سبيل الرواية: الخيبات البينية
هل كتبنا الرواية التي ستحمل مستقبلًا اسم الرواية العربية؟
يعقد كولن ولسن في كتابه «فنّ الرواية» أملا كبيرا في دور الرواية في تغيير الواقع والتأثير في المجتمع وفي الذات.
الرواية ليست محض خطاب أدبي جميل نجد فيه أنفسنا أو ننشد فيه إلى أحداث تجذبنا، إنّها عالم بذاته، فهل يعي الروائي العربي ذلك، وهل يعي الدور الذي حققته الرواية لتخرج من التخييل إلى الواقع، ذلك أنّ الرواية وفق قول كولن ولسون «لم يبلغ عمرها بعد سوى قرنين ونصف القرن، ولكنّها في ذلك الوقت غيّرت من ضمير العالم المتمدّن، إنّنا نقول إنّ دارون وماركس وفرويد غيّروا وجه الثقافة الغربية، ولكنّ تأثير الرواية كان أعظم من تأثير الثلاثة مجتمعين»، فأيّ دور تقوم به الرواية يجعل أثرها في العالم الحديث يفوق دور فرويد عالم النفس ومؤسس التحليل النفسي، ودارون وما أثاره من نظر وجدل حول النشوء والارتقاء، وماركس في النظرية الاقتصادية السياسية وفي الفلسفة المادية الجدلية؟
أسئلة وجب على المثقّف العربي أن يقف عليها الآن بالذات، التقاطا لحالة مهمة في تاريخ الأدب العربي وهو تحقق أعمال روائية واتخاذها منزلة مهمة في المقروئية العالمية والعربية والمحلية، من خلال أسماء تكتب الرواية، يبدو أنّها تعمل على السير ببطء نحو إنجاز أعمال فاعلة في التاريخ، فتعمل على التجريب والبحث عن أقوم الأشكال والمضامين التي يُمكن أن تضمن التألّق والتحقق والفرادة وبلوغ درجة الروائيين الكبار.
كتابة الرواية تختلف جذريّا عن نمط كتابة الشعر وحتى عن نمط كتابة أشكال أدبية سردية وجيزة، هي كتابة قائمة على البحث والإعداد والتأني وليست وليدة الآنية أو التجربة الكتابية الذاتية الخالصة، ذلك أن كتابة الرواية هي مزيج من الذاتية والجمعية، بين القدرة والإدراك، بين امتلاك اللغة أداة وامتلاك العلم بتفاصيل الحياة وحركية التاريخ خلفيّة كتابية.
كاتب الرواية لا يبحث عن لحظة مكاشفة، أو عن بريق لغوي متوهج، وإنما هو بانٍ لحياة، مقيم لعوالم ممكنة، يخيط فيها الشخصيات والأحداث بقدرة خائط ماهر، هو حائك يحوك حيوات، وينبغي على الروائي أن يُدرك قدرته على خلق عوالم باللغة يُمكن أن تتحول إلى مرجعيات في ذاتها، يُمكن أن يُؤسس الورقي لعوالم حقيقية فنية وعلمية.
في التجارب الروائية الغربية هنالك تبريز لأعمال تتحول إلى مرجعيات كونية، أمّا نحن في عالمنا العربي فإنّنا نضع طبقات في تصنيف الروايات المراجع، الطبقة العليا تحوي روائيين «مبهرين» أعمالهم «معجزات»، لا تُقاوَم، وهو أمرٌ لا يخص مجال الرواية فحسب، بل هو ظاهرة حضارية عامة، يُمكن أن نتبين تجلياتها في عالم الرياضة اليوم بمناسبة كأس العالم، فكأنّ هنالك فرقًا لا تُقاوَم، ويتحول تحقيق نتيجة التعادل مكسبا جديرا بالفخر، أما الانتصار فهو معجزة تاريخية والهزيمة هي الوضع الطبيعي.
