هشاشة بيضاء عمى الألوان الثقافي يراوغ التمييز العرقي
لا أظن أن أحدا من قراء هذا المقال لم يشاهد الفيديو الذي تناول لحظة اعتقال المواطن الأمريكي جورج فلويد من قبل شرطي أمريكي أبيض، بدا جليًّا خلال فترة الاعتقال مدى تعمد الأخير إيذاء المعتقل، الأمر الذي تسبب في مقتل فلويد مختنقا تحت أقدام الشرطي «المحتقن» بغضب مروع؛ سيتضح لاحقا أنه «غضب عنصري» وفق ما نشر من تقارير واكبت الحدث الذي مرت عليه الآن نحو أربع سنوات.
كما لا أعتقد أن أحدا من القراء لم يشهد، قبل ذلك بعدة سنوات أخرى، وصول الرئيس الأسبق باراك أوباما لمقعد الحكم في البيت الأبيض ليكون أول مواطن أمريكي «ملون» يصل للحكم. ولكن المفارقة أن حادثة فلويد وقعت في عهد دونالد ترامب، الرئيس اللاحق لأوباما، والذي يرى بعض المحللين أن وصوله للحكم جاء تعبيرا عن ردة فعل عنصرية من اليمين المتطرف على وصول أوباما لحكم أمريكا.
ولعل كل من شهد هذه الواقعة المستنكَرة قد شعر بالغضب وأدانها بكل ما يملك في قلبه من كراهية للعنصرية، وخصوصًا، ربما، من البيض الأمريكيين المناهضين للعنصرية المنددين بالتمييز العرقي الحالمين بأمريكا واحدة، ومع ذلك فإن هذه الواقعة حدثت في عام 2020، بعد ما يزيد على قرن ونصف القرن من الحرب الأهلية الأمريكية التي أنهكت الشعب الأمريكي ولم تنته إلا على يد «الحلم الأمريكي» بعصر جديد تتحقق فيه «المساواة» والحرية للجميع.
وبالرغم من أن أعداد المناهضين للعنصرية من العرق الأبيض، جنبا إلى جنب مع أصحاب البشرة الملونة ممن يعانون من الممارسات العنصرية، قد تفوق أضعاف أرقام العنصريين البيض، لكن على أرض الواقع يبدو أن مظاهر العنصرية لا تزال ترتع في غابات الأرض الأمريكية الشاسعة، فأين الخطأ؟
عمى ألوان ثقافي
تقترح الكاتبة والناقدة الأمريكية روبن ديانجلو، في كتابها «هشاشة بيضاء» أن الخطأ هنا على وجه التحديد، يتحمل جانبا كبيرا منه في العرق الأبيض غير المتحيز، والذي يناهض العنصرية والتمييز، لكنه من جهة أخرى يعاني من «عمى ألوان» ثقافي على حد وصفها، بالإضافة إلى أن هذا الفصيل قد وقع ضحية ثقافة عنصرية متغلغلة في البيئة التربوية والإعلامية؛ جعلت منه وقودا لا ينفذ لحالة العنصرية من دون أن يدرك. ولهذا السبب وضعت عنوانا فرعيا يقول «صعوبة أن يتحدث البيض عن العنصرية».
الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية عن منشورات تكوين في الكويت، بتوقيع المترجمة نوال العلي، يتبنى مجموعة من الأفكار التي تقدم بها الكاتبة نقدا ذاتيا موضوعيا، وعميقا لفكرة العنصرية من خلال كشف العوامل التي تعمي مناهضي العنصرية البيض عن حقيقة أنهم سبب من أسباب استمرار العنصرية، سواء عن وعي أو من دون وعي على الأغلب.
لذلك يعد الكتاب موضعا لنقد الكثير من مناهضي العنصرية البيض الذين يرفضون الكثير مما تطرحه ديانجلو، بل ويتهمها البعض بأنها تتسبب في تأجيج العنصرية.
على مستوى سيكلوجي أستطيع أن أتفهم مشاعر هؤلاء الذين يرفضون طرح ديانجلو، لكني أظن أن هذا مقصود وهدف رئيس من بين أهداف الكتاب. خلخلة الأفكار الثابتة التي يسير بها المثاليون في حياتهم من دون مراجعة لاختبار إذا ما كانت هذه الرومانسية بالفعل تتضمن عوامل مساعدة في عدم حل مشكلة ما رغم كل ما يشعر به المثالي من غضب وقدرة على التعبير عن هذا الغضب.
