«مياكرو»
تقدم رواية «مياكرو» للروائي الألماني جيورج كلاين تصوُّرا مستقبليا عن عالم عمل كابوسي، يعمل فيه رجال في مكان مغلق يسمى بالمكتب الأوسط على شاشات وامضة، يقومون بمسحها من اليمين إلى اليسار. كل خبرتهم عن العالم الخارجي، تأتيهم عبر هذه الشاشات، حتى تصوُّرهم لشكل طائر لا يأتي عبر رؤيتهم لطائر في الطبيعة وإنما من خلال ما يرونه عبر هذه الشاشات، المكتب الأوسط مكان دائري، تحيط به قمرات نوم الرجال، وعند الجوع، يذهبون لممر تخرج لهم فيه الوجبات من الحائط. الحائط في هذا العمل هو واهب الحياة، منه يخرج الطعام والماء، وحين يموت الشخص ينغلق حائط قمرة نومه عليه. في الممرات يلتقون بنساء يعملن على تضفير خيوط تخرج أيضا من الحائط. لا أحد يفهم على مدار الرواية كنه هذه الأعمال. ربما تسعى الرواية لتقديم محاكاة ساخرة لرواية جورج أورويل «1948» ولكنها تستهزئ في الوقت ذاته بمستقبل عالم العمل النخبوي في مجال المعلوماتية، فالعمل التقني الإلكتروني في عالم كلاين ينحط إلى عمل يدوي سقيم على شاشات تعكس العالم الخارجي الحقيقي ومن فرط سقم هذا العمل يصاب الإنسان بالعطش. العالم الخارجي هو النجاة، فالذي ينقذ مدير المكتب الأوسط المهدد بالفناء هو تناول براعم ثخينة مضغتها من قبله امرأة من عامة الشعب. في الفصل الأول الذي نعرض ترجمته هنا يشعر نيتلر مدير المكتب الأوسط بريح تهب في قمرة نومه وتستدعي شريط حياته طوال عمله في هذا المكان، كما يحدث للشخص المحتضر، ويحاول فهم مغزى هذا التغيُّر الطارئ. في فصول لاحقة سيقوم وثلاثة من رفاقه برحلة هروب من المكتب الأوسط، لكنهم يواجهون لاحقا الضابطة إكسازي التي تحرس الحدود بين عالم المكتب الأوسط والعالم الخارجي.
اسم الرواية «مياكرو» هو مزيج من كلمتي ميكرو وماكرو، في إشارة لعالم المكتب الأوسط. تشتهر أعمال جيورج كلاين بالأجواء الخيالية الغرائبية وقد سبق أن ترجمتُ له باكورة أعماله «ليبيديسي» الصادرة عام 1998، التي ترسم عالم مدينة شرقية متخيلة يعيش فيها جاسوس ألماني عجوز وينتظر قدوم خليفته.
لكن الإنسان محبوس داخل نفسه على نحو ضيق جدا
بحيث إنه غالبا ما يلتهم نفسه،
حيثما ينبغي عليه أن يلتهم العالم
كليمنس فون برينتانو
1ريح داخلية
كيف يُروى عطشٌ
كانت ريحا غريبة. لخمس ليال متتالية انتشلته هذه الهبَّات -وكأن أنامل باردة تداعب وجنتيه وجبينه وجفنيه- من غفوة عمياء دون أحلام، إلى ظلمة قُمرته. قام نيتلر من رقاده. اخترقت يسراه الأحبال الناعمة لسريره المعلق، وضغطت اليمنى على ضلوع السقف الصلبة الخشنة. شعر بأنه أكثر من مجرد يقظ. إذ إن خياله قد بدأ مجددا في ملاحقة مرئية لما حدث خلال سنوات طوال من العمل على الزجاج، عبر قوة لم يعرفها سوى في الليالي الأخيرة.
