نظريّاتُ بناء المدينة الإنسانيّة في الفلسفة الغربيّة المعاصرة
لا سبيلَ إلى فهم مقام المدينة الإنسانيّة إلّا باستجلاء التناولات الفلسفيّة السياسيّة التي تَبسَّط فيها غير فيلسوف من فلاسفة الغرب المعاصرين. ذلك بأنّ المدينة واقعٌ إغريقيٌّ قديمٌ أكبّت الفلسفة السياسيّة المعاصرة على ترصّد أحواله وهيئاته حتّى استخرجت له ثلاثة تصوّرات أساسيّة: يستند الأوّل إلى تسويغ ضرورة المدينة تسويغًا مقترنًا بحركة الروح المطلق (هيجل)، ويرتكز الثاني على صدارة هويّة الجماعة الملتئمة في تميّزها الجوهريّ من الغيريّة المحدقة بها (كارل شميت)، في حين يتأمّل الثالث في العلاقة الأصليّة المنعقدة بين الكينونة والمدينة (هايدجر)، أي بين حركة اعتلان الحقيقة في التاريخ وضرورات انبساط الطبيعة في هيئة التئام الجماعة السياسيّ.
المدينة الإنسانيّة ضرورةٌ عقلانيّةٌ
مستخرجةٌ من ناموس الحرّيّة
يُصرّ هيجل على تصوير التاريخ في هيئة الحاكم، إذ يصبح التاريخُ العالميُّ محكمةَ العالم (Die Weltgeschichte ist das Weltgericht). غير أنّ عمليّة الحكم تَنشط في نطاق المدينة الإنسانيّة التي تتّخذ في الأزمنة الحديثة صورة الدولة التي تجسّد هويّة الشعب الملتئم في أرضه. ومن ثمّ، تصبح الدولة أسمى مراتب الاقتدار المطلق. من خصائص الدولة الهيجليّة أنّها تتيح للإنسان الحرّ أن يختبر حرّيّته في تضاعيف التاريخ. خارج الدولة لا حرّيّة على الإطلاق. قد يفاجئ هذا القولُ أنصارَ الفرادنيّة المطلقة. ولكنّه يصف وصفًا دقيقًا حاجة الإنسان إلى المدينة الإنسانيّة لكي يحقّق متطلّبات حرّيّته. في كتاب مبادئ فلسفة القانون ، يعلن هيجل أنّ قدَر الإنسان الحرّ أن تصبح حرّيّتُه موضوعَ تَدبّره، أي أن تنسلك في سياق دولة الحقّ. ذلك بأنّ الحقّ فكرةُ الحرّيّة، وقد تجسّدت إرادةً حرّةً موضوعيّةً في قرائن المؤسّسات الوضعيّة والقوانين التي تهب هذه الحرّيّة إمكانَ التحقّق والقوام التاريخيّ الملموس.
لا يستطيع الإنسان أن يهرب من حرّيّته. فالحرّيّة قدرُه المطلق، إذ إنّها جوهر الروح. ومن ثمّ، إذا أراد الإنسان أن يحيا حياةً حرّةً، كان عليه أن ينتسب إلى دولةٍ يعترف بسيادتها المطلقة اعترافًا صريحًا. لذلك تنبثق شرعيّة الدولة وسيادتُها من مبدأ الحرّيّة الإنسانيّة عينه. خلافًا للمذهب التاريخانيّ النسبانيّ الذي يربط نشوءَ الدولة بالتقاليد والأعراف، يصرّح هيجل بأنّ ناموس التاريخ يُفضي حتمًا بالإنسان الحرّ إلى إنشاء الدولة، إذ إنّ التاريخ وحده يكشف للشعوب جوهرَ حقيقتهم المستندة إلى ناموس الروح المطلق. ومن ثمّ، تنشأ المدينة الإنسانيّة من تناصر مسارَين اثنَين: المسار الجدليّ الذي يربط المشيئات الفرديّة الحرّة بعضها ببعض، والمسار التاريخيّ الذي يجسّد فكرة الحرّيّة تجسيدًا عقلانيًّا. المدينة ثمرةُ انبساط التاريخ انبساطًا عقلانيًّا يسوّغ حركتَه تسويغًا مستندًا إلى ناموس الروح عينه. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ هيجل يؤيّد الملَكيّة الدستوريّة التي تجسّد في زمنه شكلَ الدولة الحديثة العقلانيّ. ذلك بأنّ هذه الملَكيّة تحقّق فكرة الحرّيّة، بما تنطوي عليه من وحدةٍ عضويّة تجمع مختلف السلطات، وتراعي مبدأ الذاتيّة الفرديّة المنعقدة في وحدة الجماعة. وعلاوةً على ذلك، تُظهر الملَكيّةُ الدستوريّةُ أنّ فكرة الحرّيّة أضحت تَنعم بشكلها الحديث اللامتناهي.
