هل ما زال يمكن إفساد الشباب؟ أو سقراط خارج التغطية
كيف يمكن إفساد الشباب، مرة أخرى؟ ربما علينا أن نذكّر بأنّ قضية سقراط تشتمل أيضا على تهمتين أخريين: إنكار آلهة المدينة وإدخال آلهة جديدة. ولذلك ظل السؤال يدور حول علاقة الفساد بإنكار الآهلة أو اختراع آهلة جديدة، وفي آخر المطاف علينا أن نسأل عن علاقة الشباب بالآلهة. لكنّ المؤكّد قبل كل شيء هو أنّ نكتة الإشكال هنا هي «الشباب» وليس الشيوخ مثلا. كان سقراط شيخا حينما تمّت إدانته. إنّ التهمة إذن هي موجّهة ضد «الشيخوخة» أو ضد استعمال معيّن للشيخوخة، الشيخوخة التي تحوّلت إلى خطر على الشباب وعلى الآلهة القائمة، وذلك لسبب واحد هو إدخال آلهة جديدة إلى المدينة. إنّ نواة التهمة هي الخوف من فساد الشباب في معنى محدّد هو تغيير علاقتهم بالآلهة القائمة وذلك باختراع آلهة جديدة. يبدو دور الآلهة هنا ثانويا في حين أنّ الشباب هم نواة الرهان. كلّ تاريخ سقراط بالنسبة إلينا قد ظل رهين قضية واحدة هي: الدفاع عن الفلسفة في مدينة يُظلم فيها الفيلسوف. لكن عداوة الفلسفة ليست نواة الإشكال. إنّ العنصر الوحيد الذي يخترق العصور في تهمة سقراط ليس إنكار الآلهة فهذا يحدث في كل عصر، ولا إدخال آهلة جديدة فهذا أيضا قد حدث في عصور كثيرة. بل إنّ هذا العنصر هو العلاقة بالشباب.
هذا يعني أنّ الفيلسوف لا يصبح مثيرا للتهمة إلاّ عندما يفسد الشباب. طبعا هو سوف يفعل ذلك بطريقته المفضّلة التي تنحصر في استعمال عمومي حرّ للآلهة سواء بإنكارها أو باختراعها. إنّ الإلحاد ليس هو التهمة الأولى للفيلسوف. ولا هو بالتهمة الأخيرة. صحيح أنّه متّهم بإنكار الآلهة القائمة، لكنّه متهم أيضا بإدخال آلهة جديدة. وهذا يعني أنّ تهمة الإلحاد لا تعدو أن تكون تبسيطا مهينا لمهمّة الفيلسوف، في حين أنّ تهمته الحقيقية والوحيدة هي إفساد الشباب وليس شيئا آخر.
لكنّ هذا يدعونا إلى التساؤل عن نوع العلاقة التي كان يفترضها قضاة سقراط بين التهم الثلاث: إفساد الشباب وإنكار الآلهة القائمة وإدخال آلهة جديدة. ثمّة منطق ما علينا أن نعثر عليه. فبأيّ معنى يؤدي إنكار الآلهة إلى إفساد الشباب؟ هذا السؤال يساوي في صلاحيته كل سؤال مقابل: كيف يؤدي إدخال آلهة جديدة إلى إفساد الشباب؟ وهل يوجد سبب يجعلنا لا نتصوّر الصيغة المعاكسة: بأيّ معنى يؤدي إفساد الشباب إلى إنكار الآلهة القائمة أو إلى إدخال آلهة جديدة؟