كل ما تراص تحت يديه بعمق أكثر أو أقل، أو على نحو مناسب، وانزلق عبر الزجاج الناعم، بدا الآن مُتضمنا في هذا التيار. لم يفقد شيء بريقه وشفافيته وحدته. لكن بغض النظر كم كان رائعا توهج هذا الزخم من الصور المعروفة في الليالي المنقضية، وتألقها الآن مجددًا كل صورة فوق الأخرى، فإن الريح الداخلية المنعشة التي هبّت في وجه نيتلر، لم تكن تحتمل التوقف الذي قد يدعو للتأمل، بل أكرهت من بُعث من غفوته إلى التعجل. وبينما تقدمت بسرعة منتظمة، دون أن تكون بطيئة بتلكؤ، ودون تعثر وتسريع مندفع، ثم تدفقت واختفت، اكتسبت، متحررة من الأشياء المنفرة التي تنمو ذاتيا في الزجاج الناعم، ألفة جديدة.
على نحو خاطف في البداية ثم باستمرار، بدا لنيتلر أن ما أدركه كان قديما ومكتملا حقا. في الوقت ذاته شعر بأن شيئا مجهولا على وشك الحدوث خارج ركن نومه تحت القبة العالية، المظلمة ليلا، للمكتب الأوسط الذي كان هو مديره. شيء لم يحدث أراد أن يتشكل. والتنوع اللوني المتماوج من اليمين إلى اليسار وتيار الهواء السالب للدفء فوق وجهه والرمادي المتربص لما هو آت، كلها تتذبذب داخله مكونة ثالوثا موسيقيا مرِحا مرَحَا عبثيا.
عندما أخرج نيتلر رأسه من كوته إلى الهواء الفاتر للمكتب، لم تكن هناك بالخارج، في دائرة المكتب الواسعة، وفوق الطاولات الكثيرة الغارقة في وضع الراحة الليلية، أدنى حركة للهواء. كل المناظر اختفت أيضا في لمح البصر، فقط استمر توتره وبحث عن أي إشارة. كالعادة دائما مع اقتراب الشتاء أصبح شريط إضاءة الحائط رفيعا وغاص بعيدا للأسفل. سرى الخط الأزرق النحيل بالكاد على ارتفاع شبر فوق الأرض، وتكثف فقط في مواضع قليلة مكونا عقدا نابضة ترتعش ذهابا وإيابا. الضوء الذي أشعته، كان كافيا، لإضاءة شريط متواضع من الحائط الباهت، لكنه لم يكن قويا بما يكفي ليلقي بظلاله على إحدى طاولات العمل المستطيلة.
لم يكن يُسمع من زملاء نيتلر سوى الأزيز الرهيف، الذي امتزج فيه تنوع أصوات الأنفاس الخارجة من أركان النوم إلى براح المكتب. وفي وقت ما نبّهه العجوز جولر إلى طرف الفتحة التي يزحفون داخلها -رجلا رجلا- إلى سرير النوم المعلق عند حلول الليل. للوهلة الأولى تبدو المداخل مختلفة بشكل بديع، كل مدخل منها ممتد بشكل مختلف، كل فتحة بيضاوية منبعجة بشكل مختلف. وكأن الحائط الباهت قد بذل جهدا حقيقيا لمنح كل واحد دون استثناء كوة مميزة. إلا الحواف تتطابق في كل الملامح الجوهرية.
آنذاك قام نيتلر على نحو غير لافت بفحص المدخلين على يمين ويسار قمرته. كان العجوز الذكي على حق. بين المساحات المفرغة الضيقة لأركان نومهم ونصف الكرة هائلة الحجم التي تشكل المكتب، يتضاءل سمك الحائط عند مدخل ركن النوم بشكل متساو على المدار. ومؤخرا كان طرف المدخل الذي لا يكاد يزيد عن سمك الإبهام مموجا بشكل مسطح، يتخلله تجزيع بخطوط تكاد تكون ملموسة.
