النقد في خطر
أنا من أولئك الأكاديميين الذين يبشّرون بنهاية النقد ممارسة نسقيّة، نمطيّة تخضع لضوابط نظريّة ومعرفـيّة وفلسفـيّة، ودليلي على ذلك أنّ النقد الأكاديميّ يسير على وقْع بطيء، ولا دور له فـي تحديد المقروئيّة أو توجيه الرأي القرائي العادي، الذي يكتفـي بتذوق الرواية، وتطعّمها دون بحث عميق عن الأنساق أو البنى المضمرة أو التشكيل المعنوي، وإنّما تحصل له اللّذة التي يفقدها تدريجيّا حكماء النقد. وجب مبدئيّا أن أفصل بين درجتين فـي المقروئيّة الأدبيّة، درجة القراءة العالمة، ودرجة القراءة العادية، وهما درجتان -فـي الأصل- فاصلتان بين قراءة عالمة، عارفة، وقراءة تقوم على الحدّ المعرفـي الذي لا يتعدّى الالتذاذ بنصّ أدبيّ، دون النظر فـي علل حصول اللذّة أو أسباب تحقّق متعة الخطاب الأدبيّ، فهل يمكن الجمع بين القراءتين؟ لقد تأثّرت كثيرا بكلّ ما كتبته المدرسة البنيويّة والإنشائيّة فـي مجال النقد، وخاصّة الثلاثيّ العملاق تزيفـيتان تودوروف ورولان بارط وجيرار جينيت، هؤلاء الذين عاشوا فترة تألّق النقد السرديّ، وساهموا بقوّة فـي إغناء النظريّة السرديّة، ولكن أضحك من نفسي أحيانا من انقلابهم على الدرس النقديّ واعتصامي أنا به، كيف تحوّل جينات إلى تتبّع السرد فـي غير النصوص اللغويّة، وكيف انطلق بارط إلى عالم من العلامات، وكيف غاص تودوروف فـي عوالم أنتروبولوجيّة، حتّى أنّه تمرّد عن نظريّته الإنشائيّة التي ما زال العالم العربيّ شادّا عليها بالنواجذ. كتاب تودوروف «الأدب فـي خطر» يذكر قصّة وقوعه فـي هوى الأدب ونقده، والتقائه بركني الثلاثّي بارط وجونيت، وكيف دعما مساره فـي ممارسة النقد وكشف عن الظروف العامّة فـي انتقاله من نقد يعوّل فـيه على التورية والتخفّي فـي ظلّ نظام كلّياني اشتراكي فـي بلاده الأصل فـي بلغاريا، إلى نقد حرّ فـي ظلّ الحريّة الفرنسيّة أواخر الستينيّات من القرن الماضي.
ما أريد قوله هو أنّ النقد ينتعش فـي ظلّ أرضيّة معرفـيّة خصبة وثريّة، وفـي ظلّ وجود إيمان حقيقي بدور النقد، انتعش النقد الغربيّ فـي حركيّة فكريّة وثراء سياسيّ يقترن فـيه المثقّف بالوعي والاطّلاع، فكان التنافس السياسيّ بين تيّارات مختلفة، اليميني واليساري والوسطي يثرى بسعة الاطّلاع وتوفّر صالونات للنقد ومنتديات يتجادل فـيها العامّة قبل الخاصّة، يصير السلوك النقدي فعلا عاديّا يوميّا، هو فعل داخل فـي تحقّق الأرضيّة الثقافـيّة العامّة التي تتّخذ أوجها وألوانا وانتماءات فكريّة وسياسيّة، فمن مظاهر ذلك، أنّ تودوروف لم يجد مهادا فـي القبول الجامعي للعمل على نظريّة الأدب، وتمّ توجيهه إلى دراسة الأدب البلغاري فـي السوربون، باعتبار انتمائه إلى بلغاريا، غير أنّه وجد الأرضيّة التي حقّقت طموحه فـي التعامل مع الخطاب الأدبي، تنظيرا وممارسة، يقول واصفا ذلك: «كنت محبطا بعض الشيء، لكنّي واصلت تنقيباتي، سائلا بعض الأشخاص الذين كنت أعرفهم. وهكذا ذات يوم، قال لي أستاذ فـي علم النفس -صديق صديق- بعد أن سمعني أعرض متاعبي: أعرف شخصا آخر يهتمّ بهذه المسائل الغريبة، هو أستاذ مساعد فـي السوربون ويدعى جيرار جينيت.
