مواجهة المحظور الألماني بشأن النكبة الفلسطينية
ترجمة: بدر بن خميس الظفري -
إن المحرقة والنكبة (طرد الفلسطينيين من فلسطين التاريخية، والذي استمر منذ نهاية عام 1947) متشابكتان بعمق. والنكبة، من بين أمور أخرى، نتيجة مباشرة للمحرقة. ومع ذلك، فهي مستبعدة من الذاكرة الجماعية الألمانية، ولا يمكن قراءة علاقتها بالتاريخ الألماني بشكل سلبي، إلا من خلال تصوير إسرائيل الحاليّة (الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة) باعتبارها ملاذا آمنا لليهود. إن «ثقافة الذاكرة» التي كانت تحظى بالثناء في الأمة ذات يوم لا تربط أبدا بين تصور إسرائيل لذاتها كدولة يهودية والطرد المنهجي للفلسطينيين وحرمانهم من ممتلكاتهم. فالعنف الذي يعيشه الفلسطينيون لا بد أن يظل غير مذكور، ومحظور الحديث عنه. وعندما يصبح واضحا، فإنه يصبح تهديدا، ويعد منافسا لرواية المحرقة ويلوث ثقافة الذكرى الألمانية. ولهذا السبب لا يمكن الاعتراف بالعنف ضد الفلسطينيين باعتباره استمرارا لمعاداة السامية الأوروبية. إن القيام بذلك من شأنه أن يجبر ألمانيا، موطن أكبر جالية فلسطينية في أوروبا، على مواجهة الحاضر المستمر في تاريخها والاعتراف بأن إعادة تأهيل الأمة أخلاقيا لم يكتمل بعد.
إن المحرمات المفروضة على تجربة العنف الفلسطينية قوية، إلى الحد الذي يجعل من الضروري رفض الهُوية الفلسطينية ذاتها اجتماعيا. والواقع أن التجربة الفلسطينية قريبة إلى حد مزعج من التجربة اليهودية، حتى أن المرء أحيانا، وفقا لإدوارد سعيد، لا يستطيع حتى أن ينطق بكلمة «فلسطين». وهذا التقارب بين التجربة اليهودية والتجربة الفلسطينية يجعل من رؤية الفلسطينيين أمرا محرجا، حتى بالنسبة للفلسطينيين أنفسهم.
في كتابي «المحظور والصدمة والهوية: بناءٌ موضوعيٌّ للفلسطينيين في ألمانيا وسويسرا، 1960-2015»، استكشفت كيف يؤثر التذكر والنسيان الانتقائيان في ألمانيا، أي التذكر المؤسسي للهولوكوست والنسيان المؤسسي للنكبة، وكيف يؤثر على المهاجرين الفلسطينيين وأطفالهم، تحديدا على الألمان من أصل فلسطيني من الجيل الثاني المولودين هناك. يكرر المحظور الاجتماعي المحيط بتجربتهم الجماعية للنزوح ويعمق هذا العنف والصدمة، مما يؤدي إلى تفكك الذات، والكآبة، ومشاعر الخفاء والغياب والذنب والعار في الداخل ونفي الذات في الخارج. ولكن في حين يظل الفلسطينيون من الجيل الأول عالقين في صدمتهم، بدأ أطفالهم في تحويلها إلى قدرة على التصرف، واستعادة هويتهم وتاريخهم المهمليـْن اجتماعيا، واستبدال إنكار الذات بسياسة وضوح الرؤية.
لقد كانت قصص الحياة والمحادثات، فضلا عن الملاحظات الإثنوغرافية الإنسانيّة الذاتية، مهمة لعملي، كما كان التحليل النفسي، الذي يوفر الأدوات والمفردات اللازمة لاستكشاف المحرمات والصدمات في سياق العلوم الاجتماعية. إن المحرمات والصدمات، بحكم التعريف، تقع خارج نطاق السرد، لكن التحليل النفسي كرّسَ نفسه لتحدي إيجاد لغة لما يحدث بالفعل خارج الإطار اللغوي، لغة يمكنها التعبير عن تجربة المعاناة من القاعدة الاجتماعية، أو الألم الذي لا يتوافق مع هذه القاعدة.
