محمد الزبير.. «استعارة الصدق» في الصورة
لم نصف مصورا بأنّه مصلح أو شاعر، حتى لو كانت صوره تعكس القيم، الحيويّة السائدة في أيامه، المشاعر تجاه القضايا، الأمنيات والرغبة في التغيير. الصور الفوتوغرافية التي أنتجها، وتمّ وصفها -ربّما- بأنّها فنيّة، هي بشكل واضح، غير معلن «وثائقية». ومهما تمادت في حساسيتها، فهناك دليل على الموقف الثقافي فيها من ظاهرة أو أمر ما. كلّ فنّان يتعامل مع العقل. وفي التصوير يحضر الفيزياء أكثر.
نتوقف عند حسّ الندم والخسارة والتضاؤل لمشاهد الطبيعة في صور هذا الشخص، التي نقلتنا من الحزام الأخضر إلى حزام الصدأ، بينما يحاول هو صياغة طرق جديدة للتصوير الحديث، تدعمه رؤى حديثة لا تضع الانتصار الحديث كلّه للآلة، ولا ترغب في تطهير حديقة قديمة ما من آلة. طرق جديدة بعيدة عن نزعة تصوير التراث الشكلي، الذي يُعاد في كلّ مرّة بشكل احتفالي، ضحل، معززا بالصورة المكررة، المملة. هذا المصّور بالذات التفتَ إلى أن العالم الطبيعي ليس موجودا في عزلة جنة رائعة، أو بعيدًا عن الثقافة الإنسانية والتدخل البشري الجديد. هذا المصوّر قدمّ صوره بطريقة جعلتنا نهتمّ بها، وصار يمكن وصفه بالمصوّر الصادق، القاصد، خلافا للجدل حول كذب الصورة والمصوّر وقصديتهما غير المعلنة، وتعقد ما يحدث في المسافة بين عين المصوّر وعين الناظر في صوره. مصورون قلائل من هذا النوع تظنّ أنّهم قادرون على تحويل الصورة لحضور مادّي، له وزن وكثافة وكتلة، وتوسيع نطاق ما يجعل هذه الصورة مرئيةً للنّاس.
التقيت بمحمد الزبير أوّل مرّة في ديسمبر ٢٠٢٣ في بيت الزبير بمسقط القديمة. نظر إلى كاميرتي وابتسم، قال: لايكا؟! ولم يكن يسأل. سألته: وأنت ماذا تفعل؟ رفع هاتفه الجوّال، قال: أعتمد على هذا! تخفّفت من الكاميرا. قلت له: هيهات، لن يعطيك جودة صورك لجبال عُمان وتدرّج ألوانها بتدّرج طبقاتها في المسافات! فعل ذلك المصور عبدالله الخان عندما صار يصور بهاتفه أوّل مرّة، قال لي: لا أحتاج للكاميرا الآن! سافر مصر وعاد ينظر بأسف شديد في صوره المطبوعة، يهيمن اللون الأخضر عليها. قلت لمحمد الزبير: مثلك لا يتخلّى عن جودة كاميراته الكبيرة، ولا الثقة فيها، فقال: قلّل النّاس -في البداية- من جودة التصوير الرقمي قبالة التصوير الفيلمي، ثمّ أدركوا أهميته واعتمدوه، وهذا ما سيحدث مع الهاتف والكاميرا في يوم ما.. (يضحك). حكيت له أنّّي حضرت ندوة في معرض فوتوكينا في كولن بألمانيا جمعت مصورين شابين، ينتصران للتصوير الفيلمي، وأن الفنّ لا يكون خارجه، ومصورين متقدمين في العمر تركا التصوير الفيلمي نهائيا، وصارا رقميين! في الحالتين يشيدان بالكاميرا لا بالهاتف.