يدعي جولر أن هذا الشكل بالذات قد يكون السبب في كونه لا يزعج أحدا من مجموعة الناعسين بشخيره العجوز، ولا حتى قرب الصباح، عندما يصبح نوم من هم أصغر سنا خفيفا، ويستيقظ هو، العجوز زائد الوزن، فزِعا بشكل نهائي، بعد جلبة كانت بالتأكيد صاخبة، بفعل توقف مقبض للنفس يتكرر بشكل مشابه، ويتلوه التقاط نفس لاهث مدوٍ.
كان يحب جولر. أُعجب نيتلر بطريقته في أن يجد دون كلفة تفسيرا لكل ما كان يمثل العالم. للصبي العجوز نظرة لكل كبيرة وصغيرة، لما هو حاد وما هو ثالم، للبريق والانطفاء. كان جولر يستشعر بأطراف أصابعه إن كان الشيء مجوفا أو مصمتا، وإن كان في عمقه صلبا كالعظام أو لينا كالنخاع. بل ادّعى أنه يستطيع أن يتحسس مدى كثافة الأسلاك الفضية الرقيقة التي كانت تتخلل بقعة من الحائط الباهت، بتذوقها بطرف لسانه. وأحيانا كان سمينهم لا يتورع عن أن يربط مثل هذه الملاحظات بأسباب مزعومة، وبمبررات مدهشة كاشفة أو أخرى غريبة ومرعبة.
بالطبع كان من الممكن أن يجد أحدهم أن تعليق جولر غير مناسب. بالذات عندما كان المرء ينكفئ على طاولة العمل التي يصل ارتفاعها لحد الخصر، ويبذل جهده من أجل أن يوقف أو ينعِّم انسيابا معقدا للصورة، يتزحزح من اليمين لليسار، ويغوص في العمق رأسيا، وتتداخل فيه في مزيج مشوش ثلاثة أو أربعة مستويات، بل وأحيانا المستويات الخمسة كلها -فوضى ملونة براقة في الزجاج الناعم للطاولة- ويسعى أن يكون فكرة عن شيء يمكن التعرف عليه وفي بعض الأحيان يمكن الاستفادة منه. بتذمر كان يقال دائما له من فوق الأكتاف «اللعنة يا جولر. اهتم بأمورك!». لكن كل واحد منهم قد استفاد أيضا من التدخلات غير المتوقعة للرجل العجوز، واضطروا لتقبل الملاحظة على مضض بالقول «اللعنة أيها السمين، أينما أصبت، فأنت على صواب».
بالأمس فقط اهتم جولر على نحو فظ ومشين، حتى بالنسبة له هو نفسه، بطاولة بلنكر ذي الشعر الأحمر. بحسب ما هو متعارف عليه، قام الشاب في الصباح الباكر بالإبلاغ عن أن لوحته قد بدأت في الوميض بشدة، قبل أن تصبح ساطعة تماما. وفي وقت الظهيرة انطفأ تيار الصورة المرتعش نهائيا بعد بريق استعراضي مدمدم وأخير. وحده الطرف العلوي الأيسر، كان لا يزال يضيء، كان الضوء غارقا في الشاشة بعمق خنصر، بلون أصفر قذر، بقعة على شكل رمز الشباك، تخلل وميضها الضئيل صرصرة كادت أن تكون مسموعة.
لم يسبق لهم قط أن شهدوا مثل هذا العطل الأكبر الناجم عن وضع الراحة في ليل المكتب. أحاطوا بطاولة بلنكر وقد تزاحموا بكثافة. تأرجح من وقفوا في الخلف بفضول مقبض واقفين على أطراف أصابع أقدامهم. في النهاية غمغم جولر قائلا إن اللوحة معوجة قليلا. وعندما قام بلنكر منفعلا وعلى سبيل الرد بخبطة يد على جبينه المنمش، بصق جولر على الزجاج، ونيتلر الذي انحنى على الفور على لطعة البصقة الضخمة لحد مدهش والصافية كالماء، رأى كيف انحدرت فقاعة بيضاوية من منتصف البصقة باتجاه طرفها، وكأن ما يهم هذه العدسة الضئيلة هو تأكيد بصري فوري لتقييم جولر عن ميل طاولة بلينكر عن الوضع الأفقي الصحيح.
