطريقة نفسها، ويتّخذون -بسبب من استمالتهم للقارئ البسيط- مواقع هامّة في الرواية، وهم الذين ساهموا بقسط كبير في إفساد الذائقة القرائيّة العربيّة وتعطيل المشاريع الروائيّة المختلفة إلى حدّ كبير. فخذ مثالا روايةُ «فساد الأمكنة» لصبري موسى، وهي روايته اليتيمة، ومن أوّل الأعمال التي تخرج عن الانجذاب في الرواية بين قطبي المدينة والريف، وتبني عالما بدويّا أسطوريّا يحوم حول جبل «الدرهيب»، لم تُتقبَّل التقبّل الحسن، وبقيت في المجال العارف العالم، في حين أنّ مستقبل الرواية العربيّة ماثلٌ في قوّة رواية الأساطير والخوارق وتفعيلها وخلق عوالم تصلها بواقع الحياة.
تحتاج الرواية العربيّة إلى إعادة تأسيس جذريّ، بإعادة الاعتبار إلى النماذج المختلفة عن تصوير الواقع ونسج شخصيّات مماثلة له، والاهتمام بالرواية التي قرأت الواقع ونسجت منه عوالم مؤسّسة، وهو المذهب الذي نحاه منيف تحديدا، كما تحتاج الرواية العربيّة أن تخرج عن أسر التسجيليّة والسيريّة المريضة إلى بناء عوالم تخييليّة تنشدّ إلى الواقع بأسباب، ترى منها الواقع ولا تراها واقعا.