مستقبل المدينة
في أوائل ربيع هذا العام، وجدت نفسي أسيرا في (منهاتن الدنيا)، ولم تزل في الجو برودة سارية، وقد سقط قليل من ندف الجليد في الليلة السابقة وإن لم يثبت منه شيء. وفيما مضيت أهيم، راعيت أن أرى أيَّ دلائل باقية على إعصار ساندي الذي ضرب الجزيرة في التاسع والعشرين من أكتوبر من العام الماضي، مضعضعا مناطق نيويورك الخمسة «ومنها منهاتن» دونما رحمة، تذكرةً كريهة بهشاشة المدينة.
في تلك الليلة من أكتوبر، إذ علت المياه فمضت تملأ منهاتن الدنيا، ثبت أن شارع وول ستريت نفسه غير معصوم من يد الطبيعة. وفيما انطفأت الأضواء -فبقيت كذلك لأيام تالية- ساد شعور غريب باحتمالات حدوث هذا بصورة أكثر تواترا، في أي مكان في العالم.
في أماكن أخرى من المدينة المعتمة، تعطلت البنية الأساسية. غرق نظام قطارات الأنفاق. بعثرت المياه المتصاعدة السيارات ورمتها رمي الحطام، وفي جزيرة ستيتن سوِّيت أحياء كاملة بالأرض، بينما انفجر في كوينز مولِّد كهربائي فأضرم النار في العديد من البنايات السكنية. وإضافة إلى الضرر المادي ترددت قصص عن الكرب البشري: إذ تحتم إخراج 300 مريض من مركز لاجون الطبي التابع لجامعة نيويورك بعد أن تسبَّبت الرياح العاتية في تعطيل طاقة الطوارئ. وفي جزيرة ستيتن غرق شرطي شاب بعدما وصل بأسرته المؤلفة من ستة بالغين وطفل عمره خمسة عشر شهرا إلى الأمان، وفتاتين في الثانية والرابعة بعدما انتُزعتا انتزاعا من ذراعي أمهما جليندا مور وهي تحاول الفرار من المياه المتصاعدة في سيارتها، بعد أن خرجت طلبا للمساعدة فلم يفتح سكان البيوت القريبة أبوابهم.
يثير إعصار ساندي أسئلة كبيرة عن الطريقة التي سنعيش بها في المستقبل. فليس بوسع حاكم مدينة وإن بلغ منه التفاؤل مبلغه من حاكم نيويورك مايكل بلومبرج إذ وقف وسط الحطام ليقول للناس إن كل شيء على ما يرام، وإن ما حدث لن يتكرر مرة أخرى أبدا. نحن اليوم نواجه تحدِّيا بيئيا من صنع أيدينا: الآن إذ تعيش الغالبية منا في مدن، ففي حدود الحاضرة سوف توضع مسودة مستقبلنا، مستقبل الخلاص أو مستقبل الموت.
يبدو المستقبل لبعض علماء الجغرافيا سوداويا. يرى عالم الاقتصاد (ماثيو كان) أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في لوس آنجلوس ومؤلف كتاب «مناخ الحواضر: كيف ستزدهر مدننا في مستقبل أكثر حرارة» [Climatopolis: How Our Cities Will Thrive in the Hotter Future ] (2010) أن التغير المناخي سوف يؤدي إلى عواقب وخيمة على كثير من المدن الكبرى. فمع ذوبان الغطاء الجليدي القطبي، ستكون المستوطنات الساحلية أول ما يتعرض للفيضان. وستتلقى مدن سان فرانسيسكو ولندن وريو دي جانيرو ونيويورك الضربة حينما تعلو المياه وتغمر المجتمعات الأكثر انخفاضا (وفقرا في الغالب).
