نصف الحكاية في التاريخ والنصف الآخر في «سر الموريسكي»
التاريخ متاهة عظيمة، ومهما حفظنا دروبها لا بد وأن نفاجأ بمداخيل جديدة تأخذنا حيث تريد، فما الذي يجعل كاتبًا يرمي بنفسه في دهاليز تاريخية قديمة جدًا لولا أن شغفا أو مسا قاده إليها. ثم كيف سيمكنه الخروج دون أن تعرقله المسارات إلا لو كان متسلحًا بعزيمة ولغة قوية وبحث دقيق سهّل له رسم خارطة طريق العودة. ولذلك أدهشتني جرأة الكاتب وفي أول عمل روائي له من الدخول في منطقة بعيدة تماما عن عالمه وعن تاريخه ومن زمن بعيد جدا.
«سر الموريسكي» فكرة انتزعها الكاتب محمد العجمي من أعماق التاريخ، وصنع منها حكاية تامة، لذلك فهذه الرواية عمل مكتمل ومشذب جيدا. يتمحور مضمونها الأساسي حول روبرت الشاب الإنجليزي الذي سافر إلى هولندا لشراء معدات طباعة لمطبعة عائلته، وإذ به يضطر لشراء مطبعة قديمة بأكملها وتشاء الأقدار أن تقع السفينة التي يسافر فيها في أيدي الأسبان ويصبح أسيرًا في سجن إسباني مع مساجين من كل أوروبا. وهناك يلتقي بموريسكي عربي تتوطد العلاقة بينهما ويكشف الموريسكي سره لروبرت الذي أفنى حياته وتخلى عن كل شيء وتعرض لجميع أنواع المصاعب ليصل لذلك السر، لكن الأمر طال سنوات كثيرة؛ لأنه كلما وجد سرًا انفتح له باب لسر آخر حتى وجد أسرارًا كثيرة أخرى تتعلق به شخصيا وبتاريخ أوروبا وعلاقة الشرق بالغرب، وتعلم ما لا يمكن لكل جامعات أوروبا أن تعلمه إياه. ولكي لا نكشف الرواية ولأن هدف القراءة هو تسليط الضوء عليها أقول أنها رواية قدمت أسرارًا وأخبارًا من القرن السابع عشر عبر شخصية شاب صغير فضولي وطموح.
ولكن الإبداع في أن نبش محمد العجمي ليس في «سر الموريسكي» وإن بدا ذلك في مسار الرواية، بل في انكشاف خيط آخر تلازم مع تتبع السر ومحاولة كشفه، وهو موضوع الطباعة الذي اشتغل عليه الكاتب بدقة وحرص من الصفحة الأولى، ورغم أن الطباعة وسر الموريسكي كموضوعين داخل الرواية لا يلتقيان إلا أن الكاتب جعلهما طريقا لربط بعضهما البعض في زمن طويل وفي بلدان كثيرة مثل فرنسا وأسبانيا وإيطاليا وانجلترا. كما اشتغل الكاتب بجدية على حركة الشخصيات الكثيرة وامتداد الزمن بينها خاصة، وأنهم يتنقلون في سجون وكنائس شرقية وغربية ومكتبات وأديرة وقصور وحلقت الحكاية مع تجار وعلماء وأساتذة ورهبان وراهبات وطلبة علم وتابعين وقراصنة ورؤساء دول، وقدرته على ربط كل ذلك بشخصية واحدة وهي شخصية روبرت فيبن بطل الرواية.
الحكاية بسيطة في نسيجها الداخلي دون تصاعد مثير في الحبكة. ورغم كثافة الموضوع وتشعبه إلا أنه بعيد عن التعقيد ولا يجعلك تتخذ موقفًا معينًا ولا تنحاز لحدث أو شخصية، وكأنك تركب قطارًا يسلك طريقًا أفقيًا واحدًا دون توقف. والشخصيات - وهذا ربما من المآخذ البسيطة على الرواية - منسجمة مع بعضها حتى العراك لا يكاد يؤثر على مجرى الأحداث رغم اختلاف أعمارهم وحياتهم وأماكنهم، وكأنّ هناك اتفاقا ضمنيا على السلام والتفاهم، ولربما ارتفاع الصراخ وحدة الشخوص ستمنح الرواية موسيقى خاصة.
من جهة أخرى، ورغم وضوح انحياز الكاتب لكل ما هو شرقي وإسلامي، إلا أن ذلك الإحساس بروح الشرق لا تشعر به في صفحات الرواية وكأنه أجبر على تجاوزه تجسيدا لتاريخ الغرب حسب ما تقتضيه الرواية. كما أن الكتابة عن أماكن تاريخية عريقة ووصفها بذلك الوصف الدقيق عمل بارع لا بد وأن الكاتب محمد العجمي بذل فيه جهدًا كبيرًا لاستدعاء ذاكرته التصويرية. وإذا أتحدث عن اللغة فهي مباشرة وبسيطة لم أشعر بها وهي تحلق بي لذلك التاريخ القديم المليء بالأحداث والتطورات والتغيرات الكبيرة، ولا أقول إنها لغة جامدة ولكنها لا تستفزك ولا تحرك مشاعر الحنين والحزن أو الراحة. ومن الذكاء وضع التساؤل الأبدي والسر الذي لم يعرفه أحد على غلاف الرواية الخلفي وهي رسالة من الأب ميرسين للعالم جاليليو التي لم يقرأها أحد. وحدك أيها القارئ من هذا الزمان ستقرأها.
أزهار أحمد كاتبة ومترجمة عمانية