«قرن الجارية» حينما يحاط البطش بالموت!
حضرتُ قبل أيام العرض المسرحي الفائز بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في دورتها التاسعة عن فرع الفنون عام 2022، «قرن الجارية» الذي قدمته فرقة مسرح الدن للثقافة والفن، ورغم انشغالاتي وانشغالات أفراد القسم الثقافي بجريدة عُمان بشكل مكثف بمعرض مسقط الدولي للكتاب بنسخته الثامنة والعشرين، إلا أنني جدولت الأعمال؛ لأكون صباحا في المعرض، وأحضر مساء هذا العرض المشوق الذي قُدم أول مرة في عام 2015 ولم تسنح لي الفرصة لحضوره آنذاك، وحضرته يوم الأحد 25 فبراير.
كان العرض الذي قام بتأليفه وإخراجه محمد بن خلفان الهنائي تحفة بصرية، لا أبالغ إن قلت: إنها هندسية بالغة الدقة، حركات الكرات المضيفة بين أيدي المجاميع وأبطال العمل، وما تحمله من رمزيات متعددة، فتارة تشعر بأن تلك الكرات المضيئة أرواح الناس، إذ تنطفئ فور صمتهم، وتارة تشعر أن تلك الأضواء دليل بهجة وفرح؛ إذ تتراقص بحركات متناغمة، وتارة تشعر بأنها تأخذك في دوامة الذكريات البعيدة، تسحب الانتباه نحو مشهد آسر يلزم الجمهور بالصمت والتأمل، إذ تقف مجاميع خلف بطل العمل وبحركات دائرية تسير الكرات في محور ثابت، صف مع عقارب الساعة وصف آخر عكسها وهكذا.
وأراني أسترسل في وصف الإبهار البصري قبل الشروع في الحديث عن حكاية العمل، إذ كانت السينوفراغيا -حسب وجهة نظري- بطلة العمل والجزء الأكبر من الإبهار، وهذا لا يعني التقليل من قيمة النص، بل كان النص آسرا، وإن بدا مباشرًا في محتواه، إلا أنه مليء بالصور الشاعرية والحوارات المؤثرة التي تنضح بحس أدبي رفيع، ولنا عودة للحديث عن النص.
إضافة إلى الكرات المضيئة فقد لعبت الإضاءة لعبة الديكورات في العمل المسرحي؛ لتنتقل المشاهد من المنزل، إلى مقر المحاربين، إلى البادية والمرعى من خلال تنوع الإسقاطات الضوئية وألوانها المتعددة التي أخذت الجمهور إلى شريط الذكريات تارة، وإلى التهيؤات تارة أخرى، وإلى مشاعر الشخصيات وحديث الذات، وإلى ألم الفراق وحنين اللقاء.
أما حركة الممثلين المدروسة بعناية، فقد كانت ذات دلالات متنوعة، دلالة الخنوع والحضور والخداع والتبعية، وغيرها من الدلالات التي امتلأت بالعمل، دلالات أدتها الإضاءة، وأداء المجاميع، الموسيقي، كل على انفراد كان له تأثير وجزء أصيل من العمل، لم يترك مجالا للحشو الزائد منذ بداية العمل إلى نهايته، ففي مشهد تتحول المجاميع إلى كلاب نابحة تسير نحو الشر، ومشهد آخر يبعث على الأجواء المسمومة والمليئة بالخبث من خلال أداء الممثلين المحاكي لحركات الثعابين وفحيحها الذي يعلو، والموسيقى كذلك حملت الكثير من الدلالات التي تنقلك بين تجسيد الألم وتجسيد الأمل من خلال الغناء والآهات والموسيقى، إلى جانب ما لعبته الإضاءة من بعد تأثيري كما أسلفت الذكر.
حكاية العمل
«قرن الجارية»، جاء في حديث المؤلف والمخرج أن هناك تناصا بين «قرن الجارية» في الموروث العماني، و«قرن الجارية» في العمل المسرحي، ففي الموروث العماني هي حكاية وقعت في «سمائل» في مكان يعرف باسم «قرن الجارية» لمزارعٍ أحب فتاة فتزوجها ثم قتل من قبل جار له، ولم يثأر له أحد إلا ابنته بعد سنوات، والحكاية تطول في تفاصيلها.