سان دييجو في جنوب كاليفورنيا معرّضة بصفة خاصة للخطر، فبحلول عام 2050 سيكون مستوى سطح البحر قد ارتفع بين 30 إلى 45 سنتيمترا وسوف ترتفع درجات الحرارة بما يُقدَّر بأربع درجات ونصف الدرجة. في الوقت نفسه ستستمر المدينة في النمو، بما يستوجبه النمو من زيادة الطلب على الخدمات، ومنها زيادة الطلب على الماء بنسبة 35%. في الوقت نفسه، وبرغم ارتفاع مستوى سطح البحر، سيتقلص نهر كولورادو بنحو 20% فيزيد من خطر اندلاع حرائق براري مناطق سان دييجو الحارة الجافة النائية. ويتنبأ (كانْ) بأن الغلبة بين سكان المدينة سوف تكون من كبار السن إذ ستتاح للشباب فرص أفضل للرحيل: فحينما ترتفع المياه ستكون أضعف فئات المجتمع هي الواقعة في الصدارة.
غير أننا لا ينبغي أن نعتمد على التكهنات لنتخيل أثر الحوادث المناخية الكبرى على المدينة. فقد رأينا هذا السيناريو يتكشف أمام أنظارنا من قبل.
في يوم الخميس الثالث عشر من يوليو سنة 1995 ارتفعت درجة الحرارة في وسط مدينة شيكاجو لتسجل رقما قياسيا بلغ 40 درجة مئوية وهي ذروة أسبوع متصل شديد الحرارة. واجتمعت إلى ذلك رطوبة مرتفعة، فاشتدت الحرارة حتى كادت الحركة تستحيل دونما انزعاج. في بداية الأسبوع، سخر الناس ومزحوا، وفتحوا زجاجات «البيرة» واحتفلوا بوصول الطقس الجيد. لكن بعد سبعة أيام وليال من الحرارة المتصلة، وفقا لما ذكرت صحيفة شيكاجو تريبيون:
فتح سكان شيكاجو الشاعرين بالحرارة الشديدة ما يقدَّر بثلاثة آلاف من صنابير الإطفاء فأسفر ذلك عن رقم قياسي في استهلاك المياه. قلَّصت منطقة حديقة شيكاجو برامجها لمنع الأطفال من إجهاد أنفسهم في الحر. ازدحمت حمامات السباحة، في حين لجأ البعض إلى طلب الراحة في الأقبية الباردة. وحضر المتفرجون مباريات البيسبول مغطين رؤوسهم بمناشف مبلولة. وانبعجت بعض الطرق وتحتَّم رش بعض الجسور بالماء لإغلاقها على النحو المحكم».
ولم يتسن للسلطات فحص الأضرار إلا بعدما انتهت الموجة الحارة. تبين أن أكثر من 739 شخصا قد ماتوا من الإنهاك الحراري أو الجفاف أو الفشل الكلوي برغم إصدار خبراء الأرصاد الجوية تحذيرات مسبقة من خطورة الطقس المنتظر. استحال على المستشفيات أن تواكب الوضع. وفي محاولة غير مجدية للمساعدة، عرض مالك إحدى شركات تعليب الأغذية استعمال شاحنة من شاحناته المبردة لحفظ الموتى، فسرعان ما امتلأت بجثامين الفقراء، والعجزة، والمسنِّين، وتعيَّن عليه أن يبعث 8 شاحنات إضافية. وفيما بعد حكى التشريح حكاية كئيبة متوقعة مفادها أن أغلبية الموتى هم من كبار السن الذين نفد لديهم الماء، أو علقوا في شقق شديدة الحرارة وتخلى عنهم جيرانهم.
في رد فعل على الأزمة، قام فريق من (المراكز الأمريكية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها) بالبحث في المدينة عن أسباب هذا الارتفاع في عدد الوفيات على أمل منع وقوع كارثة مماثلة في مكان آخر. لم تخرج النتائج عن المتوقع: وهو أن الذين ماتوا إنما هم الذين عجزوا عن العثور على معاونة أو ملاذ، وأنهم ماتوا وحدهم، دونما مساعدة. وعمليا ألقى التقرير اللوم على الموتى أنفسهم لعجزهم عن مغادرة شققهم، أو تأمين كفايتهم من الماء، أو التحقق من عمل أجهزة التكييف.
