هل قتل تولستوي آنا كارنينا أو قتلها المجتمع؟ منعطفات الوعي والتجربة بعيون سورية كندية
لماذا قتل تولستوي آنا كارنينا؟!
منعطفات تشكل الوعي الفكري والنفسي التي لها الأثر في كتاباتي شاسعة ومتعرجة كالطريق بين كندا وسوريا، بين تورنتو مدينتي التي أسكنها الآن، وبين ديريك المدينة وحلب وحمص حيث درستُ وعشت. القراءات وبأكثر من لغة كانت النبع الذي إليه أذهب كي أروي عطش الأسئلة التي كانت في ذهني منذ أولى مراحل الوعي.
فيما يزيد عن ربع قرن من الهجرة إلى كندا تغيرت فكريا وأصبحت جدة ولي كتب مخزونة أتمنى أن يسعفني الوقت لإنجازها قبل الوصول إلى خط النهاية.
بدايات الرحلة مع الكتاب
حين كنت طفلة وأقرأ كثيرا، أذكر أول كتاب قدمت له عرضا في المدرسة كان استعارة من مكتبة المدرسة.كان مطلوباً من طلاب الصف تقديم ورقة لحصة الإنشاء والتعبير في المدرسة الابتدائية. قرأت رواية آنا كارنينا للكاتب الروسي ليو تولستوي. وأذكر أنني غضبتُ عليها وحكمت عليها بمنظور أخلاقي اجتماعي سائد آنذاك، رأيتها امرأة تستحق العقاب لأنها أخلت بالقوانين العائلية والطبقية. وصفقت لي المعلمة والطالبات حينذاك.
وبعد مرور ما يزيد عن نصف قرن من الزمن على تلك المرحلة، أقف في ركن بعيد عن البيت الأول لأسأل: لماذا قتل تولستوي آنا كارنينا بطلة روايته التي أحببناها؟ وهل قتلها الروائي عقابا لها على أفعالها، ليقدمها أضحية للمجتمع، أو قتلتها العادات والتقاليد السائدة، أو كان انتحارها إدانة للمجتمع نفسه؟!
ويرتبط السؤال بآخر حادثة قتل قرأت عنها في منصات سوشيال ميديا، قتل شابة جميلة كانت تغني في السودان. ترى من الذي يقتلنا في الشرق عدا الطغاة الكبار والحكام الذين بيدهم السلطات العسكرية والتشريعية؟!
نحن الأفراد، أبناء تلك المجتمعات نقتل بعضنا لمجرد خروج بعضنا عن الخط العام، وذلك قتل بأكثر من صيغة ويقف حاجزاً في طريق التقدم المدني الذي يرفعنا عتبة أخرى على صعيد التقدم الاجتماعي والفرح الفردي.
**
أكتب ما عجزت أمهاتنا عن الوصول إليه
في بيتي الأول في ديريك، أقصى الشمال الشرقي في سوريا، ولدت وعشت حتى مرحلة الثانوية العامة. كنت أستعير الكتب وأقرأ لأن اللعب في الحارة لم يشف فضولي الطفولي. لم أنشأ محاطة بالكتب في البيت، بل محاطة بالسؤال المتمرد والخجول الذي كنتُ أبحث عن إجاباته بين الكتب التي كنت أستعيرها من مكتبة المركز الثقافي في المدينة التي تقف على حافة الريف والمدينة من حيث الطابع العمراني والاجتماعي. لم يكن في بيتنا مكتبة. هناك الجيران يتقاسمون الخبز والحكايات والثرثرة الفضولية، ويعرفون كل ما يجري في بيوت الحارة. يعيشون بتآلف وحذر كخليط متناغم من قوميات وأعراق عدة هي: السريانية والعربية، والكردية، والإيزيدية، والأرمنية. كان ذلك في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين وكم اختلف الحال الآن في سوريا في العقد الأخير من هذا القرن حيث قذف بآلاف السوريين إلى الشتات محملين بأسئلتهم ومخاوفهم وطموحاتهم القلقة. كانت الكتب رافدا للمزيد من الأسئلة والفضول.
أقف هنا بكامل غربتي لأجمع في رأسي فضائل وضحايا عالمين متناقضين ومتباعدين جغرافيا وأكتب قصتي بصوتي كخليط يشبه طريقتي في التفكير والرؤية وبحرية ليست كاملة ما دمت أكتب للنشر غالبا في الصحافة ودور النشر العربية.
