نجيب محفوظ والعمّة: إيقاع السرد والتشكيك بالمعرفة في قصتين لعبدالعزيز الفارسي
في قصتين من عموم التجربة القصصية المشمولة بالقراءة يطالع القارئ اسم نجيب محفوظ متصدِّرًا قصتين لعبد العزيز الفارسي عنوانهما «عمتي لا تعرف نجيب محفوظ» و «عمتي تعرف نجيب محفوظ». سأشير إليهما في قادم أسطر هذه القراءة بالقصة السابقة والأخرى بالقصة اللاحقة، علما أن بينهما أربع سنوات، بعدِّ السّنوات الفاصلة بين نشر السابقة في مجموعة «العابرون فوق شظاياهم 2005» والقصة اللاحقة في مجموعة «وأخيرا استيقظ الدب 2009». لعل من الجيّد أيضًا الإشارة إلى أن القصتين توسطتا المجموعتين «تقريبًا» من حيث عدد أوراقهما. إشارة كهذه؛ أتفيد؟ أم لا تقدم شيئًا؟! لعلها لن تكون عبثًّا مع من وزّع قصصه وعدّها بحسبة مدروسة في إصدارات وازنة شكلًا ومضمونًا، من حيث تطوّر التجربة وتصاعدها خلال ما يقارب العشرين سنة من النشر.
في عنواني القصتين تأخّر اسم نجيب محفوظ لسببين، لدور ثانوي أوّلًا، ورمزي ثانيًا، بصفته العلامة الأبرز معرفة للقارئ العربي، وقد صار للاسم في القصتين وظيفتان، الأولى قصصية تظهر في النهاية/ القفلة، التي انتهت عندها القصتان، والثانية معرفيّة بتأكيد قيمته في قصٍّ يمكن وصفه «بالسهل البسيط الممتنع»، لكأن العمة رمزًا صورةُ نجيب محفوظ في القصتين، القاهرة الجديدة عند محفوظ هي شناص عند العمة سارد القصتين، ومن قبلها بالطّبع عبد العزيز الفارسي في عموم شناصيّاته القصصية.
أمّا العمة المتقدِّمة في العنوانين فإنها مشمولة بالتعريف بياء نسبٍ، ياءٌ تمكِّننا من ردِّها مجازًا إلى الكاتب مفترضًا أحيانًا، وليس تاريخًا دائمًا، عدا معاينة أوّلية للعنوانين لابد من قراءة القصتين بتأمّلهما؛ لنعرف نفي المعرفة بنجيب محفوظ في القصة الأولى، ثم إعادة إثباتها -بعد أربع سنوات- بتأكيد معرفة نجيب محفوظ.
بين النفي والإثبات نلاحظ ما يمكن الإشارة إليه بالتحوّل، وآتي على الإشارة إليه بوصفه تحوُّلًا داخليًّا (في القصتين) وخارجيًّا (في القص والكتابة). الأول أردّه إلى شخصية العمة مثل ما سردت القصتين بإشارتين ظاهرتين في مفتتح القصة ومنتهاها، والثاني أصفه بالتحوّل المنعكس على الإبداع القصصي للكاتب، ليس القصة اللاحقة وحدها دليل يثبت هذا التحوّل، إنما مجموعتاه «وأخيرًا استيقظ الدب 2009 / والصندوق الرمادي 2012» هما الأكثر أصالة وعُمقًا واتصالًا بالأفكار المحال إليها في القراءة، مع الإشارة إلى مجموعة قصص «رجل الشرفة صياد السحب 2017».
في إعادة قراءة القصتين أتأمّلهما حكيًا في ثلاث شخصيات، العمّة، الكاتب، ونجيب محفوظ، ومحكيًّا فيما ذهبت إليه القصتان لتجعلهما ضمن قصص مهمة متوزِّعة في ست مجموعات من سبع، عدا «مسامير» بصفتها قصص قصيرة جدا، وبهذا هي خارج مشروع التأمّل القرائي.
أطرح في قراءتي سؤالين، أولهما ماذا أراد الكاتب من الثلاثة الظاهرين في العنوانين؟ ليصدّرهم في قصتيه! ما نوع المعرفة التي سنقرأها في القصتين، المراد إيصالها للقارئ؟ من خلالهما قد تنزاح القراءة إلى معاينة شيء خارج السياق.
يُضْبَطُ إيقاعُ السرد، فيختفي الكاتبُ تمامًا، أو يكاد ذلك، فلا يظهر إلا من بعيد، ظهوره فيما صدّره العنوانان من معرفة باسم كاتب عربي شهير هو نجيب محفوظ، ومن بعده تتولى العمّة المهمة كلها، لكأنها تعرف أكثر من ابن أخيها مرويٍّا له، فتمسك في القصتين زمام الحكاية بداية ونهاية، تضبطُ إيقاعها السردي في القول، ويحرِّك الكاتب المتواري فعل السرد والقول، في بداية القصة السابقة «عمتي لا تعرف نجيب محفوظ» نقرأ:
«لا يا ابن أخي. لا يا حبيبي. أنت أُميٌّ وجاهل. الكُتبُ التي تملأ بها مكتبتك وتحملها في يدك، وكلما قلنا لك: «شاركنا الحديث»، رددت علينا: «اعذروني. أنا مشغول. أنا أقرأ».. كتبك هذه لا تغني ولا تسمن من جوع. بسببها بصرك يضعف، وسُمكُ عدستي نظارتك يزيد، وأنت تزداد حزنا، وفي النهاية فأنت تدّعي أنك لا تعرف سندّية زوجة علي بن سيف الحليان؟!. فماذا تعلمت من الكتب؟ كيف لا تعرف سنديّة؟».
