هل ثمّة مستقبل في انتظارنا؟
هل ثمّة مستقبل في انتظارنا؟ ربّما يكون هذا هو السؤال الفلسفي الذي صار إلى مهمّة الفكر الأولى اليوم في ضوء الأزمات العالمية الإيكولوجية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية. إنّنا قبالة سؤال لا يولد من نوع من الترف الفكريّ، إنّما هو إشكال أنطولوجي خطير ينبثق من قلق عميق إزاء ما يحدث لنا اليوم في عالم يبيع «الموت الكونيّ» في سوق حضارة السلع والحروب الدائمة. هكذا يبدو المستقبل المكان الأكثر هشاشة بالنسبة لنا نحن سكّان الجغرافيا الأكثر استهدافا، في عصر نهاية التاريخ ونهاية الإنسان وانتعاش تجارة الأديان. في هذه المواقع غير المضمونة يكتب فاليري الشاعر والأديب الفرنسي المعاصر «أنّ المستقبل لم يعد كما كان». لكن كيف كان المستقبل؟ وهل يمكن للماضي أن يكون مكانا مناسبا لولادة المستقبل؟
بدءا نشير إلى أنّ السؤال عن المستقبل هو سؤال حديث في جوهره، وقد وُلد هذا السؤال حينما تمتّ إزاحة الإجابة اللاهوتية من سماء الإنسانية. وبوسعنا القول إنّ الإنسانية القديمة كانت تتعلّق بالآتي وفق مقولة القدر أو الغيب الذي هو دوما من علم الله. أمّا الإنسانية الحديثة فقد أنجزت لنفسها مفهوم المستقبل كأفق لما يمكن للبشر أن يفعلوه بحريّتهم الجذرية. إنّ مفهوم الحريّة الذي أصبح صفة ميتافيزيقية للإنسانية الحديثة هو الذي جعل السؤال عن المستقبل ممكنا. هذا ما اكتشفه الفيلسوف الألماني ايمانويل كانت الذي أسّس السؤال عن المستقبل في باحة السؤال الكبير «ماذا يحقّ لي أن آمل؟». لأنّ البشر ههنا لا يأملون من المستقبل إلا ما هم قادرون على صنعه بوصفهم كائنات حرّة، إذ لا أحد بوسعه توقّع ما يفعلونه بحرّيتهم. لأنّهم قد يفعلون الشرّ وهذا أيضا نتاج حرّيتهم الطبيعية.
يقول نيغري المفكّر الإيطالي المعاصر «نحن نعاني من المستقبل» ويقول كاتب فرنسي آخر «إنّ المستقبل ملك لمن هو جدير به». فهل نحن نعاني من المستقبل من هول ما يعد به، أم أنّنا لسنا جديرين به؟ أو هل نكون ثقافة تعاني من الماضي وليس من المستقبل؟ وإزاء هذه الأسئلة قد يكون برجسون على حقّ حينما قال «إنّ فكرة المستقبل أكثر خصوبة من المستقبل نفسه». لكن هل ثمّة مستقبل في انتظارنا؟ لقد تمّت معالجة هذا السؤال من خلال ثلاثة مقاربات: الأولى في علاقة بمفهوم الأمل في التقدّم الأخلاقي والثانية في العلاقة بمفهوم الكارثة والثالثة تقول بأنّه يمكن إنقاذ المستقبل انطلاقا من خطّة معرفية وفكرية وتربوية وإيكولوجية شاملة تجعلنا نعتبر الأرض وطنا للجميع.
1) كيف نكتب تاريخ المستقبل؟
وهو سؤال طرحه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت وأجاب عليه في أفق ضرب من التفاؤليّة الفلسفية العميقة القائمة على مفهوم المحبّة بحيث يكون السؤال التالي: «هل ينبغي أن نحبّ النوع البشريّ؟ أو أنّ الأمر يتعلّق بموضوع علينا النظر إليه بعين الريبة؟». ثمّة إذن ضرب من العلاقة بين محبّة النوع البشري وبين الأمل في أن يتقدّم نحو الأفضل. وهو الأمر الذي يقتضي ضرورة تأسيس فلسفة المستقبل على ما يسمّيه كانت استعدادا أخلاقيا في الطبيعة البشرية يجعلنا نأمل في أنّ البشر في تقدّم مستمرّ نحو الأفضل وبأنّ الشرور التي يقترفونها إنما هي آيلة إلى الاندثار. إنّ ما يبحث عنه كانت في هذا النصّ هو إذن «حبّ كونيّ» هو شرط الأمل في التقدّم نحو الأفضل. وذلك لأنّ الأمل في أزمنة أفضل، يمثّل بالنسبة إلى كانت الشعاع أو النور الذي لا ينفكّ يضيء قلوب كلّ العقول النيّرة. وحده من يكره النوع البشريّ يعتقد في أنّ المستقبل لن يكون غير جملة الشرور والكوارث والتعاسات التي لا يقدر البشر على إتيان غيرها. إنّ كانت إذن يدحض ههنا أطروحة ماندلسون وينبّه الفلاسفة إلى أنّه قد آن الأوان لكي يسهموا في إنجاز الأمل في مستقبل أفضل. قائلا «إنّ الستار لا بدّ في النهاية أن يسقط» وعلينا ألا نكتفي بالفرجة على إنسانية تخبط خبط عشواء من سيّء إلى أسوأ.