وظني أن هذا أهم ما يتبناه الكتاب؛ ليس في موضوع العنصرية فقط بل وحتى في موضوع الديموقراطية؛ لأنه، بشكل ما، يكشف زيف الحالة المسماة بالديموقراطية للأسباب نفسها التي أدت إلى استمرار تغلغل العنصرية في مجتمع تستعرض حكوماته تعيين أصحاب البشرة الملونة في مناصب سياسية كبيرة، لكنها في النهاية تبدو كقشرة مصنوعة للاستعراض ولإخفاء العوار الحقيقي الذي ينخر في المجتمع الأمريكي ممثلا في عدم قدرته على تحقيق قيمة «المساواة» التي قامت عليها فكرة الديموقراطية.
فقاعة الديموقراطية.. فقاعة العنصرية
فالإجراءات التي اتخذت كانت دعائية واستعراضية أكثر من كونها ثقافية، وبالتالي أيضا تكاد فقاعة الديموقراطية أن تنفجر، إن لم تكن قد انفجرت بالفعل، مع حرب غزة وما شهده العالم من إصرار أمريكي بغيض على دعم قتل أطفال غزة بالسلاح والقرارات السياسية، بينما الخطاب الدعائي الليبرالي الديموقراطي، ويا للسخرية، يتلاعب بالألفاظ وينتصر للقوة الوحيدة التي اخترعت كافة أشكال «تجميل» قُبحها وهي قوة رأس المال والاقتصاد.
ولعل هذا ما تسبب في ردود فعل غاضبة مما جاء في صفحات الكتاب ومن الكاتبة من قبل البيض المناهضين للعنصرية، لكن الكاتبة نفسها تلفت الانتباه في مقدمتها لهذا الغضب، وترى في تحليلها أن من شأنه مزيد من التعامي عن عناصر لها أثر قوي في استمرار العنصرية دون وعي ممن يرفضونها ويعترفون بالمساواة قبل غيرهم.
ولهذا يحتاج الكتاب إلى قراءة متأنية للتمكن من الإمساك بحقيقة ما تود الكاتبة الوصل إليه. قراءة تتجاوز فكرة الأبيض والأسود العنصرية من جهة، أو ثنائية الذهنية المتعصبة والطفولية التي تلخص العالم كله بين فريقي اللونين أو الحلال والحرام، أو الطيب والشرير، الشائعة في ذهنية المثاليين الرومانسيين، من جهة أخرى، وهي الرؤى التي أزعم أنها قادرة على تدمير أي قضية أو هدف.
تقول روبن ديانجلو : «إن إطار (جيد وسيئ) ليس إلا قسمة خاطئة؛ من حيث إن لدى جميع الناس تحيزاتهم وتعصباتهم، خاصة عبر الحدود العرقية في مجتمع منقسم أصلا، وبعمق، بناء على العِرق. يمكن أن يخبرني والدي أن الجميع متساوون، ويمكن أن يكون لدي أصدقاء ملونين، وقد لا أقول نكاتًا عنصرية. ومع ذلك، فأنا لا أزال متأثرًا بقوى العنصرية كعضو في مجتمع تُشكّل العنصرية أساسه. سيُنظر إلي دائمًا على أنني أبيض، وأعامل كأبيض، وأختبر الحياة كشخص أبيض. ستتطور هويتي وشخصيتي واهتماماتي وتطلعاتي من منظور أبيض. سيكون لديّ رؤية بيضاء للعالم وإطار مرجعي أبيض. في مجتمع يكون فيه العرق مُهمَّا بوضوح، فإن عِرقنا يشكلنا بعمق. إذا أردنا تحدي هذا البناء، فينبغي علينا إجراء محاسبة صادقة لكيف يتجسد العِرق ويظهر في جوانب حياتنا».
الطيب والشرير
إن ما تبتغي الكاتبة تأكيده هنا أن الثنائية الرومانسية (جيد وسيئ) في التفكير في قضايا العالم لا تؤدي في الغالب إلا نتيجة من اثنتين وهما واحد في النهاية: إما بقاء الأمور على ما هي عليه أو ترسيخ استقرار الوضع المبتغى محاربته أو القضاء عليه.
ولمزيد من التوضيح فإنها تضرب مثالا تقول:
«من المؤكد أن ثنائية جيد وسيئ تحجب الطبيعة البنيوية للعنصرية وتجعل من الصعب علينا رؤيتها أو فهمها. بالقدر نفسه من المراوغة يمتد تأثير مثل هذه النظرة الشاملة إلى أفعالنا. إذا كنت، كشخص أبيض، أفهم العنصرية على أنها ثنائية وأضع نفسي في الجانب «غير العنصري»، فما الإجراء الإضافي المطلوب مني؟ لا يلزم اتخاذ أي إجراء، لأنني لست عنصريا. لذلك، العنصرية ليست مشكلتي. ليست شأني وليس علي القيام بأي شيء. تعفيني هذه النظرة العامة الشاملة من أن أبني مهارات جديدة لأفكر في العنصرية تفكيرا نقديا، أو من أن استخدام موقفي لتحدي اللامساواة العرقية».
