الأدب والبيئة

10 أكتوبر 2023
10 أكتوبر 2023

كُنتُ دوما وأنا أحاضرُ في طلبتي أدبا ومناهجَ نقدٍ أتساءل سرّا وعلانيّة عن جدوى النقد، ولمَ أبسط أمام طلبتي «علما لا ينفع» وأحاول جاهدا أن أقنع أجيالا مختلفة بضرورة إدراك المنهج لحُسْن فهم نصوص الأدب؟ ولا أخفيكم سرّا أنّي لم أكن دوما مقتنعا بأغلب مناهج النقد ولا بأدواتها، ولذلك فقد عملت عندما نضجت تجربتي النقديّة إلى مراجعة هذه المسالك النقديّة بمفاهيمها وأدواتها، وكنت على يقين أنّ خطابَ الأدب داخلٌ بشكل عميق في واقع لا ينبتُّ عنه ولا ينفصل، هذا الواقع الذي يُديره ويتحكّم في مسالكه الكاتب رأسا، فهو المسؤول الأوّل عن كامل فضاء خطابه الأدبيّ. ومع الأسف فإنّ واقعنا الأكاديميّ النقديّ واقع بين مسلكين لا يُمكن أن يُطوّرا النقد ولا أن يفيدا طلبة العلم، الأوّل تقليديّ صرف، وتقليديّته لا ترجع إلى أصول النقد العربيّ الذي يحوي مقاربات عميقة وأدوات نافذة ونافعة، بل هو راجعٌ إلى الممارسات النقديّة الشرقيّة في أواسط القرن العشرين، والثاني ناقلٌ مطبّق بشكل سليم أو بشكل تشويهي لنظريّات غربيّة، يلتزم بها علوق الرضيع بأمّه. وبسببٍ من ذلك، فعندما أدركتُ هذه الأيّام ظهور نقد بيئيّ يهتمّ بالعلاقة التي يُقيمها خطاب الأدب مع العالم الطبيعيّ من حوله وطُرق تفاعله معه، سعدتُ وأعلنتُ أنّ هذا النقد الذي يُفتّح الأدب على عالم الطبيعة هو نقدٌ بنّاء، ولكن لا نأخذه على علاّته، بل نُوظّفه بابا وعنوانا كبيرا يمكن اقتفاؤه وتقيّل مسلكه، فعالم الطبيعة هو القسم الأهمّ في هذه الحياة، الطبيعة بمناخها وشمسها وثلْجها وعاصف رياحها، ما هو متحقّق منها وما هو قادمٌ من مخيفِ مقبلِ التغيّرات البيئيّة في هذا الكون الذي نحيا فيه، الطبيعة بحيواناتها ما نفق منها وما عاش، ما انقرض وما بقي، ما تحوّل بفعل البشر إلى مغادرة طبعه وطبيعته فجُنّ أو خرج عن نطاقه، وما لازم طبْعه وحاله، تُمثّل ركيزةً أساسا ومادّة من موادّ تشكّل العالم الأدبيّ وتكوّنه، وقد فاض تراثُنا بتفاعل الأدباء مع الطبيعة بشكل مباشر مقصود أو بصورة عَرضيّة عارضة. فمنذ الشعر الجاهلي كانت الشمس نورا ونارا، وكان لهيبها وضياؤها، وكانت الصحراء نعمةً ونقمةً، وكانت الناقة وسيلةً وخليلةً، ومنها تفرّعت طواطم وأمثالُ، فكثيرا ما كان يتردّد على أسماعنا في قاعات الدراسة أنّ الشاعر الجاهليّ هو ابن بيئته، يتفاعل معها، ويصوّر عناصرها، والحقّ أنّ كلّ كاتب هو ابن بيئته ما كان لهذه البيئة ما به تنفرد وما به تختصّ وتفعل في حياة الإنسان. فلم يكن الإنسان الجاهليّ ناقلا للبيئة من حوله، بل كان محرّكا لها، متفاعلا