فيلم "النفس الأخير".. الطبيعة الشرسة تحاصر البشر وتدفعهم إلى الخرافة
مجتمع مصغر يتآكل تحت وطأة الجفاف في بيئة منسية..
تتخذ الطبيعة في الفيلم ميزة الفاعل المؤثر الذي يعمّق المواجهة مع الشخصيات الرئيسية وخاصة التحولات الكبرى التي صرنا نشهدها من جراء التغيرات المناخية الحادة كالعواصف والسيول والأعاصير والفيضانات وغيرها، ولهذا كان الصراع من أجل البقاء هو المحرك الرئيس الذي يدفع الشخصيات لخوض المغامرة إلى نهاياتها.
ومع أن المواجهة والصراع إنما يقعان بين قوتين غير متكافئتين، إلا أن المحصلة التي يمكن أن نلمسها تكمن في طريقة توظيف هيجان الطبيعة وثورتها وتقلباتها وكيفية توظيفها بان تكون ندا قويا للإنسان وما يتبع ذلك من انعكاسات نفسية واجتماعية.
وفي هذا الفيلم للمخرجين كاري كروس وويل جوينس تتجلى قوة الطبيعة وبطشها من خلال قوة العاصفة التي تضرب بقوة مخلفة التراب والغبار الذي يطوق الشخصيات من كل جانب حتى يتخذ الأمر شكل تأويلات غرائبية من خلال شخصية وهمية تدعى رجل الغبار أو رجل التراب الذي يحضر في قصص الأطفال وحتى في الأساطير.
ها نحن في وسط قرية نائية متناثرة المنازل لا يلتقي أعضاؤها إلا نادرا وفي مناسبات اجتماعية محدودة بينما يتوارون في داخل منازلهم لمواجهة عاصفة التراب، لكن الأمر سوف يتخذ مسارات سردية أخرى ترتبط بالشخصية الرئيسية مارغريت – الممثلة البارعة سارة بولسن في واحد من أجمل أدوارها بعد مسيرة حافلة امتدت إلى ما يقارب الثلاثين فيلما وبرعت بشكل خاص في الأفلام ذات الطابع النفسي.
ها هي مارغريت تعيش مع ابنتيها فيما الزوج يعمل في بناء مسارات القطارات ونحن في الثلاثينيات من القرن الماضي، التحدي كبير وعصف التراب يتحول إلى خرافة وقوة صاخبة ومجهول كارثي لا يرحم إلى درجة التغلغل من خلال شقوق الأبواب والشبابيك وأن يتجسم ذلك الكائن العاصف في ذرات هي ليست إلا ذرات كائن بشري قادر على الإيذاء.
يتم خلال ذلك تصوير أغلب المشاهد الفيلمية في وسط تلك العواصف إلى درجة من الإتقان والتميز انك تكاد تشعر بالغبار من حولك وطعم التراب وها هو يتجسم من خلال الحياة المحكمة لشقيقتها، ايستر- الممثلة اناليا اشفورد، وهي تعيش تلك الدراما كاملة ثم لتبتلى بالمرض، مما يدفع السلطات إلى انتزاع ابنها من أحضانها لتتكامل وطأة الموقف ما بين عصف الطبيعة وفقد الأبناء.
تلك الدائرة المحكمة سوف تطبق حتى على مارغريت وهي تؤدي ببراعة دورا نفسيا مليئا بمشاعر الحزن والخوف لاسيما وهي ترعى ابنتيها في ظل غياب الزوج، وبسبب كل تلك الأجواء المحتقنة تفقد القدرة على النوم المنتظم فضلا عن المشي في أثناء النوم.
على أن التحول الخطير الذي يقع في هذا المسار يتمثل في الظهور الحقيقي لرجل الغبار وهي مفارقة جسدت المزج ما بين الخرافة وتفاعلاتها في الوجدان الجمعي وبين الظهور الحقيقي لإبن ذلك القس القادر على شفاء الآخرين، وكل ذلك سوف ينتهي بمواجهة شرسة مع مارغريت.
تتجلى انعكاسات الصراع الذي تعيشه مارغريت على شخصيتي ابنتيها اللتين تعانيان بشدة من حالة الهلع التي يعيشانها، فيما الأم في كل مرة تحمل بندقيتها لمصارعة شبح ما في وسط العاصفة وصولا إلى المواجهة الأخيرة التي تتجلى في سلسلة من التخيلات التي عاشتها مارغريت والتي تجعلها مستفزة وخائفة على الدوام.
