شغف القراءة « 1»
لن أستعيد ما قيل في القراءة ومحاسنها، ولا ما ذكره الكبار من نُحَّات الفكر والمعرفة فيها، ولن أستحضر ما قاله التوحيدي والجاحظ والفارابي في الكِتَاب ومتعة صُحبته ومحاسن رفقته، وقدرته على الصمت في ظلّ كثرة الصوائت، بل لن أعود إلى الفِرنجة في احتفائهم بفعل القراءة وفلسفته، وخاصّة في كُتُب مُبهرة خطّها ألبرتو مانجويل عن «تاريخ القراءة» أو «فن القراءة» أو «يوميّات القراءة»، وفي ما عبّر عنه في كتب متعدّدة مُحبّ الثقافة العربيّة «خورخي لويس بورخس»، وتحديدا في كتاب جميل يحمل عنوان «سداسيات بابل»، ولكنّي سأعرض إلى تجربة جيلنا في بداية الشغف بالحكاية، وفي الكُتُب الأولى التي تعلّقت قلوبنا بها، في فضاءٍ معرفيّ لم يكن الكتابُ هو السيّد الأوحد كما يقول الأطهار من جيلنا، بل كانت- كما لهذا العصر ولغيره من العصور- لنا مهارب وموانع ومشاغل أخرى يُمكن أن تجعل صاحب الكتاب أضحوكةَ صحْبه، ومن هذه المهارب، صيد العصافير في الخلاء بطُرق يدوية مختلفة، واللعب بكُرة نصنعها نحن من بقايا الجوارب، ذلك أنّ الكُرة الحقيقيّة لم تكن مكسبا سهل المنال، ومن ذلك الفوز بعجلة درّاجة هوائيّة منزوعة الإطار نسوسها بيد من حديد نصنعها ونطوف بها الأحياء، ومن ذلك الولع بالتلفاز في ما تيسّر من البيوت التي تمتلكها في أواخر السبعينيّات من القرن العشرين، ومتابعة حلقات من صور متحرّكة أو من سلسلة نعمل على تطبيق أحداثها في الشوارع، مثل سلسلة «داكتري» طبيب الحيوانات الطيّب، أو «تارازان» وأفلام «رعاة البقر»، أو القيام فجرا في مناسبات لمتابعة مقابلات الملاكمة الدوليّة التي كان يؤثّثها محمد علي كلاي. هنالك ما يصرفُ الطفل في جيلنا عن القراءة، وعن همّ الكتاب وغمّه، غير أنّ توفّر كُتُب جاذبة، حملتنا قسرا على التنافس في تحصيل هذه الكتب، وتوفّر مجلاّت ملوّنة وفيها حكايات وقصص خفيفة دفعتنا إلى الادّخار من مصروفنا البسيط جدا لتجميع ثمن لُغز أو مجلّة «ماجد» أو قصّة لأرسين لوبان.
شغفُ التعلّق بالحكايات قراءةً وليس استماعا ابتدأ بتقصّي مجالٍ معرفيّ لا يتحدّث فيه الجامعيّون العرب اليوم ولا المُثقّفون وإن كان أغلبهم مرّ بمرحلة التعلّق بالحكايات التي تبدو الآن سطحيّة وساذجة، هي مرحلة قراءة الألغاز والروايات البوليسيّة بعد ذلك، قضّينا مدّة من الزمن هياما بتحصيل الألغاز ننتظر كلّ جديد منها، ونقتني ما استطعنا اقتناءه، ونتبادل مع الآخرين أجزاء منها. نلتهم هذه الألغاز التهاما وكانت تُدخل في نفوسنا بهجة عجيبة، حتّى حفظنا أغلب مغامراتها وكلّ عناصرها، «تختخ»، «نوسة»، «عاطف» «لوزة»، «محب»، والكلب «زنجر»، والشاويش «فرقع»، مغامراتٌ بسيطةٌ وألغازٌ بوليسيّة يقود حلّها مجموعة من الأطفال، ولعلّ ذلك ما جعلها قريبة منّا آنذاك. صُنعت حكايات المغامرين الخمسة، بتراكيب لغوية بسيطة، وبسلاسة في إدارة الحوار، وبُعُقَد تتكوّن تدريجيّا وتنفرج وفق متوقَّع قرائيّ يتقبّله القارئ البسيط، وسَدّت بذلك ثغرة كبرى في الرائج الكُتبيّ، وهو أدب المغامرات، وأدب القصّة البوليسيّة التي لم يكن كُتّابُنا «الكبار» يعيرونه اهتماما، بل كانوا ينصرفون عنه، ولذلك قسمٌ كبير من هذا الأدب البوليسيّ لم يكن يحمل اسم كاتب، وشقّ كبير منه كان مُستَلهما من أعمال غربيّة، تنقله دُور نشر، تبحث عن الربح السريع، لكن في ظلّ حركيّة للنشر كبيرة في الثمانينيّات من القرن الماضي، ظهرت أعمالٌ بوليسيّة مهمّة قادها على مستوى الكتابة كاتبٌ كبيرٌ هو محمود سالم، الذي استلهم من قصص بوليسيّة أنجليزيّة ناجحة قصصه، ولم يقتصر على تعريبها بل اجتهد في اقتباسها على الاستفادة من الأفكار والمغامرات وبناء الحكايات، وتحويل أماكنها وشخصيّاتها لتَحْمل نَفَسا مصريّا، الحكايات الأصل للمغامرين الخمسة كانت السلسة البوليسيّة «كاشفو الأسرار الخمسة» للكاتبة «إينيد بلايتون» التي حقّقت نجاحا باهرا وبلغت عددا من الطبعات خياليا. لقد كُنّا نتلهّف لما يُكتَبُ في هذه الألغاز، وقد فتّحت لنا السبيل لطلب المزيد، فوجدنا في السلسلة التي كانت تُصدرها دار الهلال «الشياطين13» التي كان محمود سالم أيضا يكتبها توسيعا للمغامرات البوليسيّة، وتعقيدا أكثر من سلسلة المغامرين الخمسة، فكنّا ننتظر جديد دار الهلال بتعطّش كبير، للتزوّد بحكايةٍ أخرى، وقد عُدّت هذه الأعمال الأولى التي لمحمود سالم الدور الجليل في بعثها وإقرارها وحمل الناشئة على التعلّق بالكتاب، الأرضيّة الأولى لأدب المراهقين، وقد كان للكاتب الفطنة أن يصوغ حكاية مشوّقة حاملة لقيم محتوية لمعلومات في التاريخ وعلم الجريمة والقانون والجغرافيا دون ملل ولا ثِقَل على القارئ الصغير أو الشاب.