بندقية تشيخوف

20 أغسطس 2024
20 أغسطس 2024

منطقُ القصة، ونهج الدخول في القصص، والأساليب التي يتوخاها كاتب السرد، مسائلُ كثُر فيها الجدل والنقاشُ، وخاضَ فيها الأدباءُ والدارسون، ولكن الطريقة الأمثل للحكاية تبقى دومًا بين يدي كاتب، لا يُدرك بالضرورة، «منطق الحكاية» ولا «مواقع الراوي» ولا «صيَغ السرد» ولا كل المفاهيم والمُصطلحات التي يُجريها النُقَاد ومدرسو الأدب، الفارق الرئيس بين الروائي الحق وناقد السرد الحق، أن الأول لا يسير على نهجٍ، ولا تتحكم في ذهنه ولا في عقله رؤى ونظريات، طليقٌ من الأسر، يعرف ولا يستكين لمعرفته، يعلم ولا يطمئن لمعرفته، وأن الثاني أسير المعرفة، رهين آبائه المنظرين، خاضِعٌ لهم وإن ناقشهم ونقدهم، يتحكم فيه دوما منطقٌ ما، ومعقوليةٌ يتحدد بها.

وعلى ذلك فإن ما يقوله النُقاد لا يجد صدى -في أغلب الأحيان- لدى المبدعين، بل إن النُقَاد لا يخطون نهج كتابة الأدب، وإنما الأدباء هم الأقدرُ والأصلحُ على فتح طُرُق في الكتابة جديدة، لا تُلاقي قبولًا نقديًا في البداية، ثم تتحول هذه الكتابةُ الجديدة المرفوضة في البدء إلى نهجٍ يُقتَدى ويُحتَذى. لقد أردتُ أن تكون المُقَارنةُ بين ما يأتيه المبدع الساردُ -تحديدًا- وما يأتيه ناقد السَرد مدخلاً للخوضِ في الكتابة القصصية أو الكتابة السردية، جوابًا على سؤالٍ بسيطٍ وساذَج ولكن جوابه مُعجِزُ ومُعسِرٌ، وهو ما هي الطريقةُ المُثلى لكتابة روايةٍ؟ ظني ويقيني ألاَ وجود لطريقةٍ مُثلى بها تُكتبُ الرِواية أو تُكتَب القصة، وإنما هنالك كاتبٌ قادرٌ على أن يُوجِد لكل حكايةٍ نهجا وسبيلا وواسطةً بها يقصُ قصَته ويعتقد أنه يأسَر القارئ، وأن مشروعه القصصي أو الروائي نافذٌ إلى القلوب آخذٌ الأهواء والعقول.

نهجُ الكاتبُ وطريقته التي يستنُها ويبتكرها ويرى أنها الأوفقُ والأجدرُ هي التي تتحولُ إلى طريقةٍ مرغوبةٍ في الكتابة السردية، هي التي تتحوَل إلى منوالٍ يدعو النُقَاد إلى اتباعه وانتهاجه، ويتهمون من يخرج عنه بأنه لم يُراعِ أصول القصص وفنون السرد. ما هي فنون السرد في نهاية المطاف؟ هي طرائقُ استعملها الكُتاب القُصَاصُ وتحولت بفِعلِ العادة والتعوُد إلى أُصُول ونماذج تُقتَدَى ويُهتَدى بها. مَن الذي قال أنَ كل جُزئية، وكل إشارة يستعملها الساردُ يجب أن تُستَخدَم في سياق السَرد؟ هل لزامٌ على القاصِ ألا يُجري الفوضى، أن يُمنطق كل شاردة وواردة في كتابته؟ لقد تحدث النُقاد عن مبدئ في السرد تَسَمى ببندُقية تشيخوف، وقِوامُ هذا المبدأ السَردي ألا يذكر الكاتب شيئًا في قصصه دون توظيف واستعمال، بمعنى أنك إن «ذكرت في الفصل الأول أن هناك بندقيةً معلقةً على الحائط، حقًا يجب أن تستعمل البندقية إمَا في الفصل الثاني أو الثالث.