غير أنّ الدوَل الخاضعة لسيادة شعوبها الذاتيّة قد تتواجه وتتجابه وتتعارض وتتحارب. بما أنّ ناموس السيادة الذاتيّة يعلو على جميع الدساتير والقوانين، فإنّ هيجل يرتبك في تدبير مسائل الاختلاف الخطير بين الأمَم. ولكنّه يعود إلى قانون الروح المطلق، روح العالم الذي يقود التاريخ إلى مقاصده القصوى. وحده هذا الروح يحقّ له أن يتجاوز السيادات الأمميّة المتصارعة، فيرسم لها، بواسطة تألّق بعض الشعوب الخاضعة لأحكامها، سبيلَ المباحثة العقلانيّة الخليقة بتدبّر مواضع الاختلاف. فالحاكم هو الروح الكونيّ المطلق الذي جوهرُه الحرّيّة. أمّا المبدأ الناظم في محكمة ناموس الروح العقلانيّ، فالحقُّ الآمرُ بالاجتهاد في سبيل إنجاز فكرة الحرّيّة.
على الرغم من سحر العبارة التي تجعل الحرّيّة ناموسَ التاريخ، استجلى غيرُ فيلسوف من الفلاسفة المتأثّرين بهيجل صعوبات الركون إلى محكمة التاريخ. فها هوذا فيشته (1762-1814)، في التأمّلات التي ساقها في معاينة آثار الثورة الفرنسيّة، ينتقد ضبابيّة المحكمة الهيجليّة والتباسيّة مرجعيّاتها الأخلاقيّة. ولا يلبث أن يصرّح بأنّ العقل يحتار في تخيّر المعيار الأنسب الذي يؤهّل العقلَ للحكم على أخلاقيّة محكمة السيادة الشعبيّة. فهل يكون نجاحُ الفعل الإنسانيّ، على سبيل المثال، مقياسَ الحكمة والعدالة في تصرّف الناس الملتئمين في المدينة الإنسانيّة؟ يعتقد فيشته أنّ مقياس الحكم على وقائع التاريخ إنّما يُستخرج من مبادئ الضمير القبْليّة التي تتقدّم على حركة الأحداث عينها. أمّا نيتشه (1844-1900)، فيعيب على هيجل أنّه زرع في الثقافة الألمانيّة فكرةَ محكمةِ التاريخ التي تمجّد اقتدار الشعوب الذاتيّ، وتُفضي إلى وثنيّةٍ فكريّةٍ بغضاء تؤلّه الواقع المنجَز. في سياق آخر، يندّد كيركغارد (1813-1855) بإفراغ التاريخ من كلّ ارتباط بالتسامي الإلهيّ الذي يحقّ له وحده أن يحكم على الأشياء والموجودات والكائنات والأفعال والمسالك والوقائع والأحداث. ذلك بأنّ الاعتماد على محكمة التاريخ يُبطل المسؤوليّة الإنسانيّة الفرديّة ويُلغي المرجعيّة الإلهيّة. حين يقول التاريخُ الهيجليُّ قولتَه، تُغلَق القضيّة (historia locuta, causa finita)!
المدينة الإنسانيّة ميدانُ التصارع
المسؤول على صون هويّة الشعب الذاتيّة
يربط الفيلسوف السياسيّ الألمانيّ كارل شميت (1888-1985) نشوءَ المدينة الإنسانيّة بهويّة الجماعة التي تستوطنها، من بعد أن ينعقد كيانُها انعقادًا أصليًّا. ذلك بأنّ الشعب يمتلك قوامَه الذاتيّ قبل أن ينتظم في المدينة. في كتاب «مفهوم السياسيّ» ، يعرّف شميت الماهيّة السياسيّة بالاستناد إلى التمييز الصريح بين الصديق والعدوّ. ومع أنّه كان مناهضًا للنظام الدستوريَّ الليبراليَّ وميّالًا إلى مناصرة التطرّف النازيّ، إلّا أنّ هذا التمييز لا يعني المعانفة الاحترابيّة التوحّشيّة، بل يشير إلى التفرّد بالهويّة الجماعيّة والاستئثار بخصائص الانتماء المشترك. ومن ثمّ، ليست العداوة شأنًا فرديًّا، بل عنصرٌ أساسيٌّ في مسار صون هذه الهويّة.لا بدّ، في هذا السياق، من فصل الاختلافات التي تنطوي عليها الماهيّة السياسيّة عن سائر الاختلافات التي تفترضها الماهيّات الأخرى. تستند الماهيّة الأخلاقيّة إلى التمييز بين الخير والشرّ، أي بين الصالح أخلاقيًّا والطالح أخلاقيًّا. وترتكز الماهيّة الإستطيقيّة (الجماليّة) على التمييز بين الجميل والقبيح، في حين تقوم الماهيّة الاقتصاديّة على التمييز بين النافع وغير النافع. ثمّة ضروبٌ أخرى من التمييز تنعقد في حقول اللغة والثقافة والدِّين. ولكنّها جميعها لا تَصحّ في حقل السياسيّات الذي يَهب الجماعةَ قوامَ هويّتها الذاتيّة، إذ يمكن أن يعادي الشعبُ جماعةً أخرى ثَبت صلاحُها الأخلاقيُّ في وجهٍ من الوجوه. ما دامت الماهيّة السياسيّة لا تقترن بأيّ عنصرٍ من عناصر التمييز الناشطة في هذه الحقول، فإنّه من السذاجة أن يعتقد المرءُ أنّ المشيئة السياسيّة ستزول بزوال أسباب التصارع بين جماعتَين متجابهتَين. الثابت أنّ الجماعة السياسيّة تنشئ للشعب وحدتَه الاجتماعيّة التي تضبط له مسارات وجوده، وتجعله يصون تفوّقه السياديّ على الجماعات الأخرى في نطاق مدينته الإنسانيّة الخاصّة.