أما في القصة اللاحقة «عمتي تعرف نجيب محفوظ» نقرأ:
«اسمعني يا ابن أخي. اضحك على غيري وقل لهم بأنك مثقف وتكتب وتعرف الكثير عن الأدب.. أما أنا فسأظل أقول لك: أنت قليل أدب.. نعم، قليل أدب وإلا لما كتبت عن عمتك قصة ووضعتها في كتاب.. وقلت للناس عمتي لا تعرف نجيب محفوظ. أعرفه وأعرف أنه ميت الآن.. فدعه ينفعك. هل تريد إخبار الناس أني جاهلة؟.. أنا على الأقل أدرس في بيتي وسآخذ الثانوية.. فماذا درس أبوك وأمك؟ هكذا أنتم تقرأون كلمتين وتقولون: «هنا العلم.. هنا الثقافة».
تضعنا القصة اللاحقة في الجو العام للقصة السابقة، لكأنها تتمِّمُ ما فات، وما لم يُكشفْ في التوسّع فيه بالإطالة المتصاعدة بنمو الشخصيات وتعدّدها، وهي أيضًا، أي القصة اللاحقة تردّنا إلى سابقتها، تذكِّرنا بذات الأسلوب وبالشخصيات الأساس ذاتها، العمة فاطمة وابن أخيها الكاتب «ود شيخوه» كما عرفناه من سرد العمة في حكاية القصة السابقة، وبنجيب محفوظ ميزان الحُكْم والمعرفة، وقد تمثلت كفة ميزان الحكم والمعرفة بإشراك القارئ في أمرين، وانتقاد الكاتب المفترض في أمرٍ، سآتي على بيانهما من خلال ما لم تقله القصتان صراحة ووضوحًا، أي إنطاق المسكوت عنه:
أمر الحكم على من يجيد سبك حكاية القصة وضبط إيقاعها المتصاعد، مرهون للقارئ، فهل العمة في هاتين القصتين، أم نجيب محفوظ في تجربته؟ أيهما أكثر قدرة على النفاذ في أعماق القارئ؛ ليعيد هذا التفكير في ذاته، ويستوعب هموم مجتمعه.
تأخذنا القصتان إلى موضوعين مختلفين، في السابقة «علاقة حب بدأت من الشارع» مخبز عملت فيه «رشيدة» بائعة، وانتهت ببيت أمها «سنديّة»، فلا رشيدة أكملت عملها، ولا هي صارت زوجة كما وُعدت. هنا مكمن السخرية المريرة من الواقع، إثر ما قام به عبيد، حبيبها/ عشيقها/ خطيبها.
وفي القصة اللاحقة نقرأ مشاكلنا اليوميّة مع «عاملات المنازل»، نموذجنا في القصة مريوم بنت الغبيري، انتقلت بنفسها من الراحة والعافية ونعيم الكفاف، إلى الشقاء والتعب والعوز بعد إصرارٍ وإلحاحٍ على جلب عاملة منزل، فكان لها من العاملات تجربتان قصيرتان، ما كان كل هذا سيحدث لولا رغبة محاكاة كثير من ربّات المنازل.
أما كفة المعرفة النظريّة بالأدب بمثل قامة نجيب محفوظ مرهونة في عدم تمثُّلِ المثقف ومن فوقه الكتّاب لدور الكتابة وهي ترصد وتصوِّر هموم ومشاكل المجتمع. لكأن القصتين تحملان نقدًا وتوجيهًا لكاتبٍ مطالبٍ باشتغال كتابيٍّ عن مجتمعه عِوَض ترديد سهلٍ بمعرفة نظرية بالأدب، نظرية لا تفيد قارئًا راغبًا بمتعة الحكي المتمثِّل بسرد العمة «فاطمة» المستوعبة لهموم الناس وآفة المجتمع، ولا تجعلنا نفكّر بالطرق الممكن سلكها لنصل بالحياة إلى أقل الخسائر النفسيّة.
الناقد في القصة تمثّل في العمة ضد كاتب يواجه نقدًا وعتبًا شخصيًّا في عدم اهتمامه بنفسه، وهو من فرطة الإعجاب والدهشة بمعرفة العمة بأسرار بلدتها وناسها بدا صامتًا، ليس له صوت ولا وجود في القصتين، اختفى وتلاشى كأن لم يكن بالمرة، انزاح نحو رتبة المسرود له/ المروي له حكايات العمة عن مجتمعها المتمثِّل في شناص، كما تخيّلته علامات المكان وتفاصيله في القصة اللاحقة، أكثر من السابقة.
إن كان من فرق طفيف بين هاتين القصتين هو الفرق ذاته المنعكس إلى حدٍّ ما بين مرحلتي الكتابة القصصية عند عبدالعزيز الفارسي، الأولى المتمثلة في المجموعات القصصية الثلاث (جروح منفضة السجائر 2003/ العابرون فوق شظاياهم 2005 / لا يفل الحنين إلا الحنين 2006) بما نشره بعدها في مرحلته الكتابيّة، المتمثّلة بقصص مجاميعه الثلاث الأخيرة المشار إليها في القراءة، أقول هذا بالطبع إذا ما استثنيت مجموعة «مسامير» لأسباب فنيّة أولًا، ومنهجية ثانيًا.
حمود بن حمد الشكيلي قاص عماني صدرت له أكثر من مجموعة قصصية