معها، مندمجا فيها، ولذلك اتّخذت الناقة منزلةً من القصيدة الجاهليّة، ورُكِبت في الشعر مطيّةَ تخلُّص من موضوع الطلل، ممهّدةً لموضوع الغرض، وتفرّدت في هذه المنزلة فتشبّهت بالثور الوحشيّ وسُخّرت لها شجرة الأرطاة أو الأرطى لتسكن إليها، وخاض شبيهها (الثور الوحشي) من معارك الصائدِ وقساوة الطبيعة ما به تفخر بخروجها سالمة غانمة، وليس من العجيب ولا من الغريب أن يخصّها طرفة بن العبد بوسيع الأبيات، فهي الركيبة وهي الصاحبة وهي مَكْتَمُ الأسرار، وقس على ذلك ما تهيّأ من عالم الحيوان في صحراء العرب، وقس على ذلك ما تهيّأ في الشعر من نظر في الصحراء وفي سالكها. وبطبيعة الحال فإنّ هذا الموضوع يتوسّع في الأدب الإسلاميّ شعرا ونثرا، ويتّخذ ثيمات متعدّدة. أمّا في حديث الأدب، فقد تذكّرت، وأنا أحاول الاطّلاع على بعضٍ من تفاصيل هذا المنهج أبا السيوف، علي المعمري في روايته الجميلة «بن سولع» التي تماثل فيها «سريدان بن فطيس الحرسوسي» الشخصيّة الأساس مع المها العربيّة، وحمل معه أكياسا من تراب الصحراء إلى شقّته في لندن ليهنأ له المقام ويسعد بنومة مميتة، تذكّرت استدعاءه لفضائه العُماني ولبيئته التي غالبها فغلبته، تذكّرت نفوره من صقيع لندن واشتياقه إلى لهيب بلاده، ومن هذا الفضاء بزغت «ميثاء العمانيّة» اللوحة التشكيليّة المنبئة بالمكان، بتاريخه وحضارته، وواقع الجراد، وعلاقة البيئة بالاستعمار.

تذكّرت أيضا رواية «سيّدات القمر»، والشخصيّة العجيبة التي أحسنت الراوية صناعتها وشدّتها إلى البيئة الصحراويّة التي اكتسبت منها خلالا وصفات، «نجيّة القمر» التي تخلو إلى نفسها في صحراء ممارسة طُقوس العشق وهيام الوجْد، تُسخّرها الراوية عُنصرا مُقيما لأفق سرديّ صحراويّ حامل لتاريخ المرأة العربيّة الصحراويّة وقوّة عزمها وإرادتها وتملّكها أمرها بيدها، الصحراء في هذا المقام ليست حفنة تراب ولا مظهرا من الجمال والنوق والخيام المتحرّكة، الصحراء هنا تاريخٌ وحضارة، وقمرٌ مشعٌّ بممكنات في السرد، ورُكام من القصص ومن الوجوه، الصحراء فضاء مُولّد لقيم وإرادة وعزم وحزم، عالمٌ من النور، يحوي الوجد والحبّ والحكايات، «نجيّة القمر» هي الشخصيّة التي ابتكرتها الروائيّة لوصْل عالم الحضر بعالم البداوة، ولتكون العامل الفاعل في إثارة حياةٍ من البداوة لا يُدركها إلاّ الضالع في العيش معهم، ورد في الرواية: «في تلك الليلة حين كان عزان زوج سالمة راجعا من السهرة عند البدو تملّكه إحساس بالنشوة، كانت الرمال تحت قدميه ناعمة جدّا وقد خلع نعليه ليستمتع ببرودتها الهادئة، آنسه اكتمال القمر وهو يطبع ظلالا أليفة على الكثبان الرملية.