هذه الحصيلة من التحولات في حياة الشخصيات في ذلك السياق الفيلمي علاوة على كونها تتميز بالغزارة التعبيرية، إلا أنها من وجهة نظر الناقد برايان تاليريكو في موقع روجر ايبيرت الذي يرى في ذلك الفيلم على انه "مكتنز بالكثير، على الرغم من حقيقة كونه عبارة عن سلسلة من المشاهد القوية التي قد تتنافر مع بعضها البعض لكنها تنتج لنا عاصفة أخرى من التوتر". إنه فيلم مليء باللحظات الاستثنائية وحتى لو جردته من كثير من عناصره الشكلية، إلا أنه ذو زخم وجداني وحسي عميق".
أما الناقد كيث كارلينغتون في موقع كيث اند موفيز فإنه يرى أن " الذي قدمته سارة بولسون بأداء رائع، يمزج بين عناصر عاصفة من التاريخ الأمريكي ويوميات مألوفة من هذا النوع كانت كافية لصنع فيلم جيد وغني بالتفاصيل التي تم نسجها دراميا بعناية. إنه فيلم طموح للغاية، لكنني لست متفقا مع تقلباته الدرامية الكبيرة".
من الناحية الموضوعية، يحاول الفيلم أن يقول الكثير. فالأمومة والحزن والضغوط المجتمعية والعزلة ليست سوى بعض المواضيع التي يتطرق إليها الفيلم. بعضها أكثر حضورًا من غيرها ولكن لا يتم استكشافها بعمق - وهو أحد الآثار الجانبية لوجود الكثير في أذهانهم.
هذه الخلاصة يمكن التوقف عندها عندما يحيل نقاد آخرون هذا النوع الفيلمي إلى نمطية أفلام الكوارث وأية جائحة يمكن أن تضرب البشرية ومنها جائحة كوفيد - 19 مثلا وكأن الفيلم يستمد حيثياته من ذلك الحصار الذي عاشته البشرية والذي نجد في هذا الفيلم شيئا من ذلك الواقع الذي عشناه.
وأما إذا عدنا إلى العناصر الإخراجية الأكثر أهمية، فنجد أن المخرجين قد كرسا عنصر الجغرافيا المكانية وتحويلها إلى أداة فاعلة في الصراع مع الشخصيات، إنها بيئة شرسة وعدوانية ويمكن أن تبتلع الكائن مهما كانت قدراته فضلا عن توظيف شبه انعدم الرؤية إلى إنتاج الأوهام والخرافات.
وعلى الجانب الآخر وظف المخرج أيضا صراعات فردية وجماعية كانت نواتها تطفل الآخرين في حياة بعضهم وصولا إلى قرار ضابط الشرطة انتزاع ابنتي مرغريت منها لكونها بدأت تدخل في دوامة من الهلوسة من قبيل أنها شاهدت رجل الغبار وهو ما يدفعها إلى قتل رجل الشرطة ومحاولة الاحتفاظ بابنتيها وانتهاء بمحاولة إقناعهن بالنوم الطويل الذي تخلد إليه بسبب الحبوب المنومة التي تستخدمها.
وأما على صعيد الأدوات والعناصر البصرية الأكثر أهمية في هذا المسار، فقد وجدنا توظيفا لتلك الأجواء العاصفة الترابية القاتمة التي كانت تطبق على الحياة وعلى الأفعال اليومية للشخصيات ولهذا فقد اكتنز الفيلم بذلك النسيج البصري الترابي اللون لشخصيات تائهة وفي درجات إضاءة منخفضة لدرجة أن الشخصيات تجوس في شبه ظلام وهي تعيش خوفا مستمرا من الجفاف وشحة الطعام.
وفي السياق نفسه يمكن النظر إلى الانعكاسات النفسية الحادة التي تأثرت بها مارغريت التي كانت هي ذروة الأداء التعبيري العميق والإحساس الوجداني في السياق الفيلمي وهو ما يضاف للنجاحات المتصلة لهذه الممثلة البارعة فهي تقدم لنا هنا وفرة في التعبير وتجسيد حالة الحصار والصراع في ارفع مستوياتها.
............
إخراج/ كاري كروس و ويل جوينس
سيناريو / كاري كروس
مدير التصوير/ زوي وايت
موسيقى / كولين ستيتسون
تمثيل/ سارا بولسن – مارغريت، اميا ميلر- روز، اناليا اشفورد – ايستر