أنس النفوس: في صحبة الجاحظ «2»

15 نوفمبر 2022
15 نوفمبر 2022

في صحبة الجاحظ ملاذّ تمنعنا من عدم الانسياب معه، ومواصلة السياحة معه في مختلف تقلّباته التي أسّست للفكر العربي، وهو الفكه الجاد. لقد سن صاحبي الجاحظ طريقة في التأليف تدفع الملل عن قارئه وتنقله من حال إلى حال، وتحيطه بهالة من الأنس والألفة حتى وهو يثير أعسر المسائل الخلافية في الآراء المذهبية أو الفقهية أو الكلامية، وهو سليل عقيدة اعتزالية يظهرها في كل ما يكتب. فشد العزم يوما على كتابة كتاب في الحيوان، وهو باعث البيان والمبارزة بالكلام، فكيف يستوي أن يخوض صاحب البيان والانصراف إلى بلاغة اللسان في حديث عالم عن الحيوان؟ وكيف لصاحب الأدب راوية الشعر والنثر ومؤلف تحف من بليغ النثر أن يورثنا موسوعة شديدة الإتقان في تفاصيل الحيوان؟

لقد صنع الجاحظ كتابا جامعا فاتحا لنمط في التأليف نادر، وهو التعرض لعالم الحيوان وتقليبه على أوجه يجتمع فيها الاجتماعي والعلمي والنفسي والأدبي والتاريخي. وبدا فيه ذا عقلية علمية تصنيفية منهجية دقيقة، فقبل الخوض في عوالم الحيوانات ومدهشاتها، يستهل كتابه بتصنيف يفصل فيه كائنات الكون إلى وجود نام وغير نام، ويتناول النامي من كائنات الوجود فيفصّله ويضبط خطْوَه المنهجيّ، يقول في بداية التصنيف: «ثمّ النامي على قسمين: حيوان ونبات، والحيوان على أربعة أقسام: شيء يمشي، وشيء يطير، وليس الذي يمشي ولا يطير يسمّى طائرا. والنوع الذي يمشي على أربعة أقسام: ناس، وبهائم، وسباع، وحشرات. على أنّ الحشرات راجعة في المعنى إلى مشاكلة طباع البهائم والسباع». يخطو صاحبي خطوات منهجيّة يقسّم بمقتضاها الموجودات، فيتدرّج إلى تقسيم الطير إلى سبع وبهيمة وهمج، ثم تقسيم الحيوان إلى فصيح وأعجم «والفصيح هو الإنسان والأعجم كل ذي صوت لا يَفْهم إرادتَه إلاّ من كان من جنسه» (وهو موضوع شائك في فكر الجاحظ)، فهو كلما وجد مجالا للاستطراد تفتّحت معرفته وخصّص فصولا وفقرات، ولم يغفل في عالم الحيوان بيان الإنسان تمييزا له بقدرته على مفارقة العجمة وصناعة الكلام.

«كتاب الحيوان» يحوي عوالم ينصرف إليها العامّيّ والعالم، الأديب ومن ليس له في الأدب نصيب، حيوان الجاحظ ليس كحيوان عالم الحيوان، وإنّما الجاحظ لجحوظ عينيه وانسياب لسانه تَمكَّن من عقل قادر على النفاذ إلى عمق الأشياء، فهو يرى الحيوان في الجثمان وفي ما يختصّ به من البنيان، وفي ما يتّسم به من الخلال، يرى منه المزاج وطيب الحال أو سوء المعشر والنكران. حيوان الجاحظ داخل في عالم الإنسان، له معه صلات وعلائق وأمشاج، ولسان الجاحظ قادر بحكم معرفته بالبيان وما يدخل على ميْل الناس من تحوّل الحال أن ينطق ببليغ من القول شعرا وإخبارا ونفاذا دقيقا إلى حياة معشر الكلاب، وإلى حياة البغال والذباب، لا ينفلت عن منظاره ومنظوره طائر أو سابح أو أرضيّ الكيان -على سبيل المثال- وأن ينقل لنا ما انتهى إليه من أخبار الرواة وما شاهده بالعيان. لا يقتصر الجاحظ من الحيوان على ظاهر البنيان أو أصل الانتساب إلى أنواع وتصانيف (تفنّن فيها صاحبي وفرَّعها إلى أشكال وخصال) تدخل في أبواب يجتمع فيها السباع والطيور وأصحاب الحوافر وأهل المخالب وغيرها من الأنواع، وإنّما هو يتعدّى صفة الحيوان إلى صلته بالإنسان في الاتّفاق والافتراق، إلى بيان طبائع الحيوان، وهو ذاكر منها ما لا يهتم به عالم الحيوان من رواية ودراية. فالحيوان عنده كما الإنسان له خصال في التزاوج والإنجاب، وله طبائع وأمزجة تميّز كلّ نوع منه.

فالكلب عنده -وهو مثال- حيوان وإن خالط الإنسان فهو من أصل السباع «فالكلب سبع وإن كان بالناس أنيسا، ولا تخرجه الخصلة والخَصلتان ممّا قارب بعض طبائع الناس، إلى أن يخرجه من الكلبية»، وهو داخل حلقة «الكلبية»، وهي عبارة منه جميلة وعميقة التدلال، شبيهة بما أجراه لاحقا عبد القاهر الجرجاني من معنى «الأسديّة»، والكلبيّة هي دخول النوع في نوعه لا يفارقه وإن جانب حلقة أجناسيّة أخرى وعلق بها وشابهها. كلْب الجاحظ له قوائم أربع، نبّاح، لهّاث عند الحمل عليه وعند هدْأته، وفيّ لصاحبه، حارس أمين، تلك خلال يشترك فيها كلّ الكلاب في ظاهر الوَسْم. غير أنّ كلْب الجاحظ له بالإنسان علوق وانتساب، وله به شَبَه ومثال، يهيم به أبو نواس في صورته صائدا، في الطرد، والتقاط المصيد من بني جنسه، فيكثر فيه الوصف وبالغ في الفِعال، وهو محور الروايات في عديد المجالات في بيان «صفة ما يستدلّ به على فراهية الكلاب وسياستها» و«علاج الكلاب لأنفسها» و«ما أشبه فيه الكلب الأسود والإنسان» و«عضال الكلاب» و«مما قيل من الشعر في نفع الكلاب» و«ذكاء الكلب ومهارته في الاحتيال للصيد» و«كرم الكلاب» و«نوم الكلاب»، وغيرها من الموضوعات الجمّة التي تخصّ الكلاب في مأكلهم وسلوكهم، أو في الإخبار عنهم في قصص تأنس بها النفس وتميل إليها، أو في دفاع صاحب الحيوان في أكثر من فصل عن هذا الكيان. وفي الأثناء يعرض صاحبي استطرادات لغويّة وكلامية وأدبيّة قد تطول وقد تقصر. عالم الكلاب احتاج من الجاحظ مجلّدا خاصّا، فيه من الأخبار والحكايات وتقديم الأدلّة على وجود الخالق، والخوض في مسائل أدبيّة وكلاميّة لمعترض مفترَض، كلّها ناتجة عن بسْط موضوع الكلاب والخوض فيه. ذاك وجه من وجوه صاحبنا الجاحظ، جمع فيه بين الهزل والجدّ وبين العلم والأدب وبين النثر والشعر وبين الدراية والرواية، فكيف يكون سبيله إن انقلب هازئا ساخرا في رسائل أبرزت موسوعيّته وجامّ علمه وطريف طريقته؟