وفي إطار التأسيس الفلسفي لفكرة التقدّم يعتبر الفيلسوف الألماني ايمانويل كانت أنّ فكرة نهاية العالم هي فكرة حمقاء لا تصلح إلا للفاشلين من البشر. ويسأل مستنكرا ضمن نصّه الموسوم نهاية كلّ الأشياء (1794): لماذا نعتقد دوما أنّه ثمّة نهاية للعالم ؟ ولماذا نتصوّر دوما أنّ هذه النهاية مرعبة بالنسبة إلى كلّ النوع البشريّ ؟ إنّ السؤال عن نهاية العالم يضلّل العقل ويجعله يتيه في ثنايا لا تؤدّي لأنّ العقل البشري عقل متناه ولا يمكنه أن يتخطى حدود تناهيه. وفي القسم الثاني من كتاب نزاع الكلّيات (1798) يستعيد كانت السؤال عن الأمل في التقدّم مرّة ثانية ويعنون هذا القسم «في استعادة السؤال التالي: هل أنّ النوع البشري في تقدّم مستمرّ؟» وهنا تحديدا يولد السؤال عن كيف نكتب تاريخ المستقبل. وفي هذا السياق يفتتح كانت هذا النص كما يلي: «إنّنا نطالب بكتابة فصل عن التاريخ البشري، بالمعنى الحقيقي، لكن ليس تاريخ الماضي إنّما تاريخ المستقبل..». وهنا يقع التمييز بين طريقتين لكتابة المستقبل: تلك التي تتمّ عبر التوقّع (أي الذي يخصّ المؤرّخ) وأخرى تتمّ عبر التنبّؤ (الخاص بالنبيّ). ويجمّع كانت كلّ الطرق التي كتبت بها الإنسانية تاريخ المستقبل في ثلاث أطروحات: الأولى تقوم على أنّ التاريخ البشري هو في سير دائم نحو الأسوأ. والثانية تقول بأنّ البشر في تقدّم مطّرد نحو الأفضل دوما. أمّا الثالثة فتعتقد أنّ البشر لا يتقدّمون نحو أيّ شيء بل هم في حالة خبط عشواء وعبثية دائمة، ذلك أنهم يرسبون في نفس الوضع من التعاسة دوما. أمّا الأولى فيسمها كانت بالإرهاب الأخلاقي، أمّا الثانية فهي استبشار مشطّ وأحمق، والثالثة فهي عبثيّة تماما. وخلاصة القول: إنّ هذه التصوّرات الثلاثة ليست ناجعة في إنجاز شكل أفضل من المستقبل.
إنّ الحلّ الذي يقترحه كانت لهذه الوضعية الإشكالية إذن هو التالي: إنّ التقدّم البشري نحو الأفضل لا ينبغي التفكير فيه انطلاقا من التجربة التاريخية فقط. فالماضي ليس هو الطريقة المناسبة لبناء المستقبل. ذلك أنّه بوسع الإنسانية أن تتقدّم رغم كل الشرور التي تنحدر بها نحو الأسوأ. وعليه فإنّه حتى في حالة إدراكنا أنّنا نسير إلى الوراء، فإنّه لا ينبغي علينا رغم ذلك أن نفقد الأمل في القدرة على إدراك «نقطة الانعطاف» التي تقود مجرى الأحداث نحو الأفضل. كيف يحدث هذا الأمر؟ يجيبنا كانت: بفضل الاستعدادات الأخلاقية للنوع البشري. لكن فيم تكمن هذه الاستعدادات؟ إنّها تكمن في قدرة البشر على الحرية، فنحن كائنات تسلك دوما وفق الحريّة، إذ بوسع هذه الحريّة أن تملي علينا ما ينبغي علينا أن نفعله، لكنّها لا تستطيع أن تتوقّع ما سنفعل..