يقدم هذان السيناريوهان إدانة قاتمة لمستقبلنا المديني. فالظاهر أن الكوارث الطبيعية أمر حتمي، ولكننا نبدو عاجزين إلى حد كبير عن تهيئة أنفسنا لغير المتوقع. فما الذي بوسعنا أن نفعله لنهيِّئ أنفسنا للكارثة القادمة، وربما لأن نمنعها؟
***
تطرح نيويورك 2012 وشيكاجو 1995 اثنين من ردود الفعل البديلة تجاه ورطة واحدة. بالنسبة لأهل نيويورك، يبدو أن الاستجابة للتغير المناخي استجابة ميكانيكية. فالمعماريون والمخططون والمهندسون ينظرون حاليا في سبل لإيقاف ارتفاع المد وتقليل ضرر الأعاصير. وقد أثمر هذا بالفعل عددا من الابتكارات، مثل مقترح مؤسسة نهر هدسن وسلاح المهندسين في الجيش الأمريكي بوضع قيعان محارية جديدة وتثبيت الضفة على طول نهر هدسن، والخطة واسعة النطاق التي بدأها الحاكم بلومبرج لخلق حاجز عواصف بعرض مدخل ميناء نيويورك. وفي الوقت نفسه رسمت (الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ) خرائط فيضانات لمنهاتن والمناطق المجاورة محدِّدةً فيها الأحياء المعرَّضة لارتفاع منسوب المياه.
ويصفو الأمر في النهاية، جزئيا، إلى المال. ففي أعقاب الإعصار أجري تدقيق سريع للأضرار وتبيَّن أنه كبَّد المدينة 19 مليار دولار (أو ستين مليارا لو حسبتم حزمة الإنقاذ الفيدرالية). وهذا -في ما يبدو- ثمن مستحق الدفع لمنفعة من يعيشون في المدينة. لم نسمع قصصا عن حالات إخلاء جماعي، أو انتقال عائلات طلبا لحياة أهدأ. فضلا عن أن المدينة سارعت إلى إعلان أنها مهيأة لتغطية أي قدر من التكاليف حماية للمدينة في المستقبل. وذلك يثير سؤالا مؤرقا: هل سيأتي زمن يرتفع فيه ثمن الأمن في منهاتن ارتفاعا يفوق الممكن؟
بعد موجة 1995 الحارة، اختار أهل شيكاجو سبيلا آخر للتعامل مع الكارثة. فبعيدا عن تقرير (المراكز الأمريكية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها)، وبعيدا عن عمل العلماء الرسميين، أجرى إريك كلايننبرج أستاذ علم الاجتماع بجامعة نيويورك بحثه الخاص حول الموجة الحارة مركزًا على أقسام المدينة الأكثر تضررا من الكارثة وليس على سلوك الأفراد. وركزت نتائجه التي نشرت في كتاب «موجة حارة: تشريح اجتماعي لكارثة في شيكاجو» [Heat Wave: A Social Autopsy of Disaster in Chicago ] (2002) على إخفاقات الأحياء بدلا من حماقة الأفراد. تبيَّن لكلايننبرج وجود أربعين حالة وفاة في كل مائة ألف نسمة في حي شمال لونديل، ووجود أربع حالات وفاة فقط في كل مائة ألف في حي جنوب لونديل.
تبيَّن أن حي لونديل الشمالي عبارة عن مجتمع في حالة تدهور، بلا مكان يذهب إليه كبار السن، بلا متاجر، بلا أماكن للتجمع، وبلا حدائق، وبلا مجتمع فاعل يتفقد الفئات الأضعف في أوقات الشدة. كانت إخفاقات المنطقة مشكلة قديمة ويمكن تحديدها بشكل منهجي: فقد انتقل كثير من سكان شمال لونديل إلى الضواحي، فخسرهم الحي ولم يعوضهم. وعلى النقيض، كان حي جنوب لونديل مجتمعا مزدهرا، تغص شوارعه بالناس، وتقدم كنائسه نطاقا من الأنشطة الاجتماعية لكبار السن.
