استهلال لسياحة يومية مع مدن الحضارة الإسلامية
يكتبها – عماد البليك
هذه سياحة يومية خلال هذا الشهر الفضيل، مع مدن الحضارة الإسلامية، تلك المدن التي رفدت التمدن في العصور ما بعد ظهور الإسلام، بعضها مدن قديمة في الأصل لكنها ازدهرت وأصبح لها شأن بعد أن دخلها المسلمون أو عمروها، وبعضها كان نشوؤها مرتبط بدخول واستقرار الإسلام والمسلمين فيها.
سوف نلقي في كل حلقة يومية، الضوء على واحدة من هذه المدن من حيث محاولة الحفر في تاريخها ونشأتها، ومن ثم التطور الذي حصل فيها عبر الزمن، أيضا الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتعلقة بها، تلك الإشارات المتداخلة التي تكشف لنا معرفة أوسع بفلسفة التاريخ وطبيعة الجغرافيا وكنوزها في تماسها مع القيم الإنسانية والمعارف والأبنية الجمالية والأنساق الفكرية.
لا تقوم هذه المراجعات على أسلوب عرض المعلومات فقط، بل البعد الثاني في التحليل والإضاءة والاستكشاف بأمل أن تساهم معرفة هذه المدن من جديد في تنوير الأجيال الصاعدة بوجه خاص وعامة القراء بمسارات الحضارة الإسلامية، وكيف استطاع المسلمون في يوم من الأيام أن يعمروا الأرض ويخلقوا أجواء لثقافة ومعرفة إنسانية جديدة، تعرضت فيما بعد للتضعضع لأسباب عديدة تتعلق بدورات التاريخ وقيام الدول ومفاهيم العصبية والتطور والحضارة وغيرها.
ربما يطرح سؤال، لماذا المدن ولماذا الحضارة الإسلامية؟
السبب بشكل مختصر أن تاريخ التطور والتحضر يرتبط بشكل جلي بتاريخ المدينة، التي تحمل معنى التمدن عندما يتشكل تجمع سكاني متعدد المعارف والحرف والأعراق، بخلاف مجتمعات البادية أو القرى ذات الطابع الحرفي الواحد والعنصر البشري من ذوي الرحم والأقارب عادة.
ففي المدينة تأخذ الحضارة تبلورها الأولي ويكون للمعارف أن تتلاقح وللناس أن تتشارك مفاهيم احترام حرية الآخر، ويكون للفرد أن يخرج من عباءة التقاليد الاجتماعية الصارمة إلى الحرية الشخصية، أيضا يبدأ الطابع المؤسسي للحياة المنعكس عن تعدد الاهتمامات، كما يبرز دور القانون في نظام حياة الناس، متجاوزا الأعراف في المجتمعات التقليدية التي تقوم على الطاعة والقبول دون سابق تفكير في القيمة والمفهوم نفسه، حتى لو أن القانون في بعض الأحيان يؤخذ من قبل منفذه على علاته أو قد لا يكون على وعي بمقاصده التي يعيها المشرع أو واضع القانون.
يشار إلى أن لدى العرب والمسلمين اهتماما كبيرا في القدم بتصنيف الأماكن والمدن وقد سطروا في ذلك الكثير، كما في كتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموي، وقد غلب على التأليف والتصنيف في هذا الباب كما يشير الحموي نفسه في تقديمه لهذا الكتاب، ما يتعلق بـ "ذكر المدن المعمورة والبلدان المسكونة المشهورة"، وعلى الجانب الآخر "ذكر البوادي والقفار" كما في منازل العرب الواردة في أشعارهم لاسيما قبل الإسلام، ومعلوم أن الشعر العربي مثّل إحدى وسائل التدوين وقد عرف بديوان العرب، إذ كان هو الحافظة التي عبرها تم تسجيل وتوثيق العديد من الحوادث والأخبار والعلوم بما في ذلك أسماء المدن والقبائل وغيرها، فهو بمثابة مدونة للتاريخ والجغرافية. يضاف لذلك التدوين اللاحق المباشر في الكتب للمدن والأماكن وفي أدب الرحلات. غير أن هذه المراجع القديمة بعضها تتداخل فيه الحقائق العلمية بالأساطير والتخييل العام، حيث إن طبيعة المعرفة في ذك الزمن، كانت تقوم على هذه الطريقة من تداخل المساحات، كحديث الحموي أن المسافة ما بين أقصى الأرض إلى أقصاها تقدر بمسيرة خمسمائة سنة، ما يجعل حتى المعرفة الجغرافية فيها من طابع الخرافة لتعجز التعريف العلمي وقتها، حيث نرى سياقات عديدة مثلا لتعريف الأرض وماهيتها عند الحموي نفسه وآخرين.