***
الخطوات الأولى في كندا. كل
مهاجر هو آخر ويثير الريبة.تدرجت في عملي اليومي من نادلة في مقهى وطالبة على مقاعد المدرسة لتعلم اللغة، إلى الوقوف أمام القضاة والبوليس والمحامين والمساجين وضحايا العنف المنزلي للترجمة لهم من العربية إلى الإنجليزية، وبالعكس. وهذه تجربة لا بد أن تترك الأثر وتنغرز في صلب اللغة والكتاب الذي أحرره والذي يحمل عواصف روحية وطبيعية.
وكي أتعلم أبجدية المكان الجديد واللغة الإنجليزية أحاول أن أطور أدواتي المعرفية. ذهبت إلى دراسات في حقل الترجمة الفورية والتحريرية وقمتُ بتدريسها وتدريب الطلاب الراغبين في العمل في حرفة الترجمة الفورية. درستُ في برامج متفرقة وخاصة الكتابة الإبداعية، في الجامعة وأونلاين. عرجتُ على حقل العلوم الاجتماعية وعملتُ في مركز للنساء المعنفات. كتبت عن هذه التجارب في مقالاتي الصحفية منذ بداياتي في النشر عام 1998. كانت الصحافة المهجرية والصحافة اللبنانية والعربية كريمة وتستقبل أغلب كتاباتي رغم الرقابة والقص بين مقال وآخر. لم ينشر لي ما يذكر في الصحافة السورية رغم أنني حاولت أن أراسل بعض المجلات في بداية انطلاقي في الكتابة. وكان العالم لي بيتا وكنت غريبة الروح في كل البيوت.
هنا لا أعرف جاري الذي يسكن في الشقة المجاورة. ربما أنا الغريبة البرية، أسير وفي رأسي أسئلتي ولا ألتفت. علمتني الغربة الحذر والحواجز والحدود أيضا. لم يعد البيت مكانا للقاء بل المقهى. الغرباء يخافون بعضهم بسبب التشجيع على الفردية اعتماد مبدأ التعددية الثقافية في كندا، وهي سلاح ذو حدين بنظري. إذ تصبح هذه الخلايا المتعددة الأعراق جيوبا منكمشة على نفسها، ويصبح الخروج عن القوقعة والانخراط في الخط العام محفوفا بالريبة من الآخر. الآخرون ليسوا الجحيم، فكل فرد حامل لجنته وجحيمه وفصوله الفردية.
***المراحل العملية في الحياة الواقعية كان لها شديد الأثر على صفحات الكتابة. أعتقد أنني تعلمت دروسا في الكتابة من ورشات الكتابة كما تعلمت من تجربة العمل في المقهى أو في مأوى النساء المعنفات. كما تعلمت من الجلوس للقراءة والكتابة وأنا أراقب رواد المقهى أو وجوه اللاجئين والمهاجرين الجدد حين أعيد سرد قصصهم بلغتين، العربية والإنجليزية. أين سأذهب بكل هذه المشاهدات إن لم أضعها في كتاباتي وبطريقة خلاقة نسميها إبداعا!.
****
هل الهجرات عقوبة أم نجاة أم أنها قصة الحضارة منذ بدء التكوين والتدوين؟ الوجود برمته قائم على الهجرة والفقد منذ أول ذكر وأنثى على هذه المعمورة كما تشير الأساطير والكتب. الهجرة الأولى أو النفي لأجدادنا الأوائل آدم وحواء جاء كعقوبة، ومنذ ذلك الحين ونحن نحاول أن نتجذر في الأرض ونبني بيتا. كان بعدها هجرة نوح وآل بيته ومخلوقات الأرض الصغيرة، مكافأة للنجاة من بلد يعم فيه الخراب وقبل أن يغمر الطوفان المكان. وكان لابد دوما من حمامة سلام تدلهم على بيت ليسندوا إليه غربتهم وأقدامهم وأحلامهم المتعبة المترعة بالخوف من المجهول.
الهجرة الثانية كما يوثق التاريخيون كانت هجرة الأفارقة في القرن الخامس قبل الميلاد وتبعتها موجات متعاقبة، إلى أن صار حق الهجرة واللجوء حقا إنسانيا يرد في لائحة حقوق الإنسان. وصار حق اللاجئ في الحصول على خدمات الترجمة مكفولا أينما ذهبنا، وحقا شرعيا ومتوفرا في البلاد الأوروبية وأمريكا الشمالية.
*****الهجرة حكاية البشرية والغرباء في الأرض
يبدو أن الإنسان يحتاج إلى حكاية من الخيال ومن الواقع كي توسع حدود معرفته بالعالم. وكلما عرف واختبر وابتعد عن البيت الأم يزداد حضوره وغيابه اشتباكا في هذا الكون.