صفوة القول إنّ هذه الفكرة التي اقترحها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، - أنّ المستقبل هو التقدّم الأخلاقي-، هي فكرة أسهمت في تأسيس عصر التنوير على نحو عميق، وانتشر هذا المفهوم منذ القرن الثامن عشر وصار إلى حركة فكرية وثقافية واسعة، أنجزت فيها الإنسانية الحديثة كل معالم العالم الحديث القائم على التقدّم العلمي والحضاري بعامّة. غير أنّ ما حصل في القرن العشرين من حروب وكوارث جعل الأمل الكانتي في التقدّم يتحوّل إلى كابوس يجري تشخيصه ونقده من طرف روّاد مدرسة فرنكفورت بخاصّة، ومع بنيامين تحديدا.
2)التقدّم هو الكارثة:
يعتبر الفيلسوف الألماني والتر بنيامين أكثر المفكّرين تشخيصا لفكرة الكارثة، بحيث يذهب في كتابه أشكال العبور: «ينبغي أن نؤسس التقدّم على فكرة الكارثة.. وأنّ الجحيم ليس أمرا ينتظرنا إنّما هو ما نعيشه الآن». ومن أجل بيان هذه الفكرة سيجد بنيامين في لوحة بول كلي «الملاك الجديد» تجسيدا لدلالة عصر ملتفت نحو أشلاء الماضي، لكن عاصفة تبسط أجنحته وتدفعه نحو مستقبل لا يكفّ عن الالتفات عنه. وإنّ ما نسمّيه تقدّما ليس في تصوّر بنيامين غير «كارثة الغرب الإمبريالية»،(الحرب العالمية)، هي كارثة بلا أنوار. والسبب في هذه الكارثة هو غياب نظرية إتيقية، كفيلة بأن تمنع تحوّل التقدّم إلى ضرب من البربريّة. نحن هنا إزاء ما يسمّيه بنيامين «صوفية الموت الكونيّ التي تنتشر في العجيج المزعج لآلاف الأقدام المفهوميّة». إنّ والتر بنيامين لا يؤثّم العقل التكنولوجي فقط: بل يؤثّم الفلسفة الألمانية أيضا. فهو يرى أنّ المثالية الألمانية قد حوّلت النجاح التكنولوجي إلى فشل وتعاسة ومنطق تدمير. فهي بهذا المعنى فلسفة لم تسهم فعلا في بناء أخلاقي ينمو على وتيرة التقدم التكنولوجي. إنّ الحلّ الذي يقترحه بنيامين هو التالي: ضرورة تجميع كل القوى العقلية لا فقط من أجل مقاومة المخاطر الكارثية لحرب جديدة، بل وبخاصة من أجل مقاومة كل الحيل الضمنية للخطابات المفهومية أي أشكال التمويه والمخاتلة التي تقع للطبيعة وللتكنولوجيا.
3) كيف يمكن إنقاذ المستقبل؟
عن هذا السؤال يجيبنا إدغار موران في أحد أهم كتبه الأخيرة بعنوان السبيل لأجل مستقبل البشرية وفيه يشتغل الفيلسوف الفرنسي على «البحث عن السبيل التي من شأنها أن تنقذ البشرية من الكوارث التي تهددها». أمّا عن الرهان الكبير فهو التدرّب على صناعة الأمل علما وأنّ «ما نستطيع أن نأمل فيه ليس أفضل العوالم الممكنة بل إقامة عالم أفضل». ينطلق ادغار موران من تشخيص لوضعية العالم اليوم منذ ثمانينيات القرن الماضي التي تزامنت مع سقوط الاقتصاديات الاشتراكية وانحدار العالم نحو الرأسمالية المتوحشة كنظام عالمي للسيطرة على كل مجالات الحياة. وهو نظام أدّى إلى ظهور العديد من الأزمات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والديمغرافية والسياسية....ما حدث من أزمات عالمية صلب العولمة الغربية والنيوليبيرالية جعل «الغرب يشعر في داخله بنقص حادّ: إذ تتزايد العقول العاجزة المنادية باستخدام التحليل النفسي.. وتمارين اليوغا الهندية والتأملات البوذية وباللجوء إلى المشعوذين..». لقد دفعت هذه المسارات نحو الهاوية بالعالم إذن إلى سلسلة من الأزمات المعقدة والمتشابكة والمتداخلة معا. أزمة في توحيد الإنسانية بانهيار أسطورة التقدّم الغربية وعودة الهويات الثقافية. أزمة بيئية مع تزايد تدهور المحيط الحيوي والاستغلال المشطّ للطبيعة. أزمة اجتماعية صلب الحضارة الغربية نفسها القائمة على أنانية الأفراد التي دمّرت أواصر التضامن التقليدية. أزمة ديمغرافية تمظهرت مع تزايد عدد السكان في البلدان الفقيرة وانخفاضها في البلدان الغنية. أزمة سياسية تتجلى في عدم قدرة السياسيين على التفكير في هذه الكوارث معا ومواجهتها. أزمة دينية بحيث «تعيش الأديان بدورها أزمة، فهي من جهة قد تراجعت بسبب تطور العلمانية على حسابها، ومن جهة أخرى تعاني من الصراعات الداخلية بين الطوائف المتناحرة..». حول هذه الوضعية الكارثية التي تهدد الإنسانية يكتب إدغار موران ما يلي: «إنّنا نغرق في عصر حديدي كوكبي..ذلك أنّ الرأسمالية المتوحشة ليست هي الخطر الوحيد الذي يهدد الإنسانية اليوم، بل هناك أيضا التعصب المسعور والديكتاتوريات المتصلبة».
