حرّاس الكتب
في أوّل سنة لي في الجامعة تخصّص أدب عربيّ التقيت الروائيّ والجامعي الذي أثّر عميق الأثر في حياتي صلاح الدين بوجاه، وكان آنذاك قد أخرج رواية جديدة بعنوان «التاج والخنجر والجسد» أهداني إيّاها، وكُنت ما زلتُ واقعا تحت أثر الانبهار بالقراءة، ألتهم الروايات، وأقضّي الشقّ الأوفر من الليل مُراوحًا بين صُحْبتها، ومحاورة كتب الفلسفة، والسمر مع الموسوعات العربيّة القديمة، فوقعت رواية سي صلاح الدين بوجاه في زمن كنت أعيش فيه مع مؤلّفات الجاحظ من جهة وألبير كامو من جهة ثانية وروايات عبد الرحمن منيف من جهة ثالثة، فلم أجدها قد عشّشت في دماغي وأقضّت مضجعي، وسلبتني وقتي وأثارت فضولي، فقرأتُها على مضض، فتراتٌ يعلو فيها السرد، وأخرى يخبو، قرأتُها لأنّ أستاذي طلب رأيي في ما يكتب وأنا سنة أولى، فأردتُ أن يكون لي رأي، لم أقله له بشكل مباشر، ولكن كتبته في أوّل مقالة نقديّة لي، وجرّحتُ في أسلوبه وسميّت المقال على ما أذكر هدهدة القصص في «التاج والخنجر والجسد»، وخُلاصة الرأي ألاّ هدهدة في الرواية ولا انسيابيّة في قراءتها، وأنّ الرواية عجزت عن أخْذ القارئ إلى عالمها، وبِحكم أنّ المقالة قد نُشرت في صحيفة رسميّة يوميّة، يصطبح بها في ذاك الزمن (السنة الأولى من تسعينيّات القرن العشرين)، أغلب المثقّفين، ويتصفّحونها مع قهوة الصباح، فقد اطّلع عليها أستاذي قبلي، ولمّا لاقاني في ممرّ الكليّة ذاك الصباح ناداني مبتسمًا ابتسامته الطفوليّة المألوفة، وكان صُحبة رفيق عُمره الذي لا ينفصل عنه الشاعر محمد الغزّي، وقال لي العبارة التي لن أنساها: «علّمته الرماية، آه يا محمّد»، فتعجّبتُ قوله إلى أن بلغني أنّ المقال نُشر وأنّ الأستاذ رئيس القسم صلاح الدين بوجاه، قد اطّلع عليه، وهو سعيد جدّا به، وقال إن لم تُعجبه الرواية فقد نجحتُ في تعليمه النقد.
ومنذ ذاك الحين وأنا أعمل على ألاّ أسكت عن القول في الرواية، وفي القصص عمومًا، وأعمل جهدي ألاّ أضلِّل كاتبًا وأمدحه على غير وجه حقّ أراه فيه. هل كان رأيي صائبًا في رواية أستاذنا يومها؟ نعم، كان رأيي صائبًا جدًّا ولكن لا يُلزمُ أحدًا، كان رأي شابّ من حقّه أن يضع أيّ عمل في منزلته المحليّة والعربيّة والكونيّة، ولم تكن تعنيني التجارب التي ينبغي أن نصبر عليها إلى أن تنضج، وكيف تنضج ولم نوجّه لها سهام النقد؟ كُنت دومًا أتساءل عن وظيفة الناقد في عالمنا العربيّ؛ لأنّ وظيفته في العالم الغربيّ واضحة الأداء والملامح، وأتساءل دومًا عن دور الجامعيّ بصورة عامّة، هل الناقد هو ذاك الكائن الذي يقرأ ويُعطينا رأيه في ما قرأ، ثمّ لماذا هو يعطي رأيه، من بوّأه هذه المنزلة؟ من قديم الزمان ولكلّ صناعة قَوَمَة عليها، هؤلاء القَوَمة يُعيّرون الصناعة ويضعونها منزلتها من الجودة والإتقان والصفاء، ففي سوق الذهب نجد شيخ الصناعة، تُحمَل إليه القطعة فيُعيِّرُها ويُعطيها صفتها، وفي سوق القمّاشين شيخ للصناعيين يقوم بهذا الدور، وهي الوظيفة التي صارت تُسمّى في يومنا هذا بضمان الجودة، أو بعلامة الجودة، فمن الذي يُعطي علامة الجودة في عالم الأدب؟ هل هنالك من يحمي هذه الصناعة من السقوط في الابتذال وتقديم مادّة يغلب فيها الغشّ، وعرض النحاس على أنّه ذهب، هل لدينا شيخ في صناعتنا؟ الجواب الحتميّ: لا. فلا دُور النشر تُوجِد من يحمي ذائقة القارئ مقاومةً للإسفاف والرداءة، ولا جمهور النُقّاد لهم من الأهليّة ما يُمكّنهم من إبداء الرأي أوّلا ومن احترامه والعمل به ثانيا.
شيخُ النقّاد صاحبُ المعيار، يجب أن يكون قارئًا مدمنًا للقراءة، مطّلعًا على ما يُوجد في عالم الأدب، عارفًا بمناهجه وأدوات نقده مُتقن العمل بها، حسن التذوّق لا فاسد الذائقة، عادلا، بعيدا عن «الرشى وعن الحكم بالهوى»، تعملُ برأيه الدوائر القائمة على النشر، ويأخذ جمهور القرّاء بما يضمنه لهم من حسن القراءة إذ حكم على جودة عمل ما، وهو ما لا يتوفّر في عالمنا العربي، في ظلّ الفوضى الأدبيّة القائمة، ولذلك فإنّ الناقد الحقّ في هذا الكون، هو جمهور القرّاء، مع اعتبار أنّ أعمالًا جيّدةً وتاريخيّةً يُمكن أن تمرّ دون أن يلتفت إليها أحد، وأنّ أعمالًا فاسدةً يُمكن أن تسود وفق غلبة جمهور قارئ معيّن «مملوءة بطونهم بالأهواء».
في زماننا -كما في كلّ زمان- نحن في حاجة إلى رأيٍ في الكتاب، هو الرأي الذي يستند إلى خبرة وعلم ومعرفة، نحتاج إلى حركة تعييريّة، يضع القُرّاء فيها ثقتهم، ويتبصّرون برؤيتها، في مملكة الكتاب نحتاج إلى خُرّاس لهدْي السبيل فقط، يحمون القارئ ويحمون الكاتب ويحمون الكتاب، أمّا في حالتنا العربيّة فنحن تاركوها إلى التاريخ، إلى الزمن، يستصفي السمين ويبيد الغثّ. ونترك فعل القراءة فعلًا سائبًا على عواهنه، ومن هنا يتأتّى وَهَن النقد العربيّ، فلا الجامعات العربيّة تؤدّي دورًا نقديًّا وتُقدّم نماذج اختباريّة تطبيقيّة للطلبة، ولا الحركة الثقافيّة مستندة إلى فكر نقديّ قويم، وكلّها سائرة على البركة.