التقينا فـي دهليز معتم بشارع سرينت، حيث كانت توجد بعض قاعات الدرس، نشأت مودّة عظيمة بيننا. فسرّ لي، من بين أشياء أخرى، أنّ أستاذا كان يدير حلقة دراسيّة فـي معهد الدراسات العليا، حيث يكون من الملائم أن نلتقي، اسمه (الذي لم أسمع به أبدا) رولان بارط»، فلنا أن ننتبه إلى أمرين فـي غاية الأهميّة، الأمر الأوّل ماثل فـي توفّر نطاق علميّ وإيديولوجيّ لتحقّق الثلاثيّ المقدّس فـي النظريّات السرديّة، والأمر الثاني حاصل فـي التفاعل الإيجابيّ بين هذا الثالوث دون حسد أو حقد أو تعطيل للأعمال. ولذلك، تحدّث تودوروف عن التحوّل فـي مقاربة الأدب، فـي سبيل غاية وحيدة هي التمتّع بالأدب، تبقى الغاية الأهمّ فـي كلّ فعل نقديّ هي لذّة الأدب، فهل نحن نعيش هذه اللذّة؟ وهل تتوفّر اليوم بعد سقوط المرجعيّات وتلاشي الإيديولوجيّات وانهيار مفهوم الإنسان متعة الأدب التي يكتمل بها الإنسان؟ إنّني أحيانا عندما أقرأ أغلب ما يكتب من دراسات نقديّة أشعر ببرود وبانعدام الشغف وبعدم القدرة على إتمام دراسة فما بالك بكتاب لا روح فـيه ولا حياة، صارت أعمالنا النقديّة بلا مرجعيّة ولا لون ولا صراع، تغيّرت الأرضيّة المعرفـيّة التي يتحرّك فـيها النقد، وما زلنا نحن العرب نمارس النقد وتعليم الأدب بذائقة انقضت وولّت وبأدوات فقدت وجاهتها وألقها وانتسابها المعرفـيّ، درس الأدب فـي الغالب الأعمّ هو درس صقيع يقوم على قتْل كلّ متعة فـيه، وتعطيل كلّ إبداع ينتج عنه. ما رأيكم أن تكون المناهج الشكليّة التي نبغت فـي النقد الروسي، وتلقّاها العالم مطبّقا فـي سعادة غامرة، هي مناهج ناتجة عن إحداث طرق للهروب من بطش السلطة الاشتراكيّة التي ترى أنّ الأدب هو تعبير عن صراع الطبقات، فحتّى لا يخوض النقد فـي المعنى الذي يمكن أن يؤدّي إلى الضرر والسجن هرب النقّاد إلى الشكل المحض؟ يعني هل تكون نظريّات بروب وتوماشفسكي وغيرهما إنّما أحدثت فقط للهروب من رقابة النظام؟ وهذا موضوع شائك يمكن أن نفتح فـيه إعادة قراءة لتاريخ النقد فـي ظلّ الصراع الإيديولوجي الغالب فـي أواسط القرن الماضي، بمعنى هل يتجرّد النقد من الإيديولوجيا؟ وكيف يمكن أن نسلّم بنظريّات أساسها المكين سيادة الإيديولوجيا؟ لقد أثارت مراجعات تودوروف هزّة نقدية، وفـي الوقت نفسه أثارت حفـيظة «الأكاديميين» الذين ارتبطت مشاريعهم النقديّة بشعريّة تودوروف وببنيويته التي سرعان ما تخلّى عنها فـي سبيل استعادة الشغف بالأدب، واسترجاع ما هو أوسع وأنفذ من دراسة البنية إلى سياقيّة مقاميّة هي الفاعلة فـي تحديد المعنى، يقول (وتعجبني شجاعته فـي قول ذلك): «لقد تلاشت أسباب اهتمامي الحصري بالمادّة اللفظيّة للنصوص. ومنذ تلك اللحظة، فـي أواسط السبعينيات، فقدت الميل لمناهج التحليل الأدبي، وتعلّقت بالتحليل نفسه، أي بلقاء مؤلّفـين.
ومن ثمّ، ما عاد عشقي للأدب يجد نفسه محدودا بالتربية التي تلقّيتها فـي بلدي الكلّياني، فكان لابدّ لي من اكتساب أدوات جديدة للعمل»، هذه الأدوات الجديدة هي الانفتاح على الأنثروبولوجيا وعلم النفس والتاريخ والغوص فـي تاريخ الفكر، فتوسّعت بذلك آفاقه النقديّة، وأخرج الدرس النقدي من التحنيط الذي تعيشه المجتمعات العربيّة. إنّ الجامعة دوما هي الفضاء الأنسب للمراجعات النقديّة، وليست المجال للتلقين وتثبيت الراهن. لقد انتقد تودوروف بعمق طرائق تدريس الأدب، وانتصر إلى تدريس الذائقة الأدبيّة، إلى المحافظة على التمتّع بالأدب، لا إلى مناهج الأدب، وبالرغم من النقد الذي وجّهه إليه الكاتب المغربي عبد الرحيم جيرار فـي كتاب حمل عنوان «إدانة الأدب» إلاّ أنّ توجّه تودوروف يبقى قيّما وعمليّا فـي ظلّ متغيّرات عميقة فـي الفكر والأدب وفـي النسيج الاجتماعي وفـي طرق التلقّي وتحصيل المعرفة. جيل اليوم جيل متحرّر من الإيديولوجيّات العقديّة، لا يتعامل كثيرا مع الورق، له آفاق قرائيّة ما زلنا لم ندركها، الواقع الجيوسياسيّ يتغيّر بسرعة فائقة، ويتغيّر معه أدب ينحو إلى صناعة حكايته. هل يعني ذلك أنّنا نتحلّل من كلّ الإرث المنهجيّ الذي راكمته نظريّة الأدب على مدى قرن من الزمان؟ لا بطبيعة الحال، وإنّما القصْد هو تخلّص من النظريّات النمطيّة النسقيّة الكليّانية، والتعامل مع الأدب بذائقة أعلى، وبتذوّق أرفع، أن يعيد الدرس النقدي للأدب وجاهته وأثره، وإلى أن يتحقّق ذلك، فإنّ النقد فـي خطر.