أتحدث هنا عن حالة عمومية لها خصوصيات لدى كل فرد. ما موقعي من هذه الخريطة الكونية ككاتبة وامرأة؟
أجلس الآن على مقعد خشبي وأعاين امتداد العشب الأخضر أمامي ويكثر فيه الورد الأصفر الوحشي الذي يجب قصه كي لا يقتل العشب. أو لنقل أنا جالسة في متنزه صغير بجوار البيت ويصلني صياح أولاد من الحضانة المجاورة. يلعبون في حديقة المدرسة. ألوانهم متباينة، أغلبهم سود وشوكولاتة. تقول لهم المعلمة: اركضوا. وبعد الركض هناك مغريات للأكل قبل انصرافهم إلى أهلهم الذين يعملون في مكتب ما من هذه المدينة الملونة.
******
الكتابة في جوار الطبيعة بعيدا
عن العمران الإسمنتي الشاهق. أكتب ما أرى، ثم أعود إلى البيت لأكتب في البعد الآخر..
لماذا خرجت إلى هناك وجلست أكتب باستخدام هاتفي الجوال، ولا أحد غيري في الساحة كلها؟ الهواء بارد قليلا، يأتيني اتصال من العمل، أقفل صفحة السرد كي أعرف ما العرض؟ وما العمل المطلوب؟
يبدو أنني لم أنجز عملي كما يجب. قرأت الإيميل المرسل. هناك تنبيه لي والسبب: كان لدي عمل ولم أذهب إلى الشركة في الوقت المحدد. لم أستطع أن أكتب لهم عذري وانشغالي العامر بقصيدة حب أو بكتابة ورقة عن الهجرة وأثرها على تجربتي الإبداعية رغم إخلاصي لعملي الذي أعتبره إنسانيا، إذ أخدم شخصا فقد لسانه حين هاجر من بلده إلى هذه الأصقاع ولذلك يحتاج لساني كترجمانة. أسرع في الكتابة كي ألحق بخواطري التي تتقاذفني بين شرق وغرب. أفكر في تبرير هذا الخطأ!
ويمر القطار الأخضر والأصفر بالقرب من كتف هذه الساحة. هناك طيور سعيدة والسناجب تلعب. رائحة الأرض والعشب الأخضر منعشة. ألتقط صورة للقطار وأدندن بنفسي قصيدة الشاعر العراقي مظفر النواب «الريل وحمد» لست حزينة ولا أحد يستطيع أن يوقف القطار والأفكار وتداعيات جاكلين في كل خطوة. أتذكر بيت أبي في البلاد حيث نشأت محاطة بالأشجار، وربما لذلك ألوذ بالمتنزهات التي تقف قبالة مساحات إسمنتية شاهقة في مدينة تورنتو التي تستقطب المهاجرين من العالم ومعهم ألسنتهم الغريبة التي تحمل الأسى والأمل.
******
لغة البيت الأول والفقد الكبير
أعود إلى الهجرات الأولى وأسأل: ماذا كانت لغة آدم وحواء؟ هل كان لديهم ترجمان أم كانت الأفعى تتكلم أيضا؟. لا نعلم. مهنة الترجمان قديمة قدم بابل بيت أجدادي الأوائل. الألسنة الأولى كانت آرامية وأنا لساني الآن عربي ويخزن قبلة بكل لغات الأرض للحب الذي أفقده كل يوم وأعثر عليه في طيات قلبي وإليه أسافر دون بطاقة سفر. الحب ونقيضه، الحب وعقابه، الحب ببعده الكوني هو أصل الحكاية، هو سيرة الجسد في سفره وفي بحثه عن الخلاص من الحرب، من الفقر، من الموت دون أثر يذكر. اللجوء إلى الحياة حق كل فرد، والحكايات المكتوبة الوثيقة المهجرية التي نتركها للتاريخ كل بلغته وتجربته. الكرامة والخبز والورد كانت قبلتي في الكتب وبحثي وسعيي في هذه الأرض. سنعيش ونموت في حنين إلى المفقودات الكثيرة في تاريخنا المعاصر القلق والمخيف. لقد وصلنا إلى الذكاء الاصطناعي في زمن شح الروح الإنسانية. الفقراء في الأرض كثر والمعذبون في طاحونة الحرب والشتات كثر، فلماذا لا يخترعون لهم حلولاً حتى الآن و بذكاء إنساني عادل! سنختار الحلول الجمالية في الكتابة الروائية والشعرية والحكايات.