قد تعني الفلسفة أنّنا مطالبون باختبار هذه التساؤلات بكل أشكالها. لكنّ المؤكّد هو أنّ نواة الإشكال سوف تظل متعلقة برهان واحد، وهو رهان سياسي صرف، ألا وهو إفساد الشباب، وذلك سواء أكان نتيجة لاستعمال معيّن للعلاقة بالآلهة أو كان سبباً له. وعلينا أن نسأل: «من» يتكلّم هنا باسم الشباب من أجل اتهام الفيلسوف والحكم بإعدامه؟ إنّ «من» هنا «ليست شابة» بالضرورة، وهي بنفس القدر هي «غير فلسفية». تبدو تهمة الفيلسوف تهمة «مسنّة» بالقدر الذي يخرجها من فئة الشباب، لكنّ ذلك لا يجعلها تنتمي إلى فئة الفلاسفة. إنّ «من» التي تتهم تقف في منطقة وسطى بين الشباب والفلاسفة. هل هذه هي المنطقة التي تقف فيها الآلهة القائمة؟ وبالتالي المنطقة التي يتم فيها إدخال آلهة جديدة؟
كلّ جماعة بلغت طور إرساء قواعد معيّنة لما تعتبره «عادلا» أو «غير عادل» هي جماعة صارت مؤهّلة لإصدار التّهم والأحكام. لكنّ ما يدعو إلى التساؤل هنا هو هذا: لماذا تؤدّي الآلهة هنا دورا مركزيا؟ حيث أنّ إنكار الآلهة القائمة مثله مثل إدخال آلهة جديدة هو مشكل سياسي، ويتعلق بنواة أخلاقية واحدة هي إفساد الشباب. علينا أن نلاحظ انزياح الإشكال الذي أدّى إلى التهمة من مجال التألّه (طقوس العبادة) إلى مجال السياسة (إنكار آلهة قائمة أو إدخال آلهة جديدة) إلى مجال الأخلاق (إفساد الشباب). يبدو لنا أنّ المجال الحقيقي للصراع هنا هو مجال غائب أو يظل في العتمة. ونعني به المجال المتعلق بشكل الحياة أو بشكل البقاء. ذلك أنّ «الشباب» ليسوا مجرد فئة عمرية من بين سائر الفئات الأخرى، بل هم يشكّلون مادة المستقبل أو مادة البقاء على قيد الحياة أطول مدة ممكنة بالنسبة إلى المواطنين الأحياء في مدينة ما. علينا أن نرتّب الإشكال على هذا النحو: إنّ صراعا لا مرئيّاً متعلقا بشكل الحياة أو طريقة البقاء (ليس له من ضمانة ميتافيزيقية غير حراسة الشباب بوصفهم مادة الزمان) هو الذي يوفّر في كل مرة مجال الصراع بشكل سياسي (جهاز القضاء بوصفه الصيغة العليا من استعمال المواطنة) حول استعمال عمومي معين للعلاقة بالآلهة (الإلحاد بها أو اختراعها من جديد). هذا يعني أنّ ترتيب المشاكل حاسم هنا: الحياة ثم السياسة ثم الدين. ومن ثمّ لا معنى لأيّ قلب لهذا الترتيب أو للتلاعب به.
إنّ الملة كما فكّر بها التوحيديون هي خطة سياسية مختلفة تماما عن الترتيب الفلسفي الذي وصفناه للتو. إنّها تقوم على ترتيب معكوس: يذهب من العلاقة بالآلهة إلى السياسة إلى شكل الحياة. وبذلك فقرار الملة الأساسي هو: تنصيب الإله في أصل كل مقالة في السياسة تكون نواة لأيّ مقالة في الحياة. يبدو التألّه هنا بمثابة جهاز تشريع لتنصيب نوع من السياسة الذي يؤدي إلى إحداث شكل من الحياة أو البقاء. صحيح أنّ المتهم بإفساد الشباب قد تغيّر. لكنّ نواة الإشكال لم تتغيّر: إنّ الرهان هو دوما متعلق بإفساد الشباب. كما أنّ دور الآلهة قد ظل حاسما وإن كان ذلك في مفردات سردية مختلفة.