(هان كيلسون) كان من أوائل من لفتوا الانتباه إلى الدور الذي تلعبه البيئة الاجتماعية في توسيع التصور الطبي الضيق للصدمة باعتبارها ظاهرة فردية. ففي دراسته لأيتام الحرب اليهود، أظهر أن الصدمة ليست مجرد رد فعل فردي تجاه حدث يغمر النفس؛ بل إنها أيضا عملية وبنية، حيث تشكل الطريقة التي يتعامل بها المجتمع ككل مع التجارب العنيفة عاملا أساسيا في كيفية تعامل الأفراد معها. على سبيل المثال، يمكن أن تخلف تجارب الإقصاء المتكررة، مثل تحريم تجارب العنف وتجاهل وإنكار المرء المنهجي لإدراكه الخاص، تأثيرا صادما. ويعاني الفلسطينيون في ألمانيا من الإقصاء الاجتماعي ليس فقط على المستوى الفردي، بل وعلى المستوى الجماعي أيضا.
في السياق الفلسطيني ترتبط المحرمات والصدمات النفسية ارتباطا وثيقا. وقد شرحت لي امرأة ألمانية من أصل فلسطيني من الجيل الثاني كيف كان الناس يعدونها يهودية عندما كانت طالبة لأنها كانت «حرة» إلى حد كبير. وكانت تسمح للناس بأن يصدقوا هذا لأنها كانت تشعر براحة أكبر عندما يُنظَر إليها باعتبارها يهودية. وبالرغم من أن التجربة اليهودية تشبه التجربة الفلسطينية، ولكن التجربة اليهوديّة لم تكن محرمة. وبمرور الوقت، كانت قد بنت ما وصفته بأنه «هوية مصطنعة تماما» تستطيع أن تضع فيها كل آلامها. وهذا القمع هو تكرار، فهو يكرر ويعمق العنف الجسدي الذي تعرضت له نتيجة للتطهير العرقي، وبالتالي يضيف إلى الصدمة الأصلية. ووصفت طريقتها في الحفاظ على الذات بأنها فعل إحلال، فمن أجل أن تتمكن من تقاسم آلام تاريخ عائلتها من الطرد مع من حولها، انزلقت إلى هوية أخرى، واختبأت آلامها في آلام الآخر، وهي الشخصيّة اليهودية. ومن أجل أن يتم الاعتراف بها كإنسانة، مارست شكلا من أشكال العنف على نفسها، والذي عانت منه مرارا وتكرارا في المجتمع، وهو إلغاء تجربتها الفلسطينية من خلال التجربة اليهودية في أوروبا.
إن جزءا حاسما من الصدمة التي يعيشها الفلسطينيون في ألمانيا لا ينبع فقط من اعتبار هذه الصدمة من المحرمات، بل وأيضا ممّا يسميه بيير بورديو «العنف الرمزي». ويصف هذا المصطلح عنف الخطابات التي تعمل على تطبيع العنف النظامي وإضفاء الشرعية عليه، أي العنف الذي ينبع من الأنظمة السياسية والاقتصادية. ويبرر العنف الرمزي طرد الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم بطرق مختلفة، إذ يتم التقليل من شأن الفعل العنيف المتمثل في الطرد، وتقديمه على أنه مثير للجدل، أو عرضي، أو من صنع الذات، أو حتى «إلغائه».
ومن خلال إنكار وجود الفلسطينيين في فلسطين التاريخية أو ارتباطهم بالأرض، تمحى حقيقة العنف. وأخيرا، يبرر العنف ضدهم أخلاقيا من خلال ثنائية الضحية والجاني، حيث يُحبسون موقف الجاني والمنحرف الأخلاقي. لقد صُوِّر الفلسطينيون، وما زالوا، في أشكال جديدة ومختلفة باعتبارهم متوحشين وإرهابيين ومتطرفين إسلاميين ومعادين للسامية، في حين يتم تضمين إسرائيل فيما يسمى بالثقافة الغربية المسيحية اليهودية ومجتمعها المتحضر.