الأمر نفسه حاصل في الرواية، فهنالك نماذج عليا من الأدب الفرنسي والإنجليزي واللاتيني تتصدر المشهد الروائي، وهنالك طبقة ثانية من الروائيين العرب، نجيب محفوظ، عبدالرحمن منيف وغيرهما، وهنالك طبقة ثالثة هي أرضية التنازع والمنافسة.
وفي التجارب الغربية أيضا هنالك قوّة لتثبيت الأعمال الروائية لتتحول مراجع كونية، لا تتوفّر في محيط الرواية العربية، ويُمكن أن نضرب على ذلك مثالًا واحدًا له عميق الأثر في الحضارة الغربية وفي الضمير الكوني.
يتمثل في الرواية التي أصبحت تُشكّل مصدر فِكْر وإلهام جعل الرواية تتعدى أجناسيتها لتدخل عالم الفن التشكيلي وعالم السينما وعوالم من العلم والفلسفة وعلم النفس، هي رواية الأديب الإسباني ميجيل دي ثيربانتس «دون كيشوت»، هذه الشخصيّة التي فارقت الوجود الورقي والتكون باللغة، لتصبح شخصية حيية، اجتماعية، نفسية، فلسفية، مسرحية، سينمائية، فنية، شخصية الكائن الواهم الذي يُحارب طواحين الهواء معتقدًا أنّه يُحارب دفاعا عن العدالة والحب، الكائن الذي يعيش حياةً في ذهنه، وفي واقعه حياة مختلفة، أسست لفكرة، لظاهرة في الوجود البشري أصبح يُنعَت بها كلّ من يفترض أعداءً ويقيم صراعا واهما، استلهمها الرسّام الشهير بابلو بيكاسو، وأضاف إليها منظوره وخَطَّها دون ألوان بالأسود والأبيض، وجسّد تمثله للشخصية الروائية، فرسمها خطوطا، على طريقته، فأصبحت اللوحة الحاملة لاسم الرواية عملًا فنيًا خالدًا مسايرًا لخلود الكتابة.
الرواية نفسه تُتَلقّى سينمائيا ويعمل مخرجون من مختلف بلاد العالم على نقلها حركة وتجسيدا، اتّخذها المخرج البريطاني موريس إليفيي سنة 1923 أرضية لعمل سينمائي، وتناولها جورج ويليام بابست 1933 لتصبح واحدة من كلاسيكيات السينما العالمية، وأخرجها السوفييت عن طريق كل من جورج ويليام بابست وجريجوري كوزنتتيسف سنة 1957، وأخرجها الإسباني بيثنتي وأعطاها عنوانا «دولثينيا» سنة 1962، وأخرجها الكندي آرثر هيلر بعنوان «رجل من لا مانتشا» عام 1972، وتناولها الكثير من المخرجين الذين أعادوا تعقّل الرواية واعتمدوها مصدرا كونيا، هذا إضافة إلى استلهامها في المسرح وفي الأعمال الكرتونية وفي المسلسلات التلفزيونية.
إضافة إلى تمثّل السينما للرواية، هنالك تلقٍ ثانٍ للرواية في مجال الخطوط والألوان والضلال، هو مجال الفن التشكيلي، وهي ظاهرة دالّة على مستوى مهم من تضافر الفنون، لا أن يعيش كل شكل فني في جزيرة منفردة.
ومن بين هذه الوسائط المؤسسات الضامنة لرواج العمل الروائي مثل المؤسسات الرسمية كالجمعيات والجامعات، والمؤسسات الفنية والثقافية، والأهم من كل ذلك وجود حوار ثقافي حقيقي خاص ورسمي. فما هي الروايات العربية الفاعلة التي أثّرت في فنانين عالميين وفي سينما قادرة على ترويج الرواية لنقلها إلى التعبير بالأشكال أو التعبير بالحركة والتجسيد؟ وأي الروايات العربية عبر تاريخها الطويل قد احتلت هذا المركز الفاعل في حياة البشر، إذ تتحول من الورق إلى الحياة رغم قناعتي بأنّ عددا من الروايات العربية يُمثّل عمقًا إنسانيًّا حقيقيًا بتحقيق هذه الكونية؟