الرواية العمانية: التحقّق
قطعتُ كالعادة ما كنتُ أسترسله من «شغف القراءة» بسبب حادثين طارئين، متباعدين في الظاهر، متقاربين في الأصل، الحدث الأوّل هو ترشيح جوخة الحارثية لجائزة من أعرق الجوائز، وأهمّها في عالم الأدب، وهي جائزة جيمس تيت بلاك، وهي من أقدم الجوائز الأدبيّة (1919)، ولها منزلة وصدى، والغريب، العجيب في هذا الترشيح أنّ مجتمعا من القُرّاء هو المقوّم، إذ من سمات هذه الجائزة ألاّ تُقوَّم بالشكل التقليدي، بل هي تُوضَع طيلة فصل لتكون محور الدراسة والنقاش صُحبة ثلاث روايات تُنافسها الترشّح، وعلى ذلك، فبصرف النظر عن الفوز من عدمه، فإنّ الدخول في قائمة الأربع هو إحلالٌ لأدب العرب في منزلة كونيّة تُغذّي مقروئيّته، ويكفينا أن تكون الرواية العربية مقروءة ومتداولة ومحور نقاش الطلبة والأساتذة طيلة فصل دراسي في جامعة أدنبرة -وما يُمكن أن يلحق ذلك من اهتمام بأدب العرب-، مع العلم أنّ هذا الترشيح هو الثاني لرواية «نارنجة» في نسختها الإنجليزية، ذلك أنّها رُشّحَت من قبل سنة 2023 لجائزة دبلن الأدبيّة. وهو ترشيحٌ يفضي بي إلى الحدث الثاني، وهو أنّي قد كنت هذا الأسبوع مشاركا في مؤتمر علمي في وارسو في بولندا وموضوعه كان حول الأسطورة والواقع في الأدب العربي المعاصر، وما شدّ انتباهي في المؤتمر هو حضور المدوّنة العُمانية بشكل لافت في اشتغال الباحثين. عدد مهم من الباحثين كانت مدوّنتهم الأدب العمانيّ، منهم العمانيّون الذين حضر أغلبهم وغاب قلّةٌ منهم، ومنهم أساتذة يُدرّسون في عُمان، والحقّ أنّ ما جذب انتباهي في ما قُدِّم حول الأدب العماني هو عمل مستشرقة، لها درايةٌ وعناية بالأدب العُماني، وبحث أستاذة جامعيّة سوريّة تُدرّس في جامعة ليون، وهما البحثان اللذان جذبا انتباهي، ولكن وجب قبل ذلك أن أعرض ما قُدّم من أعمال وما لم يُقدَّم، حتّى يُدرك القارئ أنّ المدوّنة العُمانية صارت حاضرة في الندوات خارج الندوات التي تتنظّم في عُمان. فمن العمانيين الدارسين قدّمت الدكتورة مريم البادية «الأسطورة ودورها في تمثیل الآخر الأجنبي في الروایة العمانية»، وقدّم الباحث عمر السعدي محاضرة بعنوان «المتخیل الأسطوري في الروایة النسائیة العمانیة المعاصرة»، وتغيّبت الدكتورة سناء الجمالي -مع الأسف- التي انتظرنا ما يُمكن أن يقدّمه بحثها في اهتمامه برواية أحببتُ أن تُثار نقديّا، وكانت مُداخلتهما التي لم تتمّ بعنوان «الأسطوري في روایة (كارما الذئب: فیزیاء2) للكاتبة العمانیة بدریة الشحية». الوجه الثاني من حضور المدوّنة العُمانية كان في أعمال أساتذة يعملون في سلطنة عمان، وهما الدكتور محروس القللي الذي كانت محاضرته بعنوان «الأسطورة في القصة القصیرة العمانیة: دراسة في أنثروبولوجیا الأدب» ومحاضرة ثانية قدّمها الدكتور بسام الخفاجي حول «التاریخي والأسطوري: تجسید الواقع في روایات خالد الكندي». أمّا المحاضرتان المهمّتان -في رأيي- فقد كانتا الأعمق والأهمّ، الأولى هي محاضرة من المُحاضرتين الرئيستين في المؤتمر كانت للأستاذة الجليلة باربرا بوكلسكا (Prof. Barbara Michalak-Pikulska)، المتخصّصة منذ أكثر من ثلاثة عقود في الأدب العماني، وقد قدّمت محاضرة خصّصتها للتعريف بالأدب الُعماني شعرا ونثرا، اتّخذت لها عنوانا: الأدب العماني المعاصر بين الأسطورة والواقع (Modern Omani Literature. Between Myth and Reality)، وقد أعجبتني فعلا مُحاضرتها دونا عمّا قُدِّم لأسبابٍ أهمّها أنّها عرضت بشكل تعريفيّ أهمّ المؤثّرين في الأدب العُماني دون تملّق أو مزايدة، ولخّصت أهمّ الخصائص التي يتميّز بها كلّ كاتب يُمثّل جيلا أو ظاهرة أدبيّة، وعدلت في محاضرتها بين الشعر والنثر، وبين الأجيال على اختلاف مراحلهم، وكانت مُحاضرتها فعلا صُورة تعريفيّة مرغِّبَة في الاطّلاع على جديد الأدب العُمانيّ، وهذه الأعمال التعريفيّة، إذ تأتي من قِبل المستشرقين، لها دور في توجيه التلقّي الأوروبي. وأمّا المحاضرة الثانية فقد كانت للدكتورة هيلدا مخ، من جامعة ليون التي اتخذت رواية سيدات القمر لجوخة الحارثي نموذجا لتحليل حضور الأسطورة، بالإضافة إلى كاتبة سورية هي مها حسن في رواية «قريناتي».