من خلال دراسة المجتمع كوحدة كلية، أثار بحث كلايننبرج أسئلة مثيرة عن كيفية تأثير الكوارث على مدينة. وقد تحدى البحث بصفة خاصة فكرة إمكانية الحكم على شدة مدينة من خلال البيئة المبنية وحدها [built environment -البيئة المصنوعة بيد الإنسان- المترجم]. وعندما يدور كثير من النقاش المتعلق بالمدن حول الطوب والأسمنت والطرق والبنية الأساسية، يسهل نسيان أن المدن مؤلفة من ناس يعيشون ويتطورون في الفضاءات القائمة بين هذه المباني. لقد ذهب كلايننبرج إلى أن المجتمع الشديد دفاع جوهري في مواجهة الكارثة شأن جميع الحلول الهندسية، وأن الحلول الاجتماعية للكارثة هي الحلول التي يخاطر الساسة والمخططون إذ يتجاهلونها.
الكوارث أمور معقدة يمكن قراءتها -بعد مرورها- قراءات كثيرة مختلفة. لكن الآن وقد صار وقوع ما يمكن التنبؤ بعدم إمكانية التنبؤ به -أو ما يعرف بـ«حدث البجعة السوداء»- أمرا محتوما، فإن كثيرا من مخططي المدن وأساتذة علوم البيئة قد بدأوا في مناقشة هشاشة المدينة باعتبارها قضية ملحّة.
تبدو فكرة المدينة «الهشة» فكرة سخيفة، وكأنها المجاز الخاطئ للتعبير عن الحاضرة. لكن في كتاب (غير الهش: أشياء تستفيد من الفوضى) [Antifragile: Things That Gain from Disorder ] (2012)، يبني المضارب السابق في وول ستريت على كتابه «البجعة السوداء» [The Black Swan ] (2012)، وهو كتابه المؤسس السابق الذي درس فيه القدرة التدميرية الكامنة في الأحداث غير المتوقعة. يقترح طالب طريقة لقياس العالم الذي يصنف المنظمات والمدن والمجتمعات والأعمال باعتبارها «هشة» أو «غير هشة». فكل ما يبقى (ويزدهر) برغم الشدائد غير هش إذ «يتفرد بخاصية أنه يتيح لنا التعامل مع المجهول، والقيام بأمور دون أن نفهمها، بل وإحسان القيام بها». وفي حال عجزنا عن التنبؤ بالقادم القريب، حسبما يرى طالب، لا بد أن نتأهب على الأقل لأي احتمال. أي أن علينا، بعبارة أخرى، أن ننشئ في أنفسنا المرونة.
لقد صيغ مصطلح «نظرية المرونة» في أوائل سبعينات القرن الماضي وصاغه أستاذ علوم البيئة (سي إس [باز] هولينج) الذي افتتن بالعلاقة بين البيئة والتركيب. فمن خلال النظر إلى نماذج تغير الأشياء، أملَ هولنج في العثور على القوانين الخفية التي يقوم عليها الاضطراب -سواء جاء على حين غرة كالحرائق أو الانفجارات أو جاء حدوثه بصورة أبطأ مع بقائه قادرا بالمثل على التغيير.
ومثلما سيفعل طالب لاحقا، حاول هولنج قياس المرونة بوصفها خاصية. فقد أشار على سبيل المثال إلى أن بالإمكان أن نحكم على الشدة بناءً على مقدار الزمن الذي يستغرقه استرداد التوازن، وإلا فبناءً على مدى صرامته -أي «قدرة النظام على امتصاص الاضطراب وإعادة التنظيم في ثنايا خضوعه للتغير بحيث يظل محتفظا بشكل جوهري بنفس الوظيفة والبنية والهوية والمردود». وقد حدَّد أربعة عوامل أساسية تقوم عليها المرونة هي (المدى) أو إلى أي حد يمكن مهاجمة النظام، و(المقاومة) أي صرامة الهيكل في مقاومة التغير، و(الهشاشة)، أو مدى ضعف الوضع الحالي للنظام، وأخيرا (الشمول) ويقصد به درجة ترابط وتفاعل النظم المختلفة.