إذن نحن في حاجة إلى مراجعة معاصرة وحديثة في تاريخ نشأة المدن في المدنيات الإسلامية، وتطورها ودورها باعتبارها الإطار الحضري الذي حمل دالة التطور والانتقال إلى التحديث والمعرفة الجديدة للإنسان، ففي الأندلس مثلا كان لنشوء المدن ذات الإطار المدني الإسلامي دورا كبيرا في توليد العلوم الإبداعية والفنون والمعرفة، وهكذا قبلها في مدن العراق والشام ومصر والمغرب العربي وخراسان وغيرها.
في فقه اللغة فإن كلمة "مدينة" مأخوذة من الأصل "دين" ما يشير إلى معاني الانقياد والالتزام والانضباط الذي تفرضه طبيعة هذه المجتمعات وفق معيار القانون والتشريع، وفي التجربة الإسلامية نجد أن "المدينة المنورة" أو "يثرب" كان لها أن تأخذ هذا المسمى من خلال الاتجاه نحو بناء الدولة التي تصنع الانضباط للكل بالتشريع والقيم المقيدة للعلاقات الإنسانية بين البشر، بخلاف ما كان قبلها من قبل في مجتمع مكة حيث لم تكن هذه القوانين قد وضحت أو تجلت بالشكل المباشر، إنما فقط كانت هناك تأسيسات وأعراف لها، في بداية بزوغ فجر الدين الإسلامي والرسالة المحمدية.
وهنا الفرق بين القرية والمدينة أو البادية والمدينة، فهي هذا "الدين" الإلزامي الانقيادي، حيث تكون ثمة سلطة ومركزية وحكومة تفرض النظام، لكن في الأطر الحديثة في المعرفة الحضارية الغربية فإن المدينة أو "سيتي" فهي تجمع بشري كبير، يقوم على حرف غير تقليدية كالزراعة أو الصيد والرعي، وتتنوع قطاعات الحرف والإنتاج، كما تتوفر فيها الخدمات مثل الإسكان والمواصلات والمياه والشرب والصرف الصحي الخ.. وحيث العلاقة التنظيمية تحكمها القوانين وضوابط الحكومة، كما أن المدينة قد تعرف بناء على المهام أو الوظائف التي تضطلع بها لتكون ذات طابع تجاري أو عسكري أو ثقافي أو ديني وغيره.
ولا يعرف من ناحية تاريخية متى برزت فكرة المدينة بالضبط، لكن من إطار تحليلي فالمدينة نتجت بعد اتجاه البشر من المستوطنات التقليدية في أماكن الرعي والزراعة المطرية إلى ضفاف الأنهر وحيث قيام مفهوم الزراعة المنتظمة أو التي تدار بواسطة الإنسان، ولا تعتمد على الاستنبات الطبيعي، بالإضافة إلى تعدد الصناعات والحرف، وبالتالي حاجة الناس إلى التعايش في مكان محدد وفق هذه المصالح المتبادلة، ويشار إلى أن الألفية الخامسة قبل ميلاد المسيح، قد تكون هي بداية ظهور المدن بالمعنى الأوضح لها في مناطق مختلفة من العالم القديم. أيضا لا يمكن أن نغفل أن فكرة المدينة مرتبطة أيضا كما عند الإغريق بالتخييل بالمعرفة الفلسفية والثقافة والبحث عن معاني الجمال والتعبير عن الذات الفردية ومبادئ الحرية والقيم الإنسانية العديدة التي شكلت الأساس للتمدن الحديث.
كذلك في كثير من بلدان العالم كان لنشأة المدن أو التقاء الناس حول موقع معين علاقة وطيدة بالمتخيل الديني أو الأساطير أو المرويات والسرديات المتوارثة، بحيث مرات لا نقف بالضبط على بداية واضحة أو جلية على نشأة مكان معين، إنما يصبح الأمر عبارة عن مجموعة من الحكايات حول المكان المعين في معرفة هي ابنة زمانها تمزج بين الواقع والملموس والتصورات الخيالية وأحيانا التوقعات أو الطموحات البشرية في تحقيق ما لم يحصل أساسا منذ البداية، أو تصور تاريخ جديد للمكان بناء على الافتراضات التي قد يكون لها طابع سياسي أو روحي أو معرفي أو مرات مصالح اقتصادية مباشرة ومنافع بين البشر.
في الخلاصات فإن التأمل والغوص في معارف التاريخ والجغرافية في تقاطعها مع اللحظة المعاصرة عبر استحضار سيرة المدن، يفتح الباب لرؤية جديدة قد تساعد في فهم الكثير من المعطيات في عالمنا اليوم، فحياة البشر هي شريط ممتد فيه من الصعود والهبوط، لكن أيضا فيه من الانتظام الذي يقوم على طابع العقل البشري في رغبته الملحة والمستمرة في أن يفهم الأشياء من حوله بدرجة أوضح وأكثر أو أن يعيد التأويل بظن أن يحكي الحكاية الغائبة.