في ألمانيا، كانت شيطنة الفلسطينيين تسير جنبا إلى جنب مع ممارسات تجريمية، مثل المراقبة والرقابة والطرد وحظر التجمعات وحل الجمعيات الطلابية والنقابات العمالية. ونتيجة لهذا، يظهر العنف الذي يعيشه الفلسطينيون مبررا. وبالتالي يصبح الفلسطينيون أشخاصا يستحقون المعاناة من العنف، وقد شعر العديد منهم، وخاصة في الجيل الأول، بالعنف الذي عاشوه باعتباره شيئا فرض عليهم ذاتيا وشيئا مخزيا. وبهذه الطريقة، حُرموا من التعبير عن معاناتهم. وبتكرار العنف الرمزي وتكثيف العنف الجسدي الناجم عن طردهم، أدى في نهاية المطاف إلى تفريغهم من ذواتهم. إن السرديات التي تقلل من أهمية الفلسطينيين لم تؤدِّ فقط إلى الخوف من الظهور والنشاط السياسي، بل أدت أيضا إلى الإحجام عن الشعور بالغضب والحزن، ناهيك عن التعبير عنهما. ولا يستطيع العديد من الفلسطينيين حتى الحداد على معاناتهم مع العنف لأنها غير موجودة رسميا. وقد أدى هذا إلى الاكتئاب والانسحاب من المجتمع والأسرة والزملاء الفلسطينيين، مما أدى إلى العزلة والاغتراب الاجتماعي وحياة تتسم باليأس وتدمير الذات. لقد أدى الشعور بالذنب والعار إلى محو شعورهم بالهوية، حيث أدت الروايات القوية التي تنكر وجود الفلسطينيين إلى جعلهم غير معترف بوجودهم فعليا. ونظرا لأنه لا يمكن النظر إليهم باعتبارهم بشرا أو الحداد عليهم باعتبارهم كذلك، فقد أنكر العديد منهم في مرحلة ما هويتهم أو أخفوها في الأماكن العامة من أجل تجنب الألم الناتج عن الوصم الاجتماعي. ولم يجعل العنف الرمزي أفراد الجيل الأول غير مرئيين فحسب، بل أصبح أيضا جانبا مهما من علاقتهم بأطفالهم، وهي علاقة أبويّة اتسمت بالكآبة. وقد اتخذ عدم رؤيتهم شكل الغياب العاطفي في السياق الأسري، مما أسهم بشكل كبير في كيفية نقل التجارب المؤلمة.
بالنسبة للعديد من الجيل الثاني من الألمان من أصل فلسطيني، كان الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة في عام 2014 بمثابة نقطة تحول، حيث تزايد تحريم وتبرير تجارب العنف الفلسطينية. وقد قدّم الاستخدام غير المتناسب للقوة من قبل الجيش الإسرائيلي، والذي أدى إلى مقتل مئات المدنيين، في ألمانيا على أنه ضروري، وتم تبنّي رواية إسرائيل عن حرب الدفاع عن النفس دون تحفظ. اختفى الفلسطينيون الذين احتجوا على هذا كأفراد وتحولوا إلى رعايا فلسطينيين معادين للسامية. أدى هذا إلى زيادة مشاعر عدم الثقة تجاه المجتمع الذي نشأوا فيه، والشعور بأنهم يعيشون في المنفى في أرض ميلادهم. في حين كان العديد من أفراد الجيل الثاني قد اعتبروا في السابق الافتقار إلى التعاطف تجاه الفلسطينيين باعتباره جهلا، إلا أنهم فسروه الآن على أنه عنصرية معادية للفلسطينيين. لقد انفصلوا عن نفي الذات الذي فرضه عليهم آباؤهم في كثير من الأحيان، وبدأوا في التغلب على عزلتهم وخوفهم من الظهور والنشاط، وبناء التضامن الوطني والعابر للحدود الوطنية، والعمل ضد التفرّق والتشتت. واكتشف الجيل الثاني أيضا الحزن والغضب اللذيْنِ حرم منهما آباؤهم، وبدأوا في استكشاف وإعادة تخصيص تاريخهم المرفوض اجتماعيا، سواء على المستوى العائلي أو الوطني، وهويتهم، وتحويل الشعور بالذنب والعار إلى كبرياء، والعجز الناتج عن الوجود المؤلم إلى قدرة على التصرف.