علينا، أو آن الأوان كي نسأل الآن ومنذ هنا فصاعدا: أيّة «آلهة جديدة» أدخلها العصر الرقمي في «أذهان» هذه الأجيال ما بعد الحديثة؟ نعني بشكل متعمّد: أجيال «ما بعد الذات» أيضا. نحن أمام مشهد أخلاقي غير مسبوق: «أفراد» بشكل جذري (في تأثيث أجسادهم كما في استعمال عقولهم) لم يعد لديهم أيّ «وقت» لأيّ واجبات أو ديون «هووية» تجاه الآلهة القديمة (الأب، القبيلة، الله، الدولة، العرف، اللغة الأمّ، القيم،...)، لأنّهم اعتنقوا «دينا جديدا» لا شريك له: ألا وهو الدين «التكنولوجي» أو الدين الرقمي. إنّ المبالغة هنا قليلة جدّا وتكاد تكون محتشمة. ذلك أنّ علاقة الجيل الجديد بالتكنولوجية «اليومية» (بالأشياء الرقمية التي تهيكل شكلا غير مسبوق من «العيش» التكنولوجي) هي علاقة «دينية» وذلك أيضا بشكل غير مسبوق من «التديّن». فإذا حصرنا معنى «الدين» التقليدي في أمرين: «الطاعة» و«الدَّيْن»، وجدنا أنّ الجيل الجديد «يعبد» إلها جديدا، لا شريك له، ألا وهو «الشبكة» الرقمية: لم يعد الفرق الجوهري والحاسم بين مؤمن وكافر، أو بين خيّر وشرّير، أو بين صادق وكاذب، أو بين جميل وقبيح، بل فقط: بين «متصل بالشبكة» (connected) أو «غير متصل بالشبكة» (disconnected). علينا أن نقول دون خجل: إنّ ما هو «كوني» اليوم لم يعد مفهوم «الطبيعة البشرية» أو قيمة «الإنسانية» أو ذات «الإنسان» بل «شبكة الإنترنيت» بوصفها المساحة الجديدة لتوزيع جهات الكينونة. لقد تمّت مراجعة تعريف «البشر»: لم يعد «نفسا» وثنية أو «روحا» كتابيّة أو «ذاتا» حديثة، بل فقط «مستخدم إنترنيت» عموما، ولكن في ترجمات تفصيلية لا حصر لها: «مستخدم فيسبوك»، «مستخدم انستجرام» أو «مستخدم تويتر»، الخ... المستخدم اسم أو «معرّف» لكنّه ليس هويّة «حقيقية» بل اختراع رقمي يمكنك أن تغيّره.
لأوّل مرة صارت هوية أحدهم مجرّد إنشاء رقمي أو لغوي يمكنه أن يخترعه بنفسه أو أن يغيّره أو أن يلغيه. وكأنّه شيء لم يكن. هي هوية بلا أيّ عمق أخلاقي أو روحي أو ميتافيزيقي. – لكنّ ما يجعل هذا الرهط الرقمي من الانتماء خطيرا جدّا هو كونه قد صار مدعوما بسلّم قيم على قدر عال من البناء، لعلّ أشهر صورة عنه هو مفهوم «الصداقة» الرقمية.
ربّما لو أمكن لهيدغر أن يعاصر الجيل z - الجيل الذي وُلد بعد ظهور الإنترنت- لوجد تأويلا غريبا لقولته الشهيرة: «اللغة مسكن الكينونة». ولعلّه علّق بسرعة ما بعد ميتافيزيقية: إنّ الكينونة قد غيّرت مسكنها. وهذه كارثة تأويلية: إنّ كلّ ما قالته الفلسفة الغربية من أفلاطون إلى دريدا عن الوجود أو الإنسان أو عن العالم أو عن الله،.. قد كان مجرّد تعاليق ميتافيزيقية مريرة على ما تردّم من معان أصلية في جسم «اللغات» الهندية-الأوروبية باعتبارها هي وحدها اللغة الخاصة بقول «الكينونة». ليكن (!) ولكن ماذا لو أنّ عصر التكنولوجيا الرقمية ليس فقط قد غيّر «لغة» الكينونة، بل قد استغنى بشكل معمّم ومرعب عن اللغات التقليدية، أكانت غربية أم غير غربية،- وعوّضها بلغة رقمية موحّدة وغير هووية بشكل غير مسبوق. لا يوجد اليوم شعب يحق له أن يدّعي أنّ لغته «القومية» هي أصل اللغة الرقمية للإعلامية أو للتكنولوجيا الرقمية. لا يمكن اختزال الرقم في أيّ حرف لغوي طبيعي، يتكلّمه شعب دون غيره. وهذا يعني أنّ «الإنجليزية» مثلا هي ليست لغة العصر الرقمي إلاّ «بالعرض»: هي لغة العصر الإمبراطوري فقط، لغة الحاضر الإمبراطوري فقط، وليست لغة الحقيقة الرقمية.