*****
دراسات الشتات والترجمات في
حقل الدراسات الإنسانيةالمهجر أو النفي واللجوء إلى الآخر للبحث عن الأمان والعيش الكريم، سيرة طويلة ومع ذلك نجد في الجانب العربي تقاعساً في دراسة هذا الحقل وأثره في رحلة الحضارة المدنية المعاصرة. في كندا وجامعاتها هناك حقل لدراسات الشتات (ديسبورا) المهجر. وهي هذه حمولة ثقافية وفكرية سوسيولوجية وسيكولوجية تضع الآداب الحديثة تحت مجهر التحليل للخلوص إلى معرفة مغايرة للسائد. إنهم يدرسون ثقافتنا ولغتنا. خلال تجربتي الميدانية تمت استضافتي في عدد من الجامعات الكندية للحوار مع الطلبة حول اللغة والمنفى، المكان الجديد ومصاعب الرحلة، الحرية والرقابة والقمع في البلاد العربية وسوريا، وذلك يقع في حقل الدراسات الإنسانية وآدابها.
في كندا والعالم يستضيفون (الآخر-المهاجر واللاجئ) في ندواتهم ومنابرهم من أجل فتح باب التقارب والتفاهم الذي قد يبقى ناقصاً بين هذا العرق وذاك. إذ نلاحظ لدى بعض الشعوب تلك العنصرية العرقية المتزمتة التي تظهر بشكل مبطن أو معلن أحيانا.
وخلال التجربة لاحظتُ في البدايات ذلك التهيب والقلق من الحديث بلغة غير اللغة الأم فيها «لكنة» ليست إنجليزية خالصة. والخوف من العثرات الذي يؤثر على الأداء بصورة أو بأخرى. أذكر أنني في أيام الهجرة الأولى كنت أتردد في طرح أي سؤال حين أذهب لحضور أمسية أدبية. كنت أخاف أن أخطئ، أخجل من لكنتي السورية-الانجليزية، أخشى أن يكون سؤالا في غير مكانه، وإلى أن تعلمت أن أعتقل خوفي وأحرر لساني وأطلقه كما هو في هذا الشتات اللعين الثمين.
***
قراءة الأدب الكندي وباللغة الإنجليزية والأثر
تركزت قراءاتي في السنوات الأخيرة على الإنجليزية، وبشكل خاص الأدب الكندي الذي قدمتُ الكثير من المقالات والدراسات عنه. منذ أيام وقع في يدي ديوان شعري لكاتبة كندية معروفة روائيا اسمها كارول شيلدز، وعنوان الديوان «القدوم إلى كندا». أثار العنوان فضولي، فحصلت على الكتاب كي أتعرف على شيء يشبهني في التجربة. حين علمتُ أن الكاتبة هاجرت في طفولتها من أمريكا إلى كندا مع أسرتها، ابتسمت وقلت لنفسي: هذه لا تشبهني في رحلتها لأسباب كثيرة: أمريكا جارة كندا الأقرب ومتشابهة في كثير من الطقوس. اللغة واحدة وهذا أصعب مأزق يواجهه الكاتب حين يهاجر إلى بلد لا يجيد لغته، أضف إليه أن الهجرة في السنوات المبكرة من العمر تختلف حمولتها الوجدانية عمن يهاجرون في سن متقدمة من العمر.
لا أدري ماذا كانت ستفعل الكاتبة مارجريت أتوود الكندية المعروفة عالميا لو أنها اضطرت إلى اللجوء وإلى بلد بعيد مثل سوريا أو السعودية؟ ماذا كانت ستكتب؟ وكيف؟ وبأي لغة؟
دراسة أثر الرحلة في الكتابة
بناء على ما سبق أنا وكتاباتي خليط حضارتين ولغتين وثقافتين. حفيدتي اسمها آنا، أمها كندية إنجليزية وأحاول أن أعلمها بعض الكلمات العربية. أحاول يوميا لإيجاد قاعدة للتوازن بين هذه المتغيرات وهي كثيرة وتطال العلاقات الخاصة والعامة. في الجلسة الواحدة يصدف أن يجتمع أصدقاء من دول العالم في مكان عام أو في زيارة شخصية عائلية. تتقاطع اللغات واللهجات ووجهات النظر وتتنافر. الأزياء وأطباق الأكل تتنوع ويتجه الحديث نحو الذاكرة القديمة والمشاهدات اليومية. وجهات النظر حول ما يجري من حروب اليوم تتقافز إلى مائدة الحديث وتربكنا أحيانا. نختلف فيما بيننا، نختلف مع أنفسنا أيضا ونتابع الرحلة. وأعود إلى بيتي لوحدي لأكتب اغترابي. وأكمل حكاية هذا الإنسان المقهور في الطريق الذي لا يؤدي إلى الجحيم الكوني، في الحلم بأن الإنسان أذكى من الآلات التي اخترعها والقوانين التي سنها على مر الحضارات.
جاكلين سلام شاعرة وكاتبة سورية مقيمة في كندا