سبيل الرواية - الرواية العمانية: الأفق الوسيع
عطفًا على سابق المقالات في قدرة الرواية العربية على التألق واتخاذ منزلة من حداثة الرواية الكونية، فإنا نصرف هذا المقال للاهتمام بالرواية العمانية لسببين، الأول راجع إلى ثراء المحيط العماني تاريخيا وعَقديا وحضاريا وجغرافيا بالحكايات العالقة بهذا الثراء، ويعود الثاني إلى توفر جيل من الروائيين الذين حققوا أمرين هما متعة القصص والعمل على استثمار هذا الموروث الحضاري والثقافي المخفي عن التاريخ الرسمي في الغالب الأعم، الجلي في المنقول الشفوي الشعبي.
مليءٌ هو الفضاء العماني بالقصص والحكايات، فخلف كل شجرة حكاية، وتحت كل حجرة رواية، في الجبال الشاهقات، في الجبل الأخضر، في السلاسل الجبلية لظفار، تُلفي حصيلة من الروايات الجبلية، التي تصنع أبطالها، وشخصياتها القصصية التي تتحول في المعهود الشعبي إلى حقائق ينقلها اللاحق عن السابق. في تخوم البحار موروث من أقاصيص البحارة، ومن اعتقاداتهم، في صور وصحار ومسقط وصلالة، موروث بحري يروي مخزونا من الأساطير المائية. وفي الصحراء، صحراء الشرقية والوسطى، عوالم أخرى تُولد من البدو نقولا حكائية حاضرة في المروي الشفوي، تعيش مع الناس لحد اليوم في السهول والمدن الواقعة فيها، في نزوى، في بهلا، في الرستاق، تجد خبايا الحارات القديمة، ومآوي الجن في الأفلاج، ومراسم الموتى، ومآثر الأبطال والخونة، وكرامات المشايخ والتصرف في الطبائع بما يُناقض قانون الفيزياء.
عوالم من الحكايات الممكنة، ما زالت تنتظر من يحييها بإدماجها في حركة حدثية روائية تتأسس على التخييل الأدبي وليس النقل الكتابي للشفوي، ذلك أن أعمالا عديدة عالجت هذا الموروث النوعي الأسطوري والاعتقادي الشعبي ولكن لم ترتق لبناء الرواية التي تروي حكايتها باستعمال هذا الموروث الحي، لا بإعادة حكايته.
وعلى ذلك فقد فتحت رواياتٌ عديدة أفق قراءةٍ ممتع ومبهر أحيانا، باستعمال عين ترى هذا الواقع العماني في عمقه النفسي والاجتماعي والتاريخي الحضاري، دون أن تستنسخه أو تحاكيه، وإنما هو داخل في بناء حكائي يتمثل الواقع من خلال حكاية أصل تشد متفرق عناصره وتقيم من الشخصيات ما ينبئ بواقع دون أن يكون هو الواقع في أصله، عالمُ الحكاية مختلف جذريا عن عالم الواقع، هو عالم واقع في ذهن الروائي ومتأسس على قدرة هذا الروائي على إتقان معاجم الشخصيات وأفق نظرها، فالروائي لا ينعكس تمام الانعكاس في روايته وإنما هو مُظهرٌ قدرته على أن يتلبس شخصيات مختلفة عنه جذريا وأن ينطق كما تنطق وأن يرى الوجود بعينيها، وهو في الحقيقة ما لم يتوفر بشكل لافت في الرواية العمانية باستثناء بعض الروايات المعدودة، في أغلب الروايات نلحظ امتداد الذات الكاتبة وهيمنتها على شخصياتها تنطق نيابة عنها ولا تطلق لها حرية المنظور، وهو في نظري الأمر الأعسر في كتابة الرواية، أن يتمكن الروائي من إتقان لغة الشخصيات وتمثيل إدراكها ووعيها بالكون من حولها.