ومن ثمّ، يصرّ شميت على القول إنّ الشعب وحده يقرّر طبيعة التهديد المنبثق من غيريّة الجماعة الأخرى. ثمّة غيريّاتٌ جماعيّةٌ لا تستثير العداوة. ولكنّ الشعور الجماعيّ بالتهديد الكيانيّ لا يقرّره طرفٌ تفاوضيٌّ ثالثٌ محايدٌ. ذلك بأنّ جماعة الشعب لا تحيا مجرّدَ حياة بيولوجيّة، بل تختبر اختبارًا طوعيًّا حيويّة الانتساب إلى الكيان المشترك. أمّا التمييز بين الصديق والعدوّ، فليس مجرّد ردِّ فعلٍ تستثيره الجماعة حين تتهدّدها مخاطرُ الغيريّة، بل يُنشئ بالأحرى هويّة الشعب السياسيّة، ويضع معاييرَ الجدارة في الانتماء والثبات والديمومة. وعليه، تنعقد ضمّةٌ من الخصائص الجماعيّة التي تطبع هويّة الشعب وتمهر كيفيّات وجوده التاريخيّ، بحيث يرتضي أعضاءُ الشعب أن يضحّوا بذواتهم من أجل صون هذه الخصائص.بيد أنّ شميت، إذ يُعرّف على هذا النحو الشعبَ الذي يستوطن أرضَه ومدينتَه، لا يُقصي احتمالاتٍ شتّى من الوجود التاريخيّ المبنيّ على انتماءٍ حقوقيّ ليبراليّ يجعل المواطنة متاحةً لجميع الذين لا يعتنقون مبدأ التمييز بين الصديق والعدوّ، ولا يشعرون بانتسابٍ سياسيٍّ عميق الهويّة. لذلك يعتقد أنّ الدولة الليبراليّة المعاصرة تخنق هويّة الشعب السياسيّة، فتجرّده من رغبة النضال السياسيّ، وتمنعه من التعبير عن ذاتيّته الخاصّة التي توشك أن تذوب في أتّون الكيانيّات المتناقضة المتواجهة في نطاق المدينة الإنسانيّة الواحدة. وحده المستبدّ المستنير يستطيع في زمن الأزمة الكيانيّة أن ينتشل الشعب ويفرض عليه إدراكَ خصوصيّته الجماعيّة، فيحرّره من حياديّة المحضن الدستوريّ الليبراليّ الذي يطمس حقائق وجوده التاريخيّ الفريد. بفضل حكمة الاستبداد هذه، تتّضح في الأحوال الاستثنائيّة هويّة الشعب وتترسّخ كيانيّتُه، فيعود إلى ذاته ويضطلع بمسؤوليّاته. غير أنّ هذا الاستبداد لا يجرّ حتمًا إلى الاحتراب المهلك، بل تقتصر فضيلتُه على استخراج معايير الوضوح في الانتماء، والشفافيّة في الانتساب، والصدق في الفعل. والحال أنّ النظام الليبراليّ يجعل المدينة تخضع لأوهام الصلاح الإنسانيّ الفطريّ المفترض، ولكأنّ الناس يحيون في مدينةٍ فاضلةٍ تنتظم أمورُها انتظامًا سلاميًّا، وتشترك مع المدن الأخرى في تعزيز قيَم الإنسانيّة الواحدة.