كان بلنكر ذو الشعر الأحمر لا يزال هو أصغر الموظفين. بعده لم يجد أي طامح للوظيفة طريقه إليهم في المكتب الأوسط. ولم تكن ثمة طاولة جديدة لبلنكر، لأنه جاء مباشرة بعد حالة وفاة، لم تنم طاولة جديدة من الأرض، لقد أمكن له أخذ مكان المتوفى الذي فرغ لتوه. كان زجاجه المتقادم خاملا وضعيف الإضاءة. لكن سرعان ما تبين أنه بعيني بلينكر الزرقاوين، وبيدي بلنكر الشاحبة المرقشة باللون البني حتى الأظافر، حضر الشريك الصحيح. بسرعة مذهلة التحقت اللوحة فيما يخص مسألة السرعة بالأخريات. وفي وقت ما أصبح مستطيلها، فيما يخص السطوع وبهاء الألوان وحدة الخطوط واستغلال العمق، من بين الطاولات الكثيرة، مساويا بالأخص لطاولة نيتلر المدير.
الآن، منعما بالأمان في ظلام قمرة نومه، تحتم على نيتلر أن يعترف بأنه قابل الانهيار التام بالأمس بشماتة. ليس لأنه يحسد بلنكر على ما يتراص له يوميا من طبقات من اليمين لليسار ويسري تياره عبر عمق الزجاج الناعم، بوضوح بارز، وتقريبا بشكل مضاعف مرتين وفي كثير من الأحيان ثلاث مرات وليس من النادر أربع مرات، وبمعدل يفوق المتوسط خمس مرات. لم يكن حسد الصورة هو الذي جعله يقاوم ضحكة أثناء إحاطتهم بمكان بلنكر المتأزم.
إنه لا يطيق ببساطة منظر بلنكر. وبالأخص أثار شعره دائما نفوره. كانت شقرته المحمرة صارخة، ومقدمة الجمجمة صلعاء ما عدا منطقة كثة في المنتصف، فقط في مؤخرة الرأس كان لا يزال ينمو بشكل سيئ شعر لا يزيد طوله عن ظفر الأصبع، كثيفا نوعا ما وملفلفا. كانت فروة الرأس العارية مغطاة كالوجه بالنمش. وحتى في القفا بدا أن البقع الصغيرة البنية قد نقشت قوسين عميقين في منبت الشعر. وعندما كان نيتلر يرفع بصره من فوق عمله الزجاجي، ويرى على بعد صفين من طاولته جمجمة بلنكر وهي تتأرجح رأسيا صعودا وهبوطا مع اتجاه انسياب الصورة، يشعر لا محالة بغواية أن يتهم من لا يزال للآن ومنذ وقت طويل أصغرهم سنا بشيء بذيء. طموح خفي، لن يتورع ذات يوم عن اللجوء لتزييف الصورة أو ما هو أسوأ.
ظهر أمس اندفع بلنكر عبر فتحة الأمان، للبحث في الممرات المجاورة عن محول. سمح له نيتلر بذلك، رغم أنه أعلن أنه سيطلب عبر حدبة الدردشة على طاولته كمدير مساعدة زجاجية. وكما هي الحال دائما قد يستغرق الأمر أياما، حتى تأتي المساعدة عبر هذه الوسيلة. الذهاب سيرا على الأقدام للبحث في محيط المكتب الأوسط عن المساعدة الضرورية كان يعدُ حقا بقدر أكبر قليلا من النجاح.