لقد فتحت بدرية الشحي بروايتها المؤسسة "الطواف حيث الجمر" بابا للكتابة الروائية وأفقا للرواية العمانية والخليجية، وهو إنطاق الشخصية الأنثوية بما يُثير مواضيع مكبوتة وأصواتا لم يُظهرها الأدب وهموما مغروسة في عمق المجتمع من سلطة ذكورية غالبة، والأهم من كل ذلك أن بدرية الشحي قدمت رواية قابلة لقراءة المتعة مع التصاق حميمي بواقع المجتمع العماني، فهل تكمن قيمة الرواية في تخير ثيماتها، وفي اقترابها من نبض المجتمع؟ يحق لنا السؤال في هذا الأمر نظرا إلى عودة أدب الذات بقوة على الصعيد الكوني وتبريز السرد الذي يتخذ من الذات مدارا وموضوعا.
الأفق الوسيع الذي حققته -في نظري- بدرية الشحي أنها قدرت في روايتها على أن تمتص بعضا من مشاغل المجتمع وتُقدمه في حكاية قابلة للقراءة، تتفاعل مع واقعها الخاص وتصنع منه حكاية نرى منها المجتمع ما ظهر منه وما بطن، ما يحصل في الواقع العيان وما هو حاصل في الأذهان، وتلك قدرة الرواية أن تتمثل الذات في حضورها الفردي والاجتماعي وأن تمتص خواص ثقافات الشعوب ومختلف موروثها الذي يحمله كل فرد.
الواقعان الذهني والاجتماعي سبيلان مركزيان لقيام الرواية، وهو الأمر الذي فتحته بدرية الشحي بروايتها فأسست -في بسيط رأيي- لجيل من الروائيين ومن الروائيات له القدرة على حكاية المسكوت عنه، وحكاية الواقع من مناظير مختلفة، جيل من الروائيين تلقى هذا الأساس، وفك رموز واقعه وتجاوز المحاذير الثلاثة وتحرر -إلى حد كبير- في إنشاء الحكاية المُرغِبة، جيل تكون من روائيين لهم آفاق واسعة، جيل يقرأ التاريخ ويتفاعل معه، يُدرك أعلامه وشخصيات تاريخه بحق، ويتعقل واقعه في إدراكٍ لمظاهره وتجلياته، والأهم من كل ذلك وجود الإنسان القادر على الحكاية الراغب فيها القادر على بناء أحداثها وهيكلة شخصياتها.
يُمكن أن نذكر منهم أسماء معلومة حققت مشروعا في كتابة الرواية وفي البحث عن أقوم المسالك صيغا ومواضيع، وتجتهد بشكل مستمر في نقل قلق الوجود إلى الحكاية، منهم الراحل علي المعمري الذي شد إليه قسما من القُراء الكُتاب وساهم في تليين الفضاء العماني ليتنقل إلى فضاء روائي تُلتَقَط منه مناظر وآثار وشخصيات ومواقف، وخاصة في روايتيه "همس الجسور" وبن سولع"، جوخة الحارثي وسعيها إلى بناء الحكاية التي تتلذذ بها قبل أن يُبهَر بها قارئها، صانعةُ الحكاية من رماد العدم، بانية وسيع أفق الرواية العمانية، هدى حمد وتحولها من مقام روائي إلى آخر، في تجريب مستمر تتقفى الحكاية، الباحثة عبر الأشكال وتغيير الثيمات عن الرواية المُثلى، زهران القاسمي وتجاربُ في الرواية عديدة تحوي شخصيات نموذجية لا تغترب عن واقعها الذي أنتجها وإن كانت في وجودها مغتربة، وهو الروائي الذي نُفرد تجربته بمقال لاحق، صورة عن ممكن سردي روائي ما زال لم يفض بمكنوناته، يحتاج غواصا أو قناصا يجري منظوره وإدراكه ورؤيته.