وتمضي قُدمًا بضرب عدة أمثلة من مجال عملها كمستشارة في قضايا العدالة العرقية، والتي تشرح طبيعتها بوصفها مساعدة الأفراد والمؤسسات على رؤية كيف تتجلى العنصرية في ممارساتهم ونتائجهم. ونرى من خلال الأمثلة كيف أن الشخص الأبيض المؤمن برفض العنصرية، وغير العنصري لا يستطيع أن يتقبل ملاحظة حول ممارسة «عنصرية» غير واعية.
يأتي هذا كله في إطار محاولة تأسيس واعٍ لعملية النقد الذاتي الموضوعي، لأنها تضع نفسها أيضا بين الجمهور المستهدف بالنقد، أي المجتمع الأبيض الذي يناهض العنصرية، ويؤمن بالمساواة التامة بين البشر، لكنه لا يعي قصور أدواته بسبب عدم الوعي بتغلغل العنصرية في البنية الثقافية.
تقول الكاتبة: «إذا لم نتمكن من مناقشة هذه الديناميكيات أو رؤية أنفسنا داخلها فلا يمكننا أن نتوقف عن المشاركة في العنصرية».
لذلك تبدأ الكتاب بتأصيل الكيفية التي بدأت بها فكرة العرق في الولايات المتحدة من القرن التاسع عشر، في زمن كان المجتمع فيه منقسما بين أسياد وعبيد وصولا للحرب الأهلية وما بعدها وحتى بداية عصر الحقوق.
تاريخ التمييز العرقي
كما تكشف التراث الهائل من قوانين التمييز العرقي التي جسدت متاريس حالت بين دمج أعراق المجتمع قبل بداية عصر الحقوق، وصعبت من مهمة الاندماج في عصر الحقوق.
«لنتأمل أي حقبة في الماضي من منظور الملونين : 246 عامًا من العبودية الوحشية؛ اغتصاب النساء السود لإسعاد الرجال البيض ولإنتاج المزيد من العمال المستعبدين؛ بيع الأطفال السود؛ محاولة الإبادة الجماعية للسكان الأصليين؛ قانون إبعاد الهنود؛ المحميات الهندية، العبودية بالسخرة؛ عنف الغوغاء؛ نظام المزارعة، قوانين استبعاد الصينيين؛ اعتقال الأميركيين من أصل ياباني (..) و قوانين حظر خدمة السود في هيئة المحلفين»؛ إلى آخر القائمة. وتقوم المترجمة نوال العلي في الهوامش بشرح الكثير من المصطلحات الخاصة بالتمييز في المجتمع الأمريكي.
لكن روبن توسع دائرة رؤيتها للعوار في عصر الحقوق، الذي تتجلى نتائجه في الفصل العرقي المستمر بين المواطنين الأمريكيين إلى هذا اليوم. وترى أن محاولات الإشارة المستمرة إلى نجاح الملونين من خلال إصرار الحكومة على تعيين ملونين في الإدارة السياسية وصولا لوصول الرئيس أوباما للحكم ليس إلا إجراءات ظاهرية لا تمس البنية الثقافية المعقدة للعنصرية في المجتمع، وترى أن الرد على انتخاب أوباما جاء باختيار واحد من ممثلي الاتجاهات اليمينية المحافظة التي تتضمن بين ما تتضمن الانحياز للعنصرية البيضاء، ممثلا في الرئيس الأسبق دونالد ترامب.
لكن لماذا لا تصدق ديانجلو في أن وصول رئيس أمريكي ملون أو تعيين موظفين ملونين في البيت الأبيض، أو غير ذلك من نماذج فردية لما يُروّج له بوصفه نجاحا للملونين، يمثل بالفعل تقدما في حل أزمة العنصرية الأمريكية؟
شفرات جغرافية
الإجابة على السؤال تشيّدها بنيتها الفكرية التي تتبناها لكشف المنهج التربوي العام والفصل وعدم الاختلاط الممنهج بين العرقين، ودوره في ترسيخ فكرة التفوق الأبيض، وترسيخ الآلة الإعلامية لربط الجريمة والفقر والشر بأحياء الملونين، والذي يؤثر بالتأكيد في استمرار «انفصال» عنصري المجتمع الأمريكي بشكل مستمر.