أما «قرن الجارية» في العمل المسرحي فهو مستوحى من تلك الحكاية في جزء منها، جزء ارتبط بالحب والزواج والتأثر والانتقام، إلا أن مجرى الحكاية اختلف ليلامس تنظيمات الظلال التي تُغطَّى باسم الدين، فتلك «غزالة» التي أحبت «جفاف» فكان زوجها الشرعي، يعيشان في مرعى «القرن»، تربي هي الشياه وترعاها، بينما يعيشون في مأساة حروب اختلط فيها الخير بالشر، ونشأت تنظيمات تبطش في الناس باسم الدين والإسلام، يجيّشون الناس؛ لتحقيق غايات التنظيم والدفع بهم إلى «الشهادة» الزائفة من خلال تفجير الذات، أو القتال غير العادل، وسبي النساء وقيادة العقول الصغيرة مثل القطعان الجائرة، يقود التنظيم «السبع» المتجبر والذي يظن أنه يستطيع أن يملك مال غيره وحلالهم بقوته وسطوته على الناس، يسعى جاهدا لأن ينال «غزالة» المتزوجة أساسا، ويوقع زوجها في المشكلات الواهية، تارة بأنه يخالف التنظيم، وتارة بأنه خارج الملة، وأسباب غيرها حتى يقع «جفاف» ضحية هذا البطش فيُقتل، فتعيش من بعده «غزالة» في وهم الأمل وانتظار عودة «جفاف» رغم كثرة المحاولات بأن يتزوجها «السبع»، ولكنها ظلت محاولات بائسة، و«غُزيِّل» أخو غزالة بدوره ينظم إلى «التنظيم» فيصير من المقربين للسبع، ويحاول إقناع أخته بأن تتزوج «السبع» ففي زواجها وجاهة ورفعة وأمان، لكنها ترفض وتتهم أخاها بالخنوع والضعف والاستسلام خوفا من بطش السبع، إلى جانب الكثير من تفاصيل العمل والحوارات الآسرة المؤثرة التي تعكس واقع الألم في أقسى تجلياته، وواقع البؤس والمعاناة، وإلى جانب العديد من الحوارات والتفاصيل الثانوية التي كانت جزءًا من ترابط العمل وبنائه، ينتهي العمل في نهاية مأساوية على الجميع، فتلك البيئة الإرهابية المحاطة بالموت من كل اتجاه لا يضمن أن يعيش فيها الإنسان يومًا إضافيًا أو حتى لحظة مستقبلية مهما تجبّر أو امتلك من البطش والقوة، ففي لحظة مباغتة يدخل «الأبكم» مفجرا نفسه وسط الجمع الغفير ليموت في لحظة كل من في القرية، فتساوت الأقدار بموت الجميع.
ورغم سوداوية العمل، إلا أن المخرج بذكائه استطاع أن يكسر الجدار المأساوي في أكثر من موضع ليملأ المدرجات بالضحك النابع من قلب المأساة في مشاهد متعددة، فكانت الكوميديا بمثابة استراحة روحية وفرجة تبعث بالأمل.
وفي الحديث عن أداء الممثلين وإتقانهم لكل دور وفي أدق التفاصيل -كما قلتُ للممثلين أثناء السلام عليهم بعد العرض- فلن أستطيع وصفه مهما بلغت، كانت كل الأدوار متقنة محكمة، دور «السبع» الذي صنع فيه الفنان إدريس النبهاني صورة مغايرة لما هو عليه بالواقع، وجدته في اليوم التالي بمعرض مسقط الدولي للكتاب وكأنه شخص مختلف تماما، كُنت أطلب منه تسجيل مقطع بسيط قبل العرض للحديث عن إصداره «الأسماء قافرة الأثر» لكنه تعذر بالحمى، حتى ظننته يتهرب رغم ما بدا عليه فعلًا، فهل هذا «الوحش الكاسر» هو نفسه الهادئ المبتسم بالواقع، بل حتى نبرة الصوت تختلف، أتساءل كيف حدث هذا الانقلاب المفاجئ، في السلام عليه عرفت أنه قبل العرض كان طريح سرير المستشفى بعد أخذ حقنتين و«سقاية»، فكيف تحول إلى هذا الأداء الجبار، قدرة رهيبة تثير الاستغراب، وكذلك بقية الممثلين ولا أقلل من أداء أحد منهم، عمير أنور بدور «الأبكم» بدا وكأنه من ذوي الإعاقة، فعلًا بَعَث في نفسي الشعور بالتعب من مشيته الصعبة وشلل يديه، صراخ الممثلين من الألم، نباحهم في مشهد الكلاب، وفحيح الأفاعي، والتلوي من الألم، وغيرها من التفاصيل الباهرة التي لا أستطيع وصفها بعناية، فعذرا لجميع الفنانين بحق، فكما يقال «أداء يفوق الوصف».
ونقلا عن بيان إعلامي للفرقة فإن فريق العمل تكون من 3 فرق هي: الفريق الفني، فالمسرحية من تأليف وإخراج محمد خلفان، والمخرج المساعد سالم الرواحي، وفي السينوغرافيا محمود المخرومي، وفي الكيوجراف -حركات الممثلين- عمير البلوشي، وفي تصميم الأزياء سعيد النحوي، وفي تنفيذها عزيزة المعمرية، وفي المكياج إبراهيم الجساسي، وفي تدريب الهارموني سيف الحارثي، علما أن اللحن مطور من فن التعويب العماني.
وفريق التمثيل، فالمسرحية من بطولة إدريس النبهاني في دور السبع وأنغام المطروشية في دور غزالة وسالم الرواحي في دور غزيل ومحمود السبع في دور جفاف، وعمير البلوشي في دور الأبكم، وأحمد الصالحي في دور الجندي السكران، وعوافي المشرفية في دور المعوبة، ومجموعة من المجاميع هم: عزة اليعربية وطالب الوهيبي، ولبنى المعمرية، وهيثم المعولي، وعمر البلوشي، وعائل أولاد ودير، والسعيد البلوشي، وياسر السليمي، ووليد الدرعي، وزايد الجابري، وأروى السنيدية.
ويتكون الفريق الإداري من: محمد بن سالم النبهاني في الإشراف العام، ووليد الحضرمي في الشؤون الإدارية، ومحمد السليمي في الإدارة المالية، وسلطان الدرمكي مديرا للخشبة، وحمد الرواحي والمهلب البحري وسعيد الرواحي في العلاقات العامة، وفي الفريق الإعلامي محمود الأغبري، وعبير المزروعية ومحمد الصوافي ومصطفى العبيداني.