إن هذا التطور بين الأجيال، والذي أدى إلى استعادة عقلية وعاطفة للتجربة المفقودة والانتماء والكفاءة الذاتية، قد اكتسب بعدا جديدا مع الإبادة الجماعية الحالية في غزة، التي دعمتها ألمانيا عسكريّا وأخلاقيّا، والتي زادت من تحريم التعبير عن الصدمات التي تعرض لها الفلسطينيون إلى مستوى غير مسبوق. ففي السياسة ووسائل الإعلام الألمانية، بررت الإبادة الجماعية باعتبارها حربا ضد معاداة السامية، وهي الحرب التي تمتد بشكل متزايد إلى الفلسطينيين في ألمانيا أيضا. وبالنسبة للألمان من أصل فلسطيني، أصبحت الحدود بين «هنا» (ألمانيا) و«هناك» (فلسطين التاريخية) أكثر ضبابية. وينظر إلى التبرير المستمر للعنف الذي تمارسه الدولة الإسرائيلية في الخطاب العام باعتباره تكرارا متواصلا للصدمة الجماعية المتمثلة في التطهير العرقي، دون نهاية تلوح في الأفق. والعنف الرمزي المتمثل في شيطنة الهوية الفلسطينية، يزداد مؤسسيّة على نحو متزايد، مما يؤدي إلى فرض الدولة قيودا على ظهور الفلسطينيين في الأماكن العامة وإلى عنف شديد من جانب الشرطة، بالإضافة إلى أمور أخرى. ومع ذلك، أصبح الألمان من أصل فلسطيني من الجيل الثاني والثالث أكثر وضوحا، حيث يظهرون فلسطينيتهم في الأماكن العامة، ويخرجون إلى الشوارع بانتظام، ويتهمون ألمانيا بالتواطؤ في الإبادة الجماعية، وينظمون أنفسهم في حركات شعبية تدافع عن حق الفلسطينيين في الحرية والمساواة.
في حين أصبحت عملية إضفاء الطابع العرقي على الذات بين الفلسطينيين من الجيل الثاني والثالث آلية للتكيف مع تجربة الإلغاء، فإنهم ينظرون أيضا إلى الهوية الفلسطينية باعتبارها هوية تتماشى مقاومتها للاستعمار والعنصرية مع الحركات المماثلة التي بدأتها مجموعات اجتماعية تابعة أخرى. لطالما تساءلت عما إذا كانت مقاومة العنف العنصري ممكنة دون تكرار هذا العنف. لقد أظهرت لي رؤية هذا النضال الشامل والمتقاطع من أجل المساواة وتقرير المصير أنه ممكن.
• تم تعديل هذه المقالة من محاضرة ألقيت كجزء من ندوة «إقليمية ألمانيا وسياسات الذاكرة» خلال مؤتمر «الشهادة على الفظائع: المعارضة في أعقاب غزة» الذي عقد في مبادرة سبور، برلين، في الفترة من 26 إلى 28 أبريل 2024.
سارة البلبيسي باحثة في المعهد الشرقي في بيروت، وقبل ذلك، عملت باحثة ومحاضرة في معهد دراسات الشرق الأدنى والأوسط في جامعة لودفيج ماكسيميليان في ميونيخ، وقادت مشروع «العنف والهجرة القسرية والمنفى: الصدمة في العالم العربي وألمانيا»، وهو مشروع حوار في التعليم العالي بين الجامعات الفلسطينية واللبنانية، وكذلك جامعة لودفيج ماكسيميليان في ميونيخ.
عن مجلة كابينِت.