تقول ديانجلو: «إن العِرق في الولايات المتحدة مُشفَّر جغرافيًّا. يمكنني تسمية كل حي في مدينتي وأن أحدد تركيبته العرقية. يمكنني أيضًا أن أخبرك ما إذا كان الحي يزيد أم ينقص من حيث المساواة في المساكن، وسيعتمد هذا في المقام الأول على كيفية تغير ديموغرافيته العرقية؛ في ازدياد؟ الحي يصبح أكثر بياضًا. في تناقص؟ الحي يصبح أقل بياضًا. عندما كنت طفلة، كانت الملصقات على جدران مدرستي وفي البرامج التلفزيونية مثل «شارع سمسم» تخبرني صراحة بأن جميع الناس متساوون، لكننا ببساطة كأعراق لا نعيش معا. كان عليّ أن أجد لهذا الانفصال معنى. إذا كنا متساوين فلماذا نعيش منفصلين؟ لا بد أنه العادي والطبيعي أن نعيش متباعدين (بالتأكيد لم يكن هناك من شخص بالغ في حياتي يشكو من هذا الفصل). وعلى مستوى أعمق، يجب أن يكون من الصواب أن نعيش منفصلين، لأننا أناس أفضل. كيف وصلتني الرسالة بأننا أفضل؟ ضع في اعتبارك كيف نتحدث عن الأحياء البيضاء بأنها جيدة وآمنة، ومحمية ونظيفة، ومرغوبة. بحكم التعريف، فإن المساحات الأخرى (غير البيضاء) سيئة، وخطرة، ومليئة بالجريمة، وينبغي تجنبها».
ولا أستطيع أن أتجاوز استحضار نموذج جنوب إفريقيا خلال قراءتي لهذا الكتاب، لأن الفكرة التي تسعى إليها الكاتبة هنا هي التأكيد على أن أمريكا ليست بيضاء كما يرى العنصري المتطرف الأبيض مثلا، وأنها تتشكل من عناصر وأعراق عديدة. تماما كما نجحت جنوب إفريقيا في تأكيده بعد هدمها لنظام الفصل العنصري وإعادة بناء دولة مساواة جديدة.
ثمة تقديم لهذا الكتاب بقلم مايكل إيريك دايسون يقول فيها:
«تتحدى ديانجلو بشجاعة سقوط البياض في الهوية القومية. البياض الذي ليس أقل سطوة وهيمنة مما لاحظت بيونسيه نولز أخيرا: «لكثرة ما قيل إن العنصرية أميركية جدا يفترض البعض أننا حين نحتج على العنصرية فإنما نحتج على أميركا». تثبت ديانجلو أن بيونسيه على حق، وأن تدفق الهوية البيضاء في الهوية الأميركية -المعتقدات العنصرية في المعتقدات القومية- لا بد أن يجابه بإصرار ووضوح، وبفم ملآن بأن معنى أن تكون أميركيا ليس نفسه معنى أن تكون أبيضا، على الأقل إنه ليس منحصرا في ذلك، وليس في المقام الأول. هذه الأمة أكثر تعقيدًا بكثير في فهمها الجمعي للذات».
تصور الكاتبة عوائق القضاء على العنصرية ثقافيا بالجسر المبني فوق المياه، فبينما يلوح لنا منه الجزء الواضح الذي يجسد دوره كجسر يراه الجميع ويعرفون عناصره فإنه في الوقت نفسه مشيد فوق أعمدة خفية في عمق المياه تؤدي دورا رئيسا في حمل الجسر واستمرار وجوده.
وعلى امتداد صفحات الكتاب عملت روبن على التأكيد أن العنصرية مراوغة، وهذه المراوغة محمية، ليس بأعمال العنصريين أو بعض مظاهر الفصل العنصري الطوعي، بل هي تراوغ مناهضي العنصرية البيض أساسا؛ الذين يخفون أحيانا تحت أقنعة مناهضة العنصرية إحساسا بالتفوق مكتسب أو شبه متوارث من بنية المجتمع الثقافية. وتؤكد أن استسلام غير العنصريين وغفوتهم عن هذه الحقائق بدعوى أن العنصرية شيء من الماضي، ليس من شأنه أن يؤدي إلا إلى استمرار العوار العنصري واستمرار «كلام العرق» في مجتمع لن يصل للنجاة من دون وعي حقيقي بنيوي بمعنى وقيمة المساواة.
هذا الكتاب إذ يركز على المجتمع الأمريكي فإن دروسه عابرة للقارات والثقافات وثقافتنا ليست استثناء منها.