بشيء من الحظ كان المرء يكتشف الحقيبة الداكنة المصنوعة من الفراء لأحد المحولين، مسنودة على البياض الدهني لأحد الممرات، أو بجانب أو تحت شق عرضي مبلل وممزق، أدخل فيه مرتدي العباءة المطلوب نفسه من رأسه لقدمه، ومن ياقة ردائه الخشن إلى ذيله، من أجل أن ينفذ عملا مبهما ما. أو كان المرء يسمع المحول، وقد نزل بكل جسمه إلى جذر مجوف، وهو يعمل مغمغما بكلام غير مفهوم ولكن دون شك بمزاج سيئ. عندئذ يتوجب جذب الشخص المكتشف بمداهنات مدروسة بعناية إلى المكتب وإلى الزجاج الذي يمارس جنونه بقدر أو بآخر.
كان بلنكر منهكا، وبدا واضحا أن إخفاق مسعاه قد أذله، لم يعد إلا في وقت متأخر بعد الظهر وتحتم عليه رؤية جولر السمين راقدا بذراعين مفرودتين تحت طاولته الخربة. أمسك العجوز برجلي الطاولة الخلفيتين، هناك، حيثما تجددتا مرة أخرى برقة بعد النتوءات الأساسية، قبل أن تصبحا هراوتين متساويتين تواجهان مستطيل الزجاج الناعم عديم الحواف. اتخذ جولر هذا الوضع بعد مغادرة بلنكر مباشرة، ومنذ أن طلب في وقت ما، إحضار غطاء من قمرة نومه والزج به مطويا تحت قفاه، لم تصدر عنه أي نأمة. وعندما جاء العائد إلى المائدة، تأوه جولر بارتياح، وانقلب على بطنه وزحف خارجا من تحت اللوحة، وبقي لبرهة مستندا على يديه وركبتيه، حتى اقترب نحو أكثر من عشرة زملاء من أماكنهم وأتيح لهم أثناء نهوضه سماع صوت مفاصله وهي تقرقع على نحو مؤثر.
«بلنكر، يا عزيزي: إنها مساحة تآكل! هذه الطاولة هنا ليست طاولة شابة. أنت أيمن للنخاع. أعتقد أنك تدفع بخشونة شديدة. حاول أن تعمل لبضعة أيام باليد اليسرى. ولكن فقط اجذب ولا تشد. وبإحساس. سيعود ذلك عليكما بالنفع، أنت وزجاجك».
وعندما سار كل فريق المكتب بعد ذلك بقليل إلى ردهة التغذية الطارئة لتناول العشاء، كان نيتلر متأكدا أنه ليس الوحيد الذي راقب بقدر من الرضا كيف كان فم بلنكر ذو الشفتين الرفيعتين مفتوحا. كم رفع لهم ذو الشعر الأحمر لأيام لا حصر لها يده اليمنى باستمرار واثقا من صورة شاشته، وفخورا بها وأحيانا متبجحا بها، كي يبحث من بعد مشدوها في بطن يده، ومن بعد في ظهرها وفي النهاية لمرة أخرى ولوقت طويل في كفه عن أي إشارة لهذا الدفع الزائد عن الحد غير المفيد الذي تنبأ به جولر.
كان مكان ردهة التغذية الجديدة أقرب على نحو مريح من الممر القديم الذي أصبح مؤخرا في مقاومته لنهايته شحيحا للغاية. قبل خمسة أيام رأى بلنكر أخيرا إشارة مغطاة بالصور بوهج، لكنها تعد بالكثير في تفاصيلها الوامضة ببريق منطفئ، تمرق عبر الزجاج. وفي النوبة الثانية لعمل طاولاتهم المشترك ومع بحثهم عن مؤشرات أخرى، تمكنوا من خلال اتصال دائري بسيط، تحديد موقع الردهة التالية الواعدة وبالفعل في الأمسية الأولى كانت تنتظرهم كميات وفيرة من البطاطا الحلوة الساخنة التي يتصاعد منها البخار، بحصص كبيرة متساوية تقريبا، وموزعة على أكثر من دزينتين من الأطباق الرقيقة رقة ظفر الأصبع، لكنها مصنوعة من الصفيح الصلب. ولم يفسد عليهم نشوتهم المشتركة ولا الرغبة في الطعام المتقدة بالتأكيد لدى كل واحد منهم على نحو مشابه، كون أن الشوكة الوحيدة التي وجدوها كانت أسنانها مثنية كالمخالب باتجاه منبتها.