من بعيد لاحت له أنوار «العوافي» وكأنّها عالم لا يعرفه، لقد أمضى مع أصدقائه من البدو شطرا من الليل في الأحاديث والسمر، أنشد بعضهم وضحكوا، عزفوا على الناي والربابة. تذكّرتُ أيضا، وأنا أفكّر في النقد البيئي، صديقي زهران القاسمي، «القنّاص» وكيف تمكّن زهران بِقُدرة السارد المُحنّك من تحويل عناصر الطبيعة الخاصّة، المحليّة أحيانا، من حيوانٍ، وشجرٍ وحجرٍ إلى مسرودات ومؤثّثات للحكاية، وإلى بؤرٍ للسرد. الوعلُ يُرى من ثُقب مرأى بندقيّة القنّاص، ومُحيطه عالم من الطبيعة البكر، لا يُهمله الرائي، وإنّما هو مُظهر وصْفَه وفعله، تُشكّله اللغة في عالمها خلقا جديدا بعد أن تشكّل منذ زمن البدايات في تناغم تامّ وتناسق عجيب، يغوصُ «القنّاص» في عالم الطبيعة، يتناسق معه، تتحوّل الرواية إلى حكاية الحجر، وإلى حكاية الشجر، «النخيلات الضئيلات وبعد أن ودّع عذوقهنّ آخر الثمار صار اليباسُ يزحف إليهن لكنّهن ظللن بين جنبات الوادي متشبّثات ببعض التربة بعيدا عن مجرى السيل الجارف، وقد أحاطهنّ شجر الأثل والقطف متماسكا بأغصانه مشكّلا حاجزا قويّا للحفاظ على النخيلات حارسات هذا الوادي اللاتي عادةً ما يتمايلن بطرب مع الهواء العليل مثل حوريات جبليّة أصابهنّ الوجد»، لا سُكون ولا جماد في هذه البيئة، وإنّما هو تواصُلٌ عجيب من التواجد والتحابب، بين الإنسان والبيئة التي تضمّه، كما تواجد طرفة مع ناقته، وكما تواجد عنترة مع جواده، يتواجد زهران القاسمي مع أحجاره وأشجاره ونباته وحيوانه، وهو ابن الجبل يعيشه حياته ويجول أطرافه، يعرف مكنونه وصائته، معجمٌ بيئيّ يغلب على الرواية، منه الظاهر للقارئ ومنه العميّ الذي يحتاج إلى مفاتيح علم: طائر أبو صريد غصن الشوع - شجرة لقم - حجارة الشرجة - شجرة عسيق - شجرة الغاف - أسماك الصد - شجرة التين - أعشاب السخير والهندوب - حجارة بلون بني غامق - عشبة المحميرة، عالمٌ تتأثّث به الرواية، وتنهض، يكون هذا المعجم هو أود الرواية وهيكلها ولحمها وشحمها. لا مهرب من شمس عُمان في الرواية، ولا مهرب أيضا من صحرائها ومن جبالها الممتدّة ومن سيحها ومن بحرها، وشواطئها، عواملُ بيئيّة متنوّعة لا يُمكن لكاتب الرواية أن يكون في معزل عنها، فرجل الجبل الذي يُتقن زهران القاسمي وسْمه وتحريكه، يختلف عن امرأة الصحراء القادمة من عميق الذاكرة الشعبيّة ومن أساطير العرب الضاربة في القدم في رواية «سيّدات القمر» أو في رواية «بن سولع». أعود إلى أصل الحكاية، وأصل الحكاية هو نقدٌ يرى البيئة إن توفّرت ويهتمّ بها، وحيرتي تكمن في التالي: ألم تتوفرّ وتتراكم دراساتٌ مكدّسة في رفوف مكتباتنا وجامعاتنا عن الحيوان في الشعر الجاهليّ، وعن الطبيعة في الشعر الأندلسي، وعن الفضاء في روايات الكوني، وعن الطبيعة في الشعر الرومانسي؟ فلسائل أن يغتمّ بسؤال: ما الجديد في هذا النقد، ونحن من سالف الزمن نحتفي بالطبيعة والبيئة كتابة ونقدا، وجامعيّونّا أبقاهم الله وسدّد ما بقي من خطاهم يُشرفون على موضوعات تُزهر فيها الطبيعة وتُونِعُ؟