No Image
عمان العلمي

مندوب توصيل يجري في الدم!

20 مارس 2024
20 مارس 2024

نال الأنسولين شهرةً واسعة خلال المائة عام الماضية كعلاج ناجح لمرض السكري، وذلك بفضل جهود العالمين فريدريك بانتينغ وتشارلز بيست وأرواح الكثير من الحيوانات التي قضت خلال تجاربهما الأولى في عام 1921، ولا يزال الكثير يظن أن الأنسولين ما هو إلا دواء أو علاج خارجي يُحقن به مرضى السكري لخفض مستوى السكر في الدم، ورغم البطولة الكبيرة التي يمنحها له هذا الدور إلا أن سيرة فارسنا المغوار (الأنسولين) هي أكبر من ذلك.

يأتي الأنسولين من عائلة الهرمونات، وهي منتجات كيميائية تتكون في غالبها من البروتينات والدهون، ويتم إنتاجها في غدد الجسم، ولكل منها دوره أو أدواره الخاصة التي تساعد على التواصل بين الخلايا وتؤثر على وظائف الأعضاء والأنظمة المختلفة في الجسم.

وبالعودة إلى الأنسولين، بوصفه فارس المقال هنا، فتعود نشأته إلى غدة البنكرياس الواقعة خلف المعدة في الجزء العلوي من البطن، بالتحديد عن طريق خلايا البيتا في البنكرياس، وهو المسؤول عن تنظيم مستويات سكر الدم بمساعدة هرمونٍ آخر يدعى (الجلوكاجون).

فعندما يتناولُ الإنسان طعامه المحتوي على الكربوهيدرات كالخبز والأرز والفاكهة وغيرها، تتكسّر هذه السكريات المعقدة إلى سكريات بسيطة، مثل الجلوكوز، ويتم امتصاصها في الدم، كالبضائع التي تتكدس على أرصفة الموانئ أو الطرقات، وبهذا يرتفع مستوى السكر في الدم مما يدفعُ الجسم لإرسال إشارات للبنكرياس لإفراز هرمون الأنسولين، لذا يمكننا أن

نتخيل أن هرمون الأنسولين يعملُ كساعي بريد، أو كما نقول في أيامنا هذه (مندوب توصيل)، ويعمل على توصيل الغذاء من السكر البسيط (الجلوكوز) لخلايا الجسم المختلفة وتخفيف تراكمه في الدم، وتتناسب الكمية التي يفرزها البنكرياس من الأنسولين مع مستوى السكر المرتفعِ في الدم.

تعرفُ الخلايا هرمون الأنسولين، أنها تملك مستقبلاتٍ خاصة له، فما إن يصل ويلتصق بهذه المستقبلات حتى ترسل الخلايا إشارات خاصة تدفع بناقلات الجلوكوز إلى سطحها لإدخاله إلى داخل الخلية، وبهذا يكون الأنسولين قد أتم عملية التوصيل، واستفادت الخلية من هذا السكر، خصوصًا خلايا الدماغ التي تعتمد عليه كمصدرٍ أساسي للطاقة. ويحدثُ أن تزيد كمية السكر في الدم عن حاجة الخلايا، وعندها يقومُ الأنسولين بإيصالها إلى الكبد -الغدة الأكبر في جسم الإنسان- وتخزين هذه الكمية الزائدة على هيئة (جليكوجين)، وهو شكل سكرّي معقد، للحفاظ على احتياطي من السكر لأوقات انخفاضه في الدم كما في حال الصيام، وهنا يأتي هرمون (الجلوكاجون) لإفراز الجلوكوز للدم من المخزون مرة أخرى، أو سيتم تحويله إلى دهون لاحقًا إذا تراكم لوقتٍ طويلٍ دون استهلاك.

ولا يقوم الأنسولين بهذا العمل مع السكر فقط، ولكنه أيضًا يحفز الجسم لتخزين الدهون الزائدة، ويساعد الأحماض الأمينية -اللبنات الأساسية لبناء البروتين- لدخول الخلايا، وتحقيق أكبر استفادةٍ منها، رغم أن تنظيم معدل السكر لوحده يعد عملًا عظيمًا، حيث إن تراكم السكر البسيط في الدم يمكن أن يؤدي إلى مضاعفاتٍ خطيرة مثل أمراض القلب والأوعية الدموية، وأمراض الكلى، وأمراض العين، وغيرها. ويمكن أن يحدث هذا في بعض الحالات، كمرض السكري من النوع الأول أو الثاني أو في حالات مقاومة الأنسولين.

ففي النوع الأول من مرض السكري، ولأسباب جينية أو عوامل بيئية، يفشل البنكرياس في إنتاج كميةٍ كافية من هرمون الأنسولين، أو في إنتاجه على الإطلاق، مما يؤدي إلى تراكم السكر في الدم دون قدرةٍ على إيصاله للخلايا، فيُصاب الجسم بمضاعفات تراكمه في الدم، ومضاعفات وهن الخلايا بحرمانها من مصدر طاقتها الأساسي، مما يجعل العلاج بحقن الأنسولين ضروريًا، وغالبًا ما يظهر هذا النوع مبكرًا في عمر الإنسان، أما في الحالات الأخرى كمقاومة الأنسولين، ونتيجة -غالبًا- لأنماط الحياة غير الصحية وقلة الحركة وزيادة نسبة الدهون في الجسم، يحدث أن تضعف مستقبلات الأنسولين على الخلايا وتقل استجابتها له حتى مع موجود كمية كافية من الأنسولين في الجسم، وبهذا لا يتمكن المندوب من إيصال الغذاء للخلايا كما يجب، فتتراكم في الدم، وتُعد مقاومة الأنسولين من المؤشرات الأولى لمرض السكري من النوع الثاني الذي يغدو فيه ضعف الاستجابة للأنسولين مزمنًا ومتطلبًا لعلاج طويل وتغيير في نمط الحياة والتغذية.

طبيعة عمل مختلفة

  • خلال الصيام

أما خلال فترات الصيام، فإن الجسم يقوم بتعديل عملياته الحيوية بشكل مختلف لضمان استمرار توفير الطاقة للأنشطة الحيوية الأساسية، ويشمل هذا هرمون الأنسولين كذلك، إذ ينخفض إنتاجه من البنكرياس، ويتجه الجسم لإفراز السكر المخزن في الكبد إلى الدم لتعويض الفاقد، وفي بعض الأحيان، يقوم الجسم بتحويل بعض الدهون المخزنة إلى سكر بسيط (جلوكوز) لتأمين حاجة الخلايا منه وتزويدها بمصدر طاقتها الأساسي، حتى يحين موعد الإفطار وحصول الجسم على الغذاء مرة أخرى، بينما يحتاج مرضى السكري بنوعيه لتعديل أنظمتهم العلاجية وفقًا لنمط الحياة والتغذية المختلفين خلال أيام الصيام.

وهكذا، يعمل الأنسولين، مع بقية الهرمونات المنظمة للسكر، دورًا عظيمًا طوال حياة الإنسان للمحافظة على مستويات السكر في الدم، وضمان وصوله للخلايا بحسب حاجتها إليه، ويعملُ الجسم جاهدًا على تعديل هذه العمل وتنظيمه باختلاف أطوار الإنسان وحاجاته، وتغيرات حياته اليومية، وأنماطه الاستهلاكية، ما دامت ضمن المستويات المقبولة والمحمية بالقرارات اليومية السليمة تجاه النشاط البدني والتغذية.