ثبت أن أفكار هولنج أدوات قوية في عدد من المجالات، ومنها البيئة، والتركيب، وتخطيط المدن وربما لا عجب في هذا. مر الآن قرابة عقدين والمفكرون الحضريون يستعملون نظرية التركيب في فهم كيفية عمل المدن. ولقد كتبت جين جاكوبس -ولعلها الأكثر تأثيرا ممن كتبوا عن المدينة الحديثة- في «وفاة مدن أمريكا الكبرى وحياتها» [The Death and Life of Great American Cities ] (1961):
«تحت الفوضى البادية في المدينة القديمة، حيث تعمل المدينة القديمة بنجاح، ثمة نظام رائع للحفاظ على أمن الشوارع وحرية المدينة. وهو نظام مركب... قوامه الحركة والتغير، وبرغم أن موضوعنا هنا هو الحياة لا الفن، فلنا أن نشطح ونطلق عليه فن المدينة وأن نشبهه بالرقص».
فضلا عن فهم متزايد للمدينة بوصفها تعبيرا عن التركيب، تشيع اليوم على نحو متزايد دراسة الحاضرة بوصفها نظاما بيئيا تحتل المدينة فيه بمنتهى الوضوح صدارة جدال التغير المناخي. وفي ظل هذا الوضع فإنها أرض اختبار مُلِحٍّ لأفكار المرونة، حتى لو استدعت الضرورة الطارئة توترا بين الإنساني والبيئي. فالمدن هي الأماكن التي يعيش فيها أغلب الناس حاليا: في 2007 أعلنت الأمم المتحدة أن 50 في المائة من سكان العالم بحلول عام 2008 سيتألفون من سكان المدن ثم ترتفع النسبة إلى 75% بحلول عام 2050. غير أن المدن أيضا هي الأماكن التي تحترق فيها الأغلبية الكاسحة من موارد الطاقة العالمية. فنيويورك على سبيل المثال تنتج قدرا أكبر من غازات الاحتباس الحراري لكل قدم مربعة وتستعمل قدرا أكبر من الطاقة وتنتج قدرا أكبر من النفاية من أي مكان في أمريكا مماثل في الحجم.
قد يريحنا أن ندرك أن العيش في المدينة، خلافا للحدس، ربما يكون أرحم بالبيئة مما يتخيل كثيرون. فبرغم الإحصاءات السابقة، فإن أبناء نيويورك -على المستوى الفردي- أرشد في استهلاك الطاقة، وأقل بعثا للكربون وإنتاجا للنفايات من الشخص المتوسط خارج المدينة. وفي عام 2009 كشف الصحفي النيويوركي ديفيد أوين حقيقة مدهشة مفادها أن العيش في نيويورك أكثر صداقة للبيئة كنمط حياة من العيش في الضواحي أو في الريف نفسه. فقد أوضح خلافا لمعظم الافتراضات أنه عندما يعيش الناس في تقارب نسبي من بعضهم بعضا، في بيئة يمكن السير فيها، فإنهم يصبحون في واقع الأمر أكثر كفاءة في تعاملهم مع البيئة. وبرغم الاستهلاك الكثيف للطاقة وتكاليف التنقل داخل المدينة، فهي وسيلة لافتة الذكاء للجمع بين الناس. وجعلُ المدينة سفينة نوح لنا أو كفننا الخرساني مسألة ترجع إلينا نحن.
***
يرى أغلب المفكرين الحضريين أن التخطيط لمدينة مرنة معضلةٌ إما سياسية أو تقنية، فهي مسألة إملاء من أعلى إلى أسفل (نوع من التقشف على نطاق واسع) أو ابتكار جنوني يساعدنا على استعمال قدر أقل من الطاقة، وعيش حياة أكثر كفاءة، وتجهيز أنفسنا للبجعة السوداء التالية وحمايتنا منها. لكنهم يزدادون إحساسا بأن من الممكن الحصول على شديدة أكثر من خلال الاستثمار في حلول ذكية صغيرة الحجم قائمة على التواصل بدلا من مشاريع البناء الماموثية. سيبقى لمشاريع السيطرة على الفيضانات مثل حاجز التيمز في لندن ونظام حواجز موس على خليج فينسيا دور تؤديه، لكن المرونة أقل اعتمادا على المقاومة الغاشمة من اعتمادها على استباق الكارثة بخطوة من خلال استعمال آليات تفادٍ تقنية ذكية.