إنّ كلمة سقراط «اعرف نفسك بنفسك» قد صارت تفرض علينا أن نترجمها في أمر رقمي من هذا النوع: «عرّف بهوية المستخدم الذي تدّعيه عندما تتصل بالشبكة». إنّ «نفسك» هذه قد صارت مجرّد ادّعاء رقمي داخل فضاء رقمي لم يعد يمكن تبريره «ميتافيزيقيا»: لا بالإحالة على طبيعة «الموجود» مثل اليونانيين، ولا بالرجوع إلى سردية «الإله الكتابي» كما فعل التوحيديون، ولا بتأسيسه على «ذات» متعالية كما فعل المحدثون. إنّ الادّعاء الرقمي «كوجيطو» طوبولوجي، يرسم مساحات ويتجوّل فيها، دون أيّ عمق أخلاقي أو هووي. إذْ لأوّل مرة يفرض الانخراط في العصر الرقمي تغيير «النفس» التي يدّعيها كلّ شخص طبيعي عاش قبل ظهور الإنترنيت: هي «نفس» بلا مضمون، ولا نسب عريض، ولا خالق ديني، ولا طبيعة بشرية قبلية. هي مجرّد «مفعول» هووي إجرائي فرضته العلاقة التكنولوجية باعتبارها شكلا غير مسبوق من استعمال الأجساد.
ما فعله العصر الرقمي هو تجريد «الجسد الخاص» من كل صفاته الجمالية أو الدينية أو الأخلاقية أو السياسية: إنّه جسد محايد إزاء نفسه، لا يُطلب منه سوى أن يحرّك فأرة رقمية مربوطة بحاسوب، بعد ذلك تصبح كل فضائله أو رذائله ممكنة تماما. ماذا يستطيع الجسد؟ أن «يفعل». لكنّ «الفعل» أيضا غيّر من ماهيته: إنّ مفهومه قد تغيّر عندما تغيّرت لغته. لم يعد «سياسيا» كما ظنّ الإغريق؛ لأنّ «اللوغوس» لم يعد قولا في طبيعة الموجودات؛ ولم يعد «دينيا» كما ظنّ التوحيديون، لأنّ «الكتاب» لم يعد وحيا بل صار «شبكة معلومات» أو «حاسوبا» أو «قرصا صلبا»؛ ولم يعد «معرفيّا» كما ظنّ المحدثون، لأنّ «العقل» لم يعد ملكة طبيعية تحت تصرّف ذات شخصية مستقلة، بل صار «ذكاء اصطناعيا» يمكن تخزينه وتبادله ومحوه وتغطيته، ..إلخ. إنّ الفعل الرقمي قد صار يتطلّب ليس فقط علاقة جدية بالجسد الخاص بل حتى علاقة جديدة بالمكان: نحن لا نفعل بأيدينا ولا باستعمال «أدوات» – إنّ التصوّر «الأداتي» للتقنية قد انهار هو أيضا. من يفعل اليوم هو ما يتصل بالشبكة بالشكل المطلوب، أي بالطريقة التي يستطيع عبرها أن يطلق طاقة «معلوماتية» رهيبة ولا متناهية، لا يمكنه أن يستثمر منها إلاّ جزءا ضئيلا ومؤقّتا.