لماذا أكتب هذا الكلام؟ ولماذا ألحُّ من زمن على أنّ قوّة روائيّة تشكّلت في عُمان، وأنا القريبُ الغريب في الآن ذاته، من وعن الرواية العمانيّة؟ أكتب هذا الكلام حتّى نُدرك بشكل واضح أنّ الأدباء هم الواجهة الأهمّ لبلدانهم، وأنّ الاستثمار فيهم لا يعود بالخُسران ولا بالوبال على الجهات الراعية، ولذلك، فإنّ زهران القاسمي اليوم لا يُمثلُ نفسه ولا أدبه، بل هو يحمل النّاس على معرفة عُمان أوّلا وعلى معرفة جيل من الكُتّاب لا يقلّون أهميّة في كتاباتهم عمّا يكتبه زهران القاسمي. قُلت هذا الكلام يوم فازت جوخة الحارثي بجائزة المان بوكر أنّها لم تنبت من فراغ، صحيحٌ أنّها كوّنت نفسها، واجتهدت في صقل حكاياتها، ولكن هذا لا ينفي أنّ جيلا من كُتّاب الرواية بالذات أفرز جوخة، جوخة الحارثي صورةٌ عن أدب قصصيّ وروائيّ وجب أن يُراعى وأن يُرعَى لأنّه ليست طفْرة، وليست ظاهرة عارضة، وليس صُدفةً. هنالك اشتغال جدّي على مساحات سرديّة، ينمو فيها سليمان المعمري الذي تجذبه الصحافة والمقالة وهو لها منازلٌ شرس، ويبتعد عن الرواية وكتابة القصّة بعد أعمال أعتقد أنّ شأنا كبيرا سيكون لها في لاحق الزمن، وخاصّة رواية «الذي لا يُحبّ جمال عبد الناصر» التي تؤسّس لنمط في كتابة السرد يُواصلُ ما خطّه الجاحظ، ويبتكر فيه سليمان طريقا من السخريّة الحارقة، ومن تحرير الشخصيّات من سلطان الراوي ومن لغته ولهجته لتكون متحقّقة بذاته، وتجتهد فيها هُدى حمد التي كوّنت رصيدا من الروايات المتنوّعة، ومن الحكايات التي لا تتضارع ولا تتشابه، أساليب مختلفة، وولوج في عوالم لها من سحر الحكاية ما يجعل القارئ يتنقّل من عجيبها إلى غريبها، «التي تعدّ السلالم» بدايةٌ مشرقةٌ، «سندريلات مسقط» عمل حقيق بالإمتاع «لا يُذكرون في مجاز» العمل الذي يُشكّل فارقا في تجربة هدى حمد. وبشرى خلفان التي فازت عن استحقاق بجائزة كتارا عن روايتها «دلشاد»، التي تستدعي عوالم من حكايات الزمن القريب. مقابل ذلك هنالك جهةٌ مُشرقةٌ أو تتويج طبيعيّ لهذه الجهود، لهذا التنوّع، لهذا الثراء في الكتابة الروائيّة، على رأسها اليوم زهران القاسمي الذي يتصدّر المشهد الروائي العربي عن جدارة، على رأسها جوخة الحارثي التي لا تكتب الرواية فحسب وإنّما تُواصلُ تحقّقها الأكاديمي في أعمال رائدة، إذ يُنتظر صدور الترجمة العربية لكتابها الرائد «الجسد في الغزل العذري» قريبا عن دار روايات بترجمة القديرة زوينة آل توية. وتتالى «الأخبار المفرحة» على قول سليمان المعمري، لتُقطَع ألسنة المشكّكين من عربنا وعرباننا، فبعد التتويج الفرنسي عن الترجمة الفرنسيّة لسيدات القمر يأتي الترشيح لأعرق الجوائز التي ذكرناها، ويأتي فوز زهران، فهل من مزيد من الانتباه إلى القائمين على الثقافة أنّ أصواتا مهمّة بصدد الإنجاز، وأنّ أدبا عُمانيّا تتفتَّح له فُرصة تاريخيّة ليكون، بفضل اشتغال جيل من الكُتّاب، فماذا يُمكن أن يصنع أصحابُ القرار؟