تقدم تكنولوجيا الإنترنت والبيانات الضخمة بالفعل عونا للمرونة. إذ صمم جوجل أدوات متطورة لتعقب انتشار الإنفلونزا من خلال رسم محركاته نتائج بحثية بينما استُعمل (مكتشف تويتر للزلازل) للربط بين أجهزة قياس الزلازل ووسائل التواصل الاجتماعي من أجل تقدير حجم وأثر أي هزة. وثمة لاعبون آخرون من قبيل آي بي إم وسيسكو وسيمنز وأكسنتيور ومكنزي وبوز آلن يدخلون الجدال حول المدينة الذكية وينشئون أدوات لتحقيق الكفاءة والاستدامة في حواضر مرتبطة. وهم يتحدثون في قاعات المدينة ويعرضون حلولا شاملة، حزما كاملة لتعديل المدن العادية بما يتواءم مع القرن الحادي والعشرين، ويقرنون جهودهم هذه بدفع قوي لها.
وفق أحد السيناريوهات، تصبح المدينة ذاتها هي الكمبيوتر، بما يتماشى وقواعد عصر المعلومات. في هذه المدينة المرتبطة الجديدة، تراقب المعلومات الآنية وتنظم القواعد للنسيج الحضري، وتنشر المباني والأشياء وإشارات المرور باعتبارها أجهزة استشعار وتحفيز. وعلى حد قول (كارلو راتّي) مدير (معمل المدينة الواعية SENSEable City Lab) بمعهد مساتشوستس للتكنولوجيا، فإن المدينة سوف تعمل مثل «كمبيوتر في الهواء الطلق». وبوصفها مكانا واعيا، لن تكتفي المدينة بجمع المعلومات بل ستعمد إلى تغيير المردود والتفاعل معه. وعند تعليقه على هذه التطورات دون أي حس ساخر واضح قال (آساف بايدرمان) المدير المساعد لمعمل المدينة الواعية إن التكنولوجيا الذكية قادرة على أن تجعل «المدن أكثر إنسانية».
يقع معمل المدينة الواعية في صدارة عدد من أدوات التطوير التي تساعدنا على الإبحار في المدينة. وتأملوا (عجلة كوبنهاجن) [التي استعملت للمرة الأولى في العاصمة الدنماركية سنة 2009]، وهي أداة لتدوير الطاقة المولدة من تحريك دواستي الدراجة وتحتوي في الوقت نفسه أجهزة استشعار متطورة يمكن استعمالها لإطلاع راكب الدراجة على الحالة المرورية المتوقعة في طريقه، كحال الطريق أو أفضل مسار بديل.
منذ 2011 يقوم معمل المدينة الواعية باختبار منصة مفتوحة تجمع كل المعلومات التي تولدها وتحتاج إليها دولة/ مدينة سنغافورة. يراقب «سنغافورة لايف» البيانات الواردة من إدارات حكومية عديدة لإنتاج تغذية بيانات آنية خاصة بكل ما يجري في المدينة، ويمكن للساسة وأفراد شرطة المرور والمواطنين العاديين أن يتصلوا به باستعمال أدوات عديدة. ويفخر المشروع فعليا بامتلاكه خريطة تزامنية تبيّن الفترة التي يستغرقها التنقل في سنغافورة في أوقات مختلفة من اليوم. ويمكن أن تحسِّن التغذية البيانية توزيع سيارات الأجرة في المدينة، ووضع تصوُّرات لقدرة الأحداث الكبرى من قبيل سباق الجائزة الكبرى لسنغافورة فورمولا وانْ على تعطيل البنية الأساسية في المدينة.