ماذا يستطيع سقراط رقمي؟ لابدّ أنّه لن يدّعي هذه المرة أنّه «لا يعرف شيئا»: إنّ شبكة الإنترنيت هي أوّل مكتبة ميتافيزيقية للنوع البشري، صارت متاحة بشكل يبلغ فيها الكرم حدّ الوقاحة. لأوّل مرة باتت المعلومات التي كانت في عصر الفراعنة سرّا من أسرار الدولة، أو كانت لدى الفيثاغوريين عقيدة سرية، أو كانت لدى التوحيديين «وحيا» من المضنون به على غير أهله، أو صارت لدى المحدثين معلومة حكرا على النخبة وأهل الاختصاص،- باتت في متناول أيّ «مستخدم» بما هو كذلك: مستخدم يمكن أن يكون «شخصا» طبيعيا، أو برنامجا آليا، أو حتى «روبوت»، إلخ. إنّ زخم المعلومات قد بات تيّارا جارفا يجري إلى جهة لا متناهية، دون أيّ رسالة لأحد. لكنّ ما لم يعد يحق لأحد أن يدّعيه هو كلمة سقراط القديم: «لا أعرف شيئا». كان ذلك تهكّما جيّدا في «لاغورا» يونانية، وثنية، حيث يتبجّح أبناء البيوتات الكبيرة بمعرفة عالية تسمح لهم بتقلّد شؤون مدينتهم، أي بتقلّد أمور «الحقيقة»، نعني سياسة المدينة. فمن يسوس الأجساد الخاصة يسوس العقول العامة أيضا. أمّا مع العصر الرقمي حيث تحوّل الكوكب إلى شبكة معلومات، فإنّ ذلك التهكّم الجيّد سوف يصبح مزحة غير مقبولة، بين جميع «المستخدمين». من يكون عندئذ سقراط بلا تهكّم؟
ربما علينا أن نقلب المشكل: هل يمكن لآلة أن تتهكّم مثل سقراط رقمي؟ - نحن كثيرا ما نُسأل في بعض المواقع: «هل أنت روبوت؟»؛ طبعا، لا يمكننا عندئذ أن نجيب بكل تهكّم : «كلّ ما أعرفه هو أنّني لا أعرف شيئا»؛ بل، علينا أن نقدّم بعض الأدلة الإجرائية، كأن نجيب عن بعض الأسئلة «الغبيّة» بشكل رائع، حيث يكون الغباء هو الفاصل الذكيّ بين إجابة «بشر» وإجابة «آلة». مثلا: تصنيف مجموعة من «الصور» التي تشترك كلّها في صفة «القطارات». هذا اللجوء إلى «الصورة» الخرساء يجرّد العقل البشري من أيّ ادعاء «ذكي» يقوم على «الخطاب» أي على إنتاج المعنى. وهكذا فإنّ ما يفصل «البشري» عن «الرقمي» ليس شيئا آخر سوى «المعنى»، أي ما لا تستطيع الآلة أن تقصده، وإن كان يمكنها أن تقوله. ولكن لماذا تحتاج الآلة إلى التأكّد من أنّنا «بشر» ولسنا «روبوتات»؟ نحن، مثلا، لا يهمّنا أن نتأكّد من أنّ الآلة ليست «بشرا»، بل بالعكس نحن ندفع بها إلى حدّ يفوق طاقة البشر على التفكير. ونعتبر ذلك إنجازا بشريّا رائعا. إنّ ما يفعله الروبوت الرقمي هو دفعنا إلى معاملة عقولنا، وبشريّتنا، وكأنّها طور رمزي أو أخلاقي غبيّ علينا أن نتجاوزه. كأنّ العقل البشري، من حيث هو ملكة فردية، هو مجرد ادّعاء نفسي متقادم، خاص بنوع من الحيوانات، وقد جاءت الآلة الرقمية لإخراجه من الخدمة. وهي تفعل ذلك من دون أيّ حاجة إلى التهكّم. إنّ عقلا جديدا قد أخذ يتكوّن، لكنّه يتكوّن خارجنا. وهو هذه المرة لم يعد في حاجة إلى «نفس» ناطقة كي تعقله. هو يحتاج فقط إلى أجهزة صلبة وبرامج رخوة، ولكن خاصة إلى معجم رقمي حيث تعمل اللغة خارج أوقاتها، خارج كل استعاراتها التقليدية التي استعان بها الفلاسفة والأنبياء كي يقولوا «معنى» العالم. إنّ اللغة الجديدة بلا «معنى»؛ ومن ثمّ هي لا «تفسد» أحدا: لغة لا يعنيها لا إفساد الشباب ولا إنكار الآلهة القائمة ولا إدخال آلهة جديدة. إنّ «المستخدم» بلا عمر ولا سنّ ولا وجه؛ هو ليس «شابّا» بالنسبة إلى الحاسوب؛ هو مجرّد مستخدم، أي روبوت ممكن وإن كان في جسم حيوان ناطق. كذلك لا تعترف الحواسيب بأيّ «آلهة»، قائمة أو منقرضة، إذْ أنّ صفة «الألوهية» ليس لها دالّة رقمية يمكن حسابها. وأخيرا لا يمكن أن ننتظر من روبوت رقمي أن يقترح علينا نوعا جديدا من «الإيمان». كلّ هذه الاستحالات يمكن أن نجمعها في هذه الملاحظة: إنّ الروبوت عاجز عن التهكّم.