محمد بن عيدروس آخر الشعراء المغنين الجوالين
في عام 1996 أعددتُ بحثًا ميدانيًّا عن البرعة، الفن الغنائي الشهير في محافظة ظفار ونشرته عام 2002م في كتاب بعنوان «الموسيقى العُمانية والتراث العربي» وهو من إصدارات مركز عُمان للموسيقى التقليدية، وتحرير الأستاذ الدكتور عصام الملّاح.
جمعت في ذلك البحث الميداني روايات عديدة عن البرعة وعود القمبوس وعازفيه في مدينة صلالة، وكان من بين الأسماء التي تكررت في الروايات الشاعر «محمد العيدروس» كأقدم عازف لعود القمبوس معروف في مدينة صلالة.
وأول جولات الجمع والتوثيق الميداني في ولاية صلالة كانت بإشراف الدكتور يوسف شوقي عام 1983، وبعد وفاته -رحمة الله عليه- تابع العمل الفاضل خلفان بن أحمد البراواني والدكتور عصام الملّاح مع عدد من الزملاء بالمركز والتلفزيون العُماني، وكنت في معظم الأوقات عضوًا في فريق عمل الأخيرين.
وأستطيع القول: إن معلومات مهمة موثّقة في أرشيف المركز بالصوت والصورة عن التراث الموسيقي العُماني في مدينة صلالة التي هي المكان الجغرافي الأخير الذي حلّ فيه محمد بن عيدروس آخر الشعراء المغنين الجوالين.
وفي الواقع أجمع العديد من الرواة على قِدم استعمال آلات العود في مدينة صلالة دون ذكر أسماء العازفين سوى محمد العيدروس وأحيانا يسمونه أحمد العيدروس، وأنه رجل قدم من حضرموت إلى صلالة وعاش في حافة الشنافرة إلى أن توفاه الله تعالى.
ومن بين آخر الروايات التي سجلتُها في هذا السّياق تلك التي ذكرها لي الفنان سعيد بن فرج بن ناصر الغساني المشهور بسعيد المجدد -رحمة الله عليه- ونشرتُها في كتابي «من الغناء العُماني المعاصر» الذي صدر عن النادي الثقافي عام 2017، وكان موضوع الكتاب الأساسي دراسة في ألحان سالم بن علي وجمعان ديوان.
وقرأتُ في الفيسبوك مقالًا قصيرًا ومهمًا جدًا نشره الفاضل علوي بن حفيظ من مدينة الغيضة اليمنية، وأعادت نشره الفاضلة نور عبدالعزيز.
وعلوي حفيظ هو حفيد محمد بن عيدروس، ويذكر في مقاله اسم جده الكامل ونسبه ومكان وفاته، يقول: وهو الشاعر والمطرب محمد بن عيدروس بن عبدالله آل حفيظ أبو هيف المتوفى في مدينة صلالة عام 1368هـ، الموافق 1948م. والمقال مرفق بصور للقمبوس آلة الشاعر محمد بن عيدروس التي قدّر علوي حفيظ عمرها بأكثر من 200 عام. وفي الواقع توجد الكثير من المدن في جنوب وشرق الجزيرة العربية ذات تاريخ موسيقي عريق، مثل: مدينة مسقط وصلالة والغيضة، وبدرجة أقل في سيئون والمكلا، وقد ضاع جزء من هذا التاريخ، وما ننشره بين فترة وأخرى من التاريخ الواصل بيننا أو المنفصل عنا ما هو إلا قليل مما احتفظت به ذاكرة بعض الرواة هنا أوهناك، وهكذا مع مقال علوي حفيظ نجد حلقة من حلقات التاريخ الموسيقي المشترك مع أهلنا في المهرة وحضرموت اليمنيتين.
وحسب رواية علوي بن حفيظ فإن محمد بن عيدروس هو من مدينة الغيضة عاصمة محافظة المهرة اليمنية، ومنها رحل إلى مدينة صلالة العُمانية وسكن فيها كما وسبقت الإشارة، ويضيف: إن أصول العائلة تعود إلى حضرموت حيث هاجر الأجداد منها إلى الغيضة قبل ثلاثة قرون.
وفي هذا السياق تذكر الروايات الشفهية والمكتوبة عددًا من الشعراء المطربين عازفي القمبوس المتجولين في أرجاء منطقة المحيط الهندي شرقها وغربها وشمالها، وهم في الواقع رواد الغناء العودي وقوالبه الفنية التي لا يزال يرددها الجميع في الجزيرة العربية وشرق آسيا منذ يحيى عمر أبو معجب في القرن السادس عشر إلى محمد بن عيدروس في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي.
ومن جهة متصلة توجد رواية أخرى عن مطرب وعازف قمبوس اسمه أحمد شهاب أو شهاب أحمد سكن مدينة مطرح بمحافظة مسقط، ويُقال أن أصله أيضا من حضرموت ولكن انقطعت أخباره، ونتمنى من أحفاده نشر معلومات عنه؛ حيث يُعدّ شهاب أحمد واحد من أبرز المطربين المُجيدين للصوت في عُمان والخليج؛ فقد كان يأتي إليه هواه هذا الغناء من الخليج وغيره لحضور جلساته الفنية وفي مقدمتهم الفنان الشيخ محمد بن فارس. ويمكن الاطلاع على المزيد من التفاصيل في كتاب محمد العماري «محمد بن فارس أشهر من غناء الصوت في الخليج»، ومقالي في مجلة نزوى العدد89/2019 الذي يحمل عنوان «مكانة الصوت في التراث الموسيقي العُماني».
ومحمد بن عيدروس -حسب ما ذكره علوي بن حفيظ- هو شاعر وأديب استهواه الفن والطرب فاشتهر بعزفه المتقن على العود (القمبوس)، حيث ما زال عوده الخاص موجودًا إلى اليوم ويتم الاحتفاظ به كقطعة أثرية نادرة. وكان في شبابه كثير الأسفار وتردد على الهند وحيدر آباد والبصرة والكويت وغيرها من البلدان بالإضافة إلى تجواله في العديد من مناطق اليمن كحضرموت ويافع وجالس زعماء بعض تلك البلدان.
وفي الكتاب المشار إليه في مقدمة المقال نشرت جزءًا من قصيدة له في مدح السلطان سعيد بن تيمور رواها المغفور له القاضي أحمد بن علي بن محمد الباص من ولاية طاقة المجاورة لولاية صلالة، والنص طويل وموّثق باللّحن على ما أتذكر في أرشيف مركز عُمان للموسيقى التقليدية، وهذا مختصر منه:
أول بدي بك يا كبير الأكبر ..
وخص عبدك في جميع أموره
يا مالك الأملاك سألك تستر..
وأجعل ذنوبي يا صمد مغفوره
والفين صلى الله عدد ما نذكر..
المصطفى المختار شارق نوره
عند النبي جاء الأمين وبشر..
وأتاه بالفرقان كم من سوره
يا معتني أحمل كتابي وأنشر..
أركب فرس ما مثلها مشهوره
مقصدك للسدّة، نشد وتخبر..
قول: جيت أنا عند الملك بازوره
بيرخصوك ويطلعوك العسكر..
الحصن شامخ نايفات اقصوره
سلم على السلطان مني ألف كر..
سيد سعيد بحيي ذيك الصوره
الليث أبو قابوس نجم أزهر..
واللي بدى بادي خرج طابوره
مسلم الكثيري موسيقي وباحث