آلات الموسيقى العُمانية التقليدية والهُوية الثقافية (2)
في البداية لا بد من تقديم الشكر والتقدير للبروفيسورة أسمهان بنت سعيد الجرو أخصائية الدراسات التاريخية بمتحف عُمان عبر الزمان على المعلومات القيمة التي قدمتها لي والمقتبسة من كتابها قيد النشر بعنوان: "عصور ما قبل التاريخ في عُمان (6000-3000ق.م) الأسلاف يغرسون بذور التحضر" بشأن آلتين موسيقيتين مكتشفتين في مقبرتين من العصر الحجري، الأولى: مكتشفة في موقع رأس الحمراء (5) وهي صدفة بحرية لا تزال تستعمل في الموسيقى التقليدية العُمانية وتعرف باسم الجم أو اليم، وهذه الآلة الصدَفَة تُثقب من أحد جانبيها لإحداث فتحة للنفخ في تجويفها الذي يستغل كصندوق مصوت، ولهذه الصدفة فتحة واسعة يخرج من خلالها الصوت مضخما كبوق بما يشبه آلة الهورن النحاسية مع فارق الحجم والإمكانيات التقنية، أما الآلة الثانية، فكانت من موقع رأس الخبة (1) بولاية جعلان بني بوعلي، وهذه الآلة حسب الوصف عبارة عن: "صخرتين مسطحتين مثقوبتين يتم توصيلهما أو ربطهما بحبل يتم تحريكهما بشكل دائري في الهواء ليصدر منهما صوت موسيقي له دوي عال". وفي الواقع طريقة استخراج الصوت من هذه الأداة الحجرية يبدو من وجهة نظري حسب صورتها والشرح أعلاه معقدا وخطيرا في الوقت نفسه، كما يصعب وصف صوتها بالموسيقي بالاستناد إلى مفهوم السلم واللغة الموسيقية. ولكن، ومع الأخذ بعين الاعتبار قِدم زمن هذه الآلة فإنها تعطيني فكرة عن اكتشافات الإنسان المبكرة لتأثير الصوت كسلاح دفاعي وتطبيقات ذلك نحو التعبير الجمالي لاحقا، فالضوضاء التي تنتج عن الأدوات والحركات بالأدوات المختلفة قد يكون لها صلة بمحاكاة قوة صوت الرعد وما شابه ذلك من قوى طبيعية مهيبة، وفكرة المحاكاة هذه لا تزال مستعملة في الموسيقى التصويرية حتى يومنا.
وعلى كل حال يبدو أن المكتشفين حينما قرروا إنها "موسيقية" كان ذلك بالمقارنة مع مثيلتها أو ما يشبهها التي وجدت عند قبيلة إفريقية حسب ما أتذكر من قراءة سابقة عن هذا الاكتشاف. من هنا، إذا ما اعتبرنا هذه الأداة الصخرية آلة موسيقية أو حتى تصويرية تستعمل في مصاحبة أداء نوع معين من أنواع الممارسات الغنائية في العصر الحجري فهذا من وجهة نظري له صلة بمعتقدات بدائية، ومع كل ذلك تنضم آلة الجم (الصدفة البحرية) إلى آلة البرغوم المصنوعة من قرون الوعول كأقدم ثلاث آلات موسيقية عُمانية معروفة لنا حتى الآن، وقد ذكرت في أكثر من مناسبة قِدم آلتي الجم والبرغوم، والآن أضيف هذه الآلة الصخرية كثالثة الأثافي، وبسبب عدم تسميتها حسب علمي حتى الآن سأطلق عليها في هذا المقال "آلة الخبّة الصوتية" نسبة إلى الموقع الذي اكتشفت فيه، وأضعها في صنف المصوتات بذاتها.
وبشكل عام لدينا في عُمان عدد من أنواع هذه الآلات المصوتة بذاتها تستعمل في أداء أنواع من الغناء التقليدي مثل آلة الجازرة؛ وهي أداة لجلب الماء من الآبار، وكذلك المنجور الذي يصنع من أظافر الحيوانات وغيرهما.
وفي الواقع كنت أعتقد أن مرحلة عُمان القديمة (قبل الإسلام) هي الحلقة الأضعف في تاريخ آلات الموسيقى العُمانية، ولكن إذ بي أكتشف عكس ذلك تماما، والسبب ما زودتنا به الاكتشافات الأثرية والروايات التاريخية والأدبية حتى الآن.
وإذا كانت المكتشفات الأثرية هذه قد أكدت استنتاجات الكاتب السابقة بشأن قِدم آلة الجم إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة لآلة البرغوم بعد، وما علينا سوى الانتظار لعل هناك المزيد مما تخفيه المواقع الأثرية. ومع ذلك كنت أضع آلة البرغوم وما زلت في صنف الآلات الموسيقية الأقدم في عُمان والمسؤولة إلى جانب آلة الجم عن أقدم سلم موسيقي عُماني وذلك استنادا إلى معيارين: مادة الصناعة، والسلم الموسيقي ذو الدرجة النغمية الواحدة. وهذا يعني أن هذه المرحلة القديمة أساسية في تاريخ آلات الموسيقى العُمانية، وآلاتها الموسيقية هي، أولا؛ المصوتات بذاتها: آلة الخبّة الصوتية، وثانيا؛ آلات النفخ البوقية واللحنية: الجم، والبرغوم، والقصبة، وثالثا؛ الآلات الوترية: المزهر/ القمبوس.
وهذه الآلات تمتد مرحلة ظهورها التاريخي منذ العصر الحجري كما لاحظنا حتى قبيل الإسلام، وهي آلات محلية بشكل عام، أو ذات صلة بشبه الجزيرة العربية من الناحية النظرية على الأقل.
ومع ذلك ستواجهنا إشكالية قِدم التواصل الحضاري العُماني مع الشعوب المجاورة في آسيا وإفريقيا، وعلاقة الآلات الموسيقية بالمراحل الزمنية المختلفة لهذا التواصل منذ أن سُيرت القوافل البرية وتجارة اللبان إلى العالم القديم، وزيادة قوة هذا التواصل مع بدء مرحلة عُمان الإسلامية وتطور تقنيات صناعة السفن.
من هنا، تعكس تنوع الآلات الموسيقية العُمانية هذه التطورات التاريخية المختلفة، فمنها ما هو مشترك مع أشقائنا في حضارة الجزيرة العربية، وأخرى مع حضارات شعوب الهند وفارس وإفريقيا، وإذا ما قارنا الآلات الموسيقية المكتشفة حتى الآن وتعود إلى مرحلة عُمان القديمة، فإن السؤال المهم التالي هو: أين هي الآلات الموسيقية الخاصة بمرحلة عُمان الإسلامية؟... وللمقال بقية.