يجب ألاَ تبقى معلقةً هناك إذا لم يجر إطلاقها»، وهذا أدى إلى الدعوة إلى إزالة كل مالا يُحتاجُ إليه في القصة، وكل ما لا يُستَخدم أو يُوظَف. ألا يحقُ لي أن أذكر البندقية أو المُسدس المعلق على الجدار دون أن أستعمله، لو كنت تشيخوف أو مناظِرًا له ومكافِئًا فإن ذلك يجوز.

تستمِدُ هذه «القوانين» القصصية قوة أثرها وتحولها إلى مبادئ في النقد، من منزلة الكاتب وقوة أثره، حتى وإن كانت بسيطة أو سطحية. دائما كنتُ أتساءل، وأنا أدرِس المناهج الواقعية -على سبيل المثال- إلى طلبة النقد، ما هو الفارق الدقيق بين الواقعية الرمزية والواقعية الاشتراكية والواقعية الاجتماعية والواقعية الصرفة؟ هل هنالك معيارُ ذهبٍ يدفعني إلى التصنيف والتعيير، ولمَ علي أن أعيِر وأصنِف؟ أليست كل حكاية في وجه من وجوهها هي تعبير عن واقع ذهني أو نفسي أو اجتماعي؟ لقد انتبهنا في أخَرةٍ من الطوفان في مناهج الدرس السردي الخالية من المباهج إلى أن لذة الحكاية هي لذة تقليدية، قديمة، هي متعة الاندماج في حكايةٍ تأسر القارئ إن كانت حداثية مُعمِلةً فكرًا وفلسفةً ورؤيةً متوخيةً طرُقًا وسُبُلا يجتهد فيها السارد في تلوين حكايته، أو كانت تقليدية متركِزةً على تتالي الأحداث وتعقُدها، ففي نهاية المطاف ما يأخذ القارئ هو الحكاية وكيف تُحكى، والكيفُ يتأتى وفق رؤيةٍ يراها الكاتب لا تعود إلى دقيق اطلاعٍ على طُرُق السرد، وإنما هو أمرٌ مغروسٌ في الطِباع لا تدرِكه العقول والأذهان -على قولِ نُقَادنا القدامى- الذين أن «ميل النُفوس» إلى نص مخصوص لا يُمكن أن تُدركه العقول الناقدة. عودا على بدء، العقل النقدي انحصر في دوره التحليلي التفسيري، ولا سلطةَ له على سنِ نهج في الكتابة، وإنما دوره تفسير ما يبتدعه المبدعون، بقي النقد عيالًا على الإبداع، ولذلك فإن بندقية تشيخوف بقيت معلَقةً قد تُستَعمل وقد تُهمل، واستعمالها أو إهمالها لا يُضفي على القصة قيمةً مضافةً خارج سياق الحكاية، فللكاتب أن يُمهلها أو أن يهملها، و«الرنجة الحمراء»، قد تكون أسلوبًا من جمعِ أساليب، هي أسلوبٌ قائمٌ على المغالطة المنطقية، إذ يعمد الكاتب إلى استعمال إشارة زائفة تؤدي بالقارئ إلى استنتاج زائف، أسلوبٌ من أساليب التضليل، وصرف النظر عن الجهة الأساس، ففقي السرد يُمكن أن يعمد الكاتب إلى تضليل القارئ حتى لا يتيسر له بلوغ المعنى ولا يتسنى له أن يتراخى في قراءة الهدهدة، وإنما يظلُ متيقِظا أبدَ القراءة. فهل كان عبدالرحمن منيف عارفا بأنه في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» بأن بندقية تشيخوف تقتضي منه توظيف كل الأشياء المذكورة في عالم الرواية، وهل كان نجيب محفوظ في ثلاثيته على يقين بأنه لن يترك شيئًا من عالم رواياته للصدفة؟ لو كان الروائي يُفكرُ ويُعقلِنُ عالمه، لما وصلتنا أعمالٌ قاطعة مع السابق، بانيةٌ للأشكال في القصص لم تُزَر من قبلُ.