آلات الموسيقى العُمانية والهُوية الثقافية «1»

18 فبراير 2024
18 فبراير 2024

الآلات الموسيقية وتنوعها صناعة واستعمالا، مظهر مهم من المظاهر الأساسية لتطور اللغة الموسيقية وهي بمثابة السجل الذي يعكس الفكر والممارسة الموسيقيّين. فنحن معشر البشر لا نستطيع التعبير عن كل شيء باللغة الكلامية، لهذا نستعين باللغات الفنية من موسيقى وتشكيل وغيرها من أنواع الفنون. من هنا يتوسع مفهوم اللغة ليشمل كل أدوات التعبير التي تتعاضد كقوى إدراكية لا يجب أن يختل أي منها أو يتخلف عن أداء دوره في سياق المنظومة الإدراكية للجميل والقبيح. ومن المعلوم أنه إذا فقَد الإنسان القدرة على الكلام فقَد القدرة على السمع، وهذا ينطبق تماما على العلاقة بين الموسيقى واللغة الكلامية، بمعنى أن اللغة الكلامية تستقوي على نفسها، إن جاز التعبير باللغات التعبيرية الفنية، تسد ثغرات بعضها بعضا، من هنا، لا أتفق تماما مع قول القدماء: «إن النغم فضل بقي من النطق لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان». ولكن بمناسبة ذكر اللغة، ما الذي جعل معظم مصطلحات الموسيقى العربية غير عربية على الرغم من عظمتها الأدبية والعلمية؟ وهذا سؤال قديم لعله يكون يوما ما موضوعا واحدا من مقالات هذه الزاوية المتواضعة.

والآلات الموسيقية منها الخاصة التي لا يمكن استعمالها، إلا في حدود لغتها الموسيقية وثقافتها أو بسبب كفاءتها الصناعية أو خصوصيتها الثقافية والفنية غير الملائمة لنظام موسيقي آخر، وأخرى من السهل استعارتها كاملة أو على الأقل فكرتها الأساسية بسهولة، ولن يجد القارئ الكريم صعوبة في تحديد عدد من الآلات الموسيقية التي هي بمثابة رموز ثقافية لشعوب وحضارات مختلفة ومنها بطبيعة الحال الحضارة العربية، كما مع آلة العود أو آلة القانون العربية التي حوت كل النغم العربي. أما على الصعيد الوطني، فيمكننا النظر إلى عدد من الآلات كرموز محلية متفردة من جهة، أو مشتركة من جهة أخرى مع أقطار الجزيرة العربية وأخرى مع البلاد العربية من ذلك مثلا لا للحصر: آلة البرغوم التي تصنع من قرون الغزلان الجبلية، وأخرى مشتركة مثل: القصبة، والمرواس، وعود المزهر أو القمبوس أو الطُربي.. وغيرها. ومعظم هذه الآلات الموسيقية اقتصر استعمالها على ثقافة الجزيرة العربية على الرغم من أنها قد تبدو عكس ذلك من حيث الفكرة الصناعية، ولكن يصعب استعمالها خارج بيئتها الثقافية هذه بسبب كفاءتها الصناعية والفنية، فقد تعرضت للإهمال قرونا طويلة في مواطنها لأسباب كثيرة حتى تبدو اليوم كأنها بدائية أمام الآلات الموسيقية الأجنبية الشائعة في موسيقانا المعاصرة.

والحال مشابهة مع أنماط الغناء، فقد تفْقد بعض أنواعها جمالياتها اللحنية والأسلوبية أو نمطها الثقافي والفني عندما تؤدى بأساليب لغوية غنائية وكلامية غير تلك التي في لغتها الأصلية، وسيصعب علينا في هذا السياق استيعاب أداء الرزحة مثلا بلغة غير العربية أو بلهجة غير اللهجات العُمانية، ولكن هذا قد يحدث كما في بعض أنماط الغناء التقليدي العُماني ذات الجذور اللغوية غير المحلية، وفي الثقافة الموسيقية العُمانية أمثلة عديدة، وهذا جزء من التنوع الثقافي واللغوي في الغناء التقليدي العُماني. ويواجه عشاق الأوبرا العرب تحديات ثقافية وفنية أمام أداء الغناء الأوبرالي الأوروبي باللغة العربية. ومن المعلوم أن هذا الفن الإيطالي الأصل يكون أكثر جمالا باللغة الإيطالية عنه في اللغات الأوروبية الأخرى، ولكن هذا لا يعني أن فن الأوبرا نفسه لا يمكن توطينه كقالب فني في الثقافة الموسيقية العربية والعُمانية، غير أن هذا يتطلب إيجاد حلول لهذه الإشكاليات اللغوية وأساليب الأداء. وهذا موضوع آخر ليس هنا مكانه الآن.

وفي الواقع كل آلة لحنية هي صورة تطبيقية لنظام موسيقي ولغته وعلومه ونظرياته، ولا توجد أمة في هذا العالم لم تطور نظامها الموسيقي الخاص وآلاته الموسيقية اللحنية والإيقاعية. من هنا تقع أهمية الكتابة عن الآلات الموسيقية وطرق صناعتها وأساليب استعمالاتها اللحنية والإيقاعية، للوقوف على الفكر الموسيقي التقليدي العُماني في السياقات التاريخية التي تحدثت عنها في المقالات السابقة تحت عنوان: «بشأن التأريخ للموسيقى العُمانية». وبشكل عام الموسيقى العُمانية وجل آلاتها تنتميان إلى الموسيقى العربية ونظامها المقامي والإيقاعي وأساليب أدائها الفني. وهذه الآلات التي نصنفها كآلات موسيقية تقليدية هي محصلة فكر موسيقي ممتد يعود جذوره إلى فترات زمنية قديمة من الصعب تحديد تاريخه طالما لم نعثر على أثر قديم مكتوب أو مرسوم. وإذا كانت الآلة نفسها عمرها قصير بسبب مادتها الصناعية، إلا أن فكرتها الأساسية تظل مستمرة ومتوارثة. ولكن منذ السبعينيات من القرن العشرين على الأقل اكتشف الموسيقيون أن هذه الآلات التقليدية وخاصة اللحنية غير كافية لصناعة موسيقى عُمانية حديثة... وللمقال بقية..

مسلم الكثيري موسيقي وباحث