في المدينة المؤنسنة التي استشرفها العلماء والمخططون، سوف نعيش في بنايات ذكية ونسوق سيارات ذكية. سيتم جمع البيانات كلما استعملنا وسيلة نقل عام، مثلما تفعل حاليا (بطاقة أويستر) في لندن. سيكون بوسع سياراتنا أن تخطر الورشة بعطل. بل إن مرسيدس بينز زودت بالفعل طرازات سياراتها لعام 2013 بنظام اتصال عن بُعد للتواصل على هذا النحو وهو يقوم بتحديث برمجياته في ثنايا الحركة. وفي أغلب المدن إشارات مرور مزودة بأجهزة استشعار تكشف الازدحام والتدفق المروري، وأغلب البنايات المكتبية الحديثة الآن بنايات ذكية يمكن أن تنظم درجة الحرارة والإضاءة الداخلية آليا. في الوقت نفسه قد تكون برمجيات التعرُّف على الوجوه غير موثوقة في الوقت الراهن لكنها قد تستعمل يوما في كل شيء من المعاملات المصرفية وحتى الأمن. وكل هذه الابتكارات تستغل الربط بين الشدة والاستدامة فتعيننا على تقليص استعمال الطاقة وتحسين الانتفاع بمواردنا وبناء منازل أفضل.
على النقيض من المدن المستقبلية القائمة بالفعل، يشعر بعض منظري المدن بالإثارة لإمكانية الشروع في بداية جديدة تماما.
برغم الإبهار، تعاني كثير من الابتكارات البراقة التي عرضنا لها هنا من مشكلة يطلق عليها الناقد السيبراني إيفجيني موروزوف مؤلف «وهم الشبكة» [The Net Delusion ] (2011) مصطلح «حلولية» عصر المعلومات [solutionism]، وهو نظرية نبوئية ترى أنه لو أتيح المجال للتكنولوجيا فإن بوسعها تقديم حلول لجميع مشاكلنا. ولكن الأمر ليس بهذه البساطة. فالمرونة في مواجهة الكوارث الطبيعية أكثر من محض طموح تقني: إنها طموح اجتماعي.
في قمم التغير المناخي الأخيرة بكيوتو وكوبنهاجن وريو تبيّن وجود تدنٍّ شديد في مستوى ثقة البلاد في بعضها بعضا في ما يتعلق بتقديم المعايير البيئية على الربح. وهو ما لعله يشير إلى المدن وليس البلاد -فالمدن هي بالفعل المواضع التي يمكن الظفر فيها بالمستقبل- ومن ثم فهي التي قد تكون محركات التغيير.
بوسع المدن أن تنظم نفسها، وفي ما بين بعضها بعضا. تأسست مجموعة مدن (سي 40) سنة 2005 لتوحيد المراكز العالمية الرائدة في مكافحة التغير المناخي -ونشرت حتى الآن أهدافها ومشاريعها لتقليل انبعاثات الكربون: حيث تسعى بوينس آيرس لتقليل انبعاثات الكربون بمقدار الثلث بحلول 2030، ومدريد بالمقدار نفسه بحلول 2050، بينما تأمل شيكاجو أن تقلل الانبعاثات بنسبة 80% بحلول 2050. وفضلا عن انبعاثات الكربون، تبرز (سي 40) ثمانية مجالات أساسية ضمن أولوياتها -هي البناء والطاقة والإضاءة والموانئ والموارد المتجددة والنقل والقمامة والمياه- ويدعو أعضاؤها إلى حلول راديكالية.
تنوعت الاستجابات حتى الآن. ففي الولايات المتحدة بدأت سان فرانسيسكو التخطيط لأضخم محطة طاقة شمسية مملوكة لمدينة في العالم. وفي النرويج طرحت أوسلو عشرة آلاف عمود إنارة ذكي توفر استهلاك الطاقة بنسبة 70% ووفرت 1440 طنا من ثاني أكسيد الكربون الناجم عن كل سنة تشغيل منذ 2004. وفي جنوب أفريقيا ركَّبت سلطات مدينة إمفوليني نظاما كفؤا للمياه في شتى أرجاء المدينة قلل الضغط داخل الشبكة وقلل بالتالي تكلفة التسريب. وهذا كله -على أقل تقدير- دليل أن حكومات المدن تعترف بالقضايا وتبحث عن حلول مثيرة للاهتمام، بغض النظر عن سياسة البلد الوطنية.