وبالأمس، في الليلة الثانية، كان موجودا بالفعل حتى ثلاثة صحون عميقة على شكل حبة الفاصوليا ومترعة حتى الطرف بغموس أحمر. يدّعي جولر أنه تعرف من جديد على الصوص الحار الحلو الذي خرج له من الحائط ذات مرة قبل أكثر من عام، والتهم في الحال قطعة بطاطا غمسها تماما في الصوص. من باب الحذر انتظر نيتلر والآخرين قليلا. في هذا الشتاء حدثت لأربع مرات تشوهات غير مرئية بوضوح بسبب المواد السائلة الثخينة أو شبه السائلة والعصائد والمعجنات وأنواع الصوص. لو كان الشيء الذي يبدو مشهيا غير مستساغ، يبدأ على الفور تقريبا، وهذا مؤكد، الشعور المعروف بالدوار والألم المميز النابض بحدة في الفودين.
سحب نيتلر رأسه ثانية إلى داخل قمرة نومه. أصابه تذكر حرارة الصوص الأحمر بالعطش. كان ينبغي عليه أن يأخذ معه قنينة ماء إلى سريره المعلق. لكنه استطاع هكذا أيضا أن يساعد نفسه. كانت نتوءات الحائط، التي أخرجت في السابق، في وقت ما في أول أيام عمله بالمكتب، الحبال الأولى المتشابكة مع بعضها لشبكة نومه، مبللة طوال السنين كلها. ومنذ الليالي الأخيرة حديثة الطابع كان ثمة نتوء قصير يشبه العقب ينقط على رأسه، بل وبقوة شديدة، لدرجة أنه كان يزحف خارجا من ركن النوم في الصباح الباكر بشعر مبلل وملتصق بالجمجمة.
انزاح نيتلر لأعلى ووضع شفتيه على الحلمة الزلقة. ما امتصه بدا له باردا على نحو غير مألوف. لكن ربما يوهم نفسه لأن ريح القُمرة قد بدأت تهب من جديد، وربتت عليه -هو الشارب رشفة برشفة، هو مدير المكتب الأوسط الذي أصبح نعسانا مجددا، رغم بدء تدفق الصور مرة أخرى- مثل يد باردة بلطف فوق الرقبة الآخذة في الاسترخاء تدريجيا.
جيورج كلاين من مواليد 1953في اوجسبورج بجنوب ألمانيا، صدرت روايته الأولى «ليبيديسي» عام 1998، واحتُفي بها كواحدة من أفضل الأعمال الأدبية التي صدرت في ذلك العام. وقد تُرجمت إلى العربية عام 2007 عن دار الجمل. ومع صدور روايته «استغاثة السمكة العمياء،» حصل على جائزة الأخوين جريم. وفي عام 2000 حصل على جائزة إنجبورج باخمان. صدر له أيضا في عام 2001 «عن الألمان» مجموعة قصصية، و«الشمس تشرق لنا»، رواية عام 2004. ونال عن روايته «رواية طفولتنا» جائزة معرض لايبزج للكتاب، كما رُشحت رواية «مياكرو» للجائزة نفسها. وقد أصدر قبلها رواية مستقبلية بعنوان «مستقبل المريخ» عام 2013.
أحمد فاروق مترجم مصري عن الألمانية، من بين ترجماته عن الألمانية، رواية «سنوات الكلاب» لجونتر جراس و«طفولة برلينية في مطلع القرن العشرين» لفالتر بنيامين و«حلقات زحل» لـ ف.غ. زيبالد.