ألف طريق وطريق لكتابة الرواية
الحدث واحد وأساليب التخييل عدد. ما المقصود بأساليب التخييل؟ وكيف يمكن أن نروي الحدث الواحد واقعا كان أو تمثّلا بطرق متعدّدة، وهل هذه الطرق المتعدّدة هي فاعل فارق في تلقيّ الرواية أو الحكاية؟ بمعنى هل أنّي لو أردت أن أروي حكاية ظريفة أو نجيّة (وهما شخصيّتان من رواية جوخة الحارثي «سيدات القمر») سأرويهما بالطريقة ذاتها صياغة وتصريفا وانتقاء للأفعال والخلال والأقوال كما فعلت جوخة الحارثي؟ وهل أنّ نفس الحكاية التي حكاها زهران القاسمي عن «القافر» في «تغريبة القافر» أو عن عزان وعبدالله وناصر في «جوع العسل» يمكن أن يتناولها كاتب آخر بأثر مختلف وتفاعل أسوأ أو أحسن؟
قيل قديما في أبواب نقد الأدب أنّ «الأسلوب هو الإنسان»، بمعنى أنّ كلّ كاتب له أسلوب مخصوص في كتابة الأدب، شخصيات نجيب محفوظ هي شخصيات صارت تعيش مع قارئها هي نماذج في القدرة على الاعتناء بصناعة الشخصية وبنائها على الوجه الأحسن، كذلك الأمر في روايات عبد الرحمن منيف، وإن توجهنا إلى الأدب الكوني وجدنا أيضا في الروايات الكلاسيكية أو الحديثة هذا الأسلوب الذي يتميز به جابريل جارسيا ماركيز أو بلزاك أو فلوبير.
القدرة على التعبير، هي الفارق الفاصل بين الروائي وغيره من العاجزين عن التعبير عن الحدث، فالأديب الذي لم يتحقّق بعد يخلو من طريقة في الكتابة بها يتميز. هنالك وسائط متعددة للتعبير عن وقْع الحدث على الذات، بعضهم يعبر بالألوان والأشكال وبعضهم يعبر بالأصوات والألحان، وبعضهم يعبر باللغة، اللغة التي تعجز إن غاب المجاز عن حمْل هموم البشر، تقول آني أرنو في رواية الحدث «لو ملكت القدرة على التعبير عن هذا الحدث، حدث حياتي، بلوحة فنيّة، فسأرسم طاولة صغيرة متكئة على جدار يغطيها شرشف من الفورميكا، وضع عليه إناء مزخرف يطفو فيه مسبار أحمر. لا أصدّق وجود ورشة لصانعة الملائكة في أيّ متحف في العالم»، وهي المتصرّفة في اللّغة، الحائزة على جائزة نوبل للآداب، ترى طريقا آخر وواسطة ثانية يمكن التعبير بها عن الحدث ذاته.
الرواية حكاية تحْكى قوامها أخْذ القارئ وشدّه حتى لا ينفصل عنها، حتى يعلق بها ويصيرها، روايات عربية كثيرة كان لها القدرة على أسر القارئ، في مقامات إن غابت غاب الأسر، ومثالي على ذلك أن الناس لا يقرؤون الآن مدن الملح مثلما قرأناها في مطالع التسعينيات من القرن العشرين، والقوات الأمريكية تدك العراق دكا، ولا نقرأ شرق المتوسط -على حسن تلقّيها في مختلف الأزمان- مثلما قرأناها في نهاية الثمانينيات، وكذا الأمر في روايات عدد انشددنا إليها بسبب واقع حال زاد من أثر تلقّيها، إذن مقام التلقي له دور في ترشيح روايات لكي تبرز وتحتل في الضمير الإنساني معنى ومنزلة، وفطنة السارد كامنة في التقاط هذه اللحظات.
مقام التلقي هو ما يعبر عنه عبد القاهر الجرجاني بـ»أنس النفوس»، والمتمثل في أنّ النفس تأنس نصا وتميل إليه لأسباب لا يمكن أن يدركها المنطق بالضرورة، والكاتب الجيد هو القادر على تحقيق هذه المؤانسة النصيّة بين ما يكتبه والقارئ، القارئ الذي يريد أن يجد نفسه في الرواية، مجالان للتجاذب مجال اعتقاد الكاتب الروائي الذي يبني حكاية ومجال اعتقاد القارئ الذي يبحث عن نفسه في ما يقرأ.
هل هنالك طريقة مثلى للكتابة؟
لا وجود لطريقة مثلى في الكتابة، بيد أنّ الكاتب الروائي لا يحتاج إلى «ذكاء سرديّ» فقط في التقاط المعنى الذي يعبر عنه أو الحكاية التي يريد أن يحكيها، بل يحتاج أيضا إلى حسن تدبير وتخطيط وتخييل، أمران هامّان في بناء الرواية، هما التخطيط لمسار الأحداث والتدبير في صناعة الشخصيّات، الرواية في كتابتها تحتاج عملا واجتهادا وبحثا، فمثلا شخصيّة «القافر» في رواية «تغريبة القافر» احتاجت في تكوينها أن يكون الروائي على دراية بسبل استخراج المياه، وتجهيز عالم اصطلاحي وسجلّ قولي تام مرتبط بعوالم حفر الأفلاج في عمان، كذا الأمر في عدد من الروايات التي تميّزت بسبب قدرة راويها على صناعة الشخصيّة الموائمة لمنزلتها.
الطريقة المثلى لكتابة الرواية تحتاج وجود روائيّ حقيقيّ، بمعنى كاتب مؤهّل للحكاية، وهي صفة لا تتوفّر في كلّ الكتاب، فهنالك من يأخذك بالحكاية لا لقيمة المعنى في الحكاية وإنّما لأسلوبه في الحكاية، وهو أسلوب يوهَب ولا يتَعلَّم أمّا ما يتعلَّم فهو طرق تحسين هذا الأسلوب والاطّلاع على تجارب مختلفة في الكتابة الروائيّة.
إذن لتشكيل الأسلوب الخاصّ يحتاج كاتب الرواية إلى سَنَدين، الأوّل منهما طبيعيّ والثاني ثقافيّ، الطبيعي، هو هبة، وهو الميل إلى الحكاية، القدرة على كتابة حكاية بشكل يختلف عن عامّة الناس، وأمّا الثقافيّ فهو تعلّم اللّغة وإمكانات تصريفها وإتقان صناعة الشخصيّات وتحميلها المعاني الممكنة حتّى يألفها القارئ ويتفاعل معها.
تجريب الأشكال في الأعمال التجريبيّة في الرواية العربيّة تراوح بين النجاح والفشل، جرّب الغيطاني استعمال التاريخ، وجرّب صنع الله إبراهيم الواقع الفج، ونجحوا بسبب الحفاظ على ماهية الرواية، التي قوامها الحدث والشخصيّة، بينما لم تنجح في رأيي رواية «الجواشن» لأمين صالح وقاسم حدّاد، لأنّها خالفت جوهر الحكاية ودخلت في تجريب اللّغة.
ألف طريقة وطريقة للحكاية، ولكن الكاتب يختار الطريقة التي يراها المثلى لرواية حكايته، وهي الواسطة التي بها يمكن أن يأخذ القارئ من مجال هو فيه إلى عوالم الحكاية الممكنة.