أمّا عن السبيل نحو مستقبل البشرية فقد تمّ تفريعها إلى سبل كثيرة من أجل الأمل في مستقبل أفضل. السبيل الأولى هي «الوطن –الأرض» بوصفها مشتركا كونيا يجمع الإنسانية جمعاء خارج حدود الدول والخرائط الاستعمارية التي صممتها الدول الإمبريالية. ثانيا ضرورة التخلص من وهم السيطرة على العالم القائمة على أسطورة التقدم الغربية. ثالثا الإصلاح المعرفي والتحول من الفكر البسيط إلى الفكر المركب أي إدراك ترابط المعارف وتشابكها في أفق إصلاح شامل لنمط تفكيرنا ولنمط حياتنا وذلك عبر إصلاح تربوي شامل أيضا وسياسات تكافلية وتهجينية. رابعا على الإنسانية أن تدرك أنّها تتقدم باتجاه الكارثة وذلك يعني أنّ المشترك بيننا اليوم هو الهلاك لكنّ الاستباق على الكارثة يمكن أن ينقذنا منها.. خامسا ينبغي علينا أن نخفّف من سقف طموحاتنا. المطلوب ليس السعادة بل التخفيف من البؤس الناتج عن التفقير والتصحير والعنف والحروب الدائمة بين الأصوليات..سادسا: إنّ هذا التاريخ هو الذي أُنهِك وليست قدرات البشرية الخلاّقة.
خلاصة القول إنّ العقل البشري مطالب بالاستثمار في صناعة الأمل. أمّا المبادئ الكبرى لفلسفة في الأمل فهي تقوم على أنّ «السبيل العظمى لا باب لها. إنّ آلاف الطرق تؤدي إلى هناك»..وهو مثل بوذي. وهي خمس مبادئ هي: 1) انبثاق اللامتوقع وظهور اللامحتمل. 2)الفضائل التوليدية والإبداعية المتأصلة في الإنسانية. 3) فضائل الأزمات. 4) فضائل الخطر. (هولدرلين «حيثما يتعاظم الخطر يتزايد عدد المنقذين» وحيثما ينمو اليأس، يتعاظم الأمل أيضا). 5) تطلع البشرية التليد إلى التآلف.
لا أحد بوسعه التنبّؤ بما سيكون عليه هذا المستقبل، لأنّه إنّما يأتي دوما من الجهة التي قد لا نتوقّعها. فقد تظهر عقائد جديدة أو حتى أديان جديدة، وقد تظهر أيضا إبداعات ثوريّة أفضل. وفي كلّ الحالات يبدو أنّ الإنسانية الحالية قد دخلت بعدُ فيما يسمّيه الخبراء بمجتمعات المخاطرة والمغامرة المجهولة. وصفوة القول، إنّ هذه التحوّلات البيولوجيّة والتكنولوجيّة والرقميّة التي تعيشها الإنسانية الحاليّة تقتضي أن تصاحبها تحوّلات ثقافية واجتماعية عميقة. بحيث لا ينبغي إيداع ما تبقى من الإنساني فينا بين أيادي التكنولوجيا والآلات والعلوم بعامّة، لأنّ العلم لا يفكّر. وربّما يتوجّب على الإنسانية الحاليّة السيطرة على أحلامها بحيث بوسعها أن تقترف أخطاء أقلّ فظاعة، وأن تمتلك أوهاما أقلّ خسائر وتكاليف.
د. أم الزين بنشيخة أكاديمية وكاتبة تونسية