التقينا مرّة ثانية على طاولة مستديرة في حديقة بيته ليلا، جمعت معالي يحي الجابري، ومحمد الفرعي السكرتير التنفيذي لمؤسسة بيت الزبير، والأصدقاء: بشرى خلفان، ومنى حبراس، ومحمد الشحري والدكتور محمد الشحات، وصار الحديث عن كذب المصوّر، ثمّ استدركتُ «أقصد الصورة» وأنا أنظر إليه، لكنّه عالج الموقف بالضحك وتحدّث عن تجربته في الرقابة المجتمعيّة على الصورة والمصورين، وكيف كان يستقبل ذلك ويجعل الموقف في صالح الصورة. وكأنّ الحوار ضمن فعالية (أيام بيت الزبير للسرد، الرواية والسلطة) التي جئنا من أجلها، إلّا أن الرقابة في التصوير تختلف عنها في الكتابة، في اتساع مساحة المراقبين. فبينما تنحصر الثانية في مجتمع القرّاء والسلطة الرسميّة، تتّسع في الأولى لجميع القادرين على المشاهدة. الرقابة في التصوير سابقة على نيّة الشخص لشراء الكاميرا فضلا عن التفكير في التقاط الصور ونشرها، حيث وطأة تلك الرقابة، التي صارت مزيجاً بين النواهي الدينية والتقبّل الاجتماعي، ومعاداة الصورة. كتب ريجيس دبري في كتابه (حياة الصورة وموتها، ١٩٩٢): «كلّ الديانات التوحيديّة بطبيعتها معادية للصورة ومحاربة لها في بعض الأحيان. فهي فائض زينة وإيحائية في أحسن حالاتها وخارج الجوهري دائما»، فينتهي بنا الحال فيها أنّ البصري عنصر خطيئة.
أنظر إلى حالة المرأة مثلا في صور المصورين الخليجيين في الثلاثينيات حتى نهاية السبعينيات، -وهي الفترة التي انشغل الغرب فيها خصوصا أمريكا بهمّ الصورة وتنشيط الاقتصاد- أنظر إلى الزاوية التي فيها المرأة، الشكل الذي تبدو فيه، الحالة والتموضع، وأقول: ما ضرّ لو اقترب أكثر؟! لو مال من هذي الجهة؟! حكيت لهم عن معرض عبدالله الخان الذي نسقت له مع مؤسسة سلطان العويس في دبي عن الإمارات في أرشيف الخان، وكيف تمنيت لو أنّ الخان تحرّك في جهات مختلفة عند تصوير النساء في مجتمع صيادي السمك في الفجيرة بدلا من هذه الجهة الخجولة البعيدة عن وجوه النساء! لو.. لو... ليست قضية رغبة مصور في إطار ما، لكنّها حالة المؤَطّر، ولعلّ هذا ما يحدث عندما يكتب مصور عن مصوّر ويستعرض صوره التي مرّت عليها سنوات طويلة، مثل مغالبة للزمن وتمكين الأمنية!
سألت محمد الزبير عن ذلك، قال: «أصوّر بحرية تامّة إلا عندما تكون هناك امرأة في المشهد، تحضر الرقابة بقوّة، أتردد، أمتنع عن التصوير أو أمنح الكاميرا لامرأة معي، تلتقط الصورة بتوجيهاتي. وقد تكون المرأة في صوري - هي في الأساس- برفقتي؛ فأرتاح من تلك الرقابة» (يضحك). المصور عبدالله محمد الخان، روى لي مرارا: «رأيت نساءً في قرى البحرين يعملن في البحر، يخرجن بالسمك الوفير، لكنّي لم أقوَ مرّة على رفع كاميرتي! طالما تخيّلت أنّي سأكون ضحية تلك الصور». وعلى الرغم من انتشار التصوير اليوم وكثرة نشر الصور عبر مواقع التواصل وغيرها، إلّا أنّ الرقابة واضحة -خصوصا- في إخفاء الوجه، والعورة.
عُدنا للحديث عن كذب الصورة، لكن هذه المرّة عن عدد من المصورين الأجانب الذين زاروا المغرب العربي، مفتونين بالشرق المؤنث، أو منطلقين من أنثروبولوجيا استعماريّة، خدعوا نساء، صوروا أجسادهن شبه العارية، بحجة تصوير وشم صغير في الركبة أو حجج أخرى، أعدوا أماكن للتصوير ما يشبه الأستوديوهات، صوروهن، ثمّ نشروا صورهن على بطاقات بريدية على أنّها الحالة الحقيقيّة لنساء الشرق. كان الكذب في هذه الصور كثيرا.
ليلتها قال محمد الزبير، بعد أن تحدّث مطولا عن سيرته مع الوثائق العُمانية: «ليتنا سجّلنا هذا الحوار».
عدت من «أيام بيت الزبير للسرد» بحوارات كثيرة حول الكتابة والصورة، العلاقة الصعبة بينهما على حدّ تعبير رولان بارت وحركة السلطة الرسميّة والاجتماعية فيهما، وبكتابين فوتوغرافيين رائعين موقّعين، هديّة من محمد الزبير: «عمان بلادي الجميلة»، والثاني: (The Royal Opera House Muscat)، زادت عليهما أزهار أحمد كتابه (رحلة عمان المعماريّة). كان البصر فيها على الأمكنة في عمان كثيرا. ويبدو لي منها ومن كتبه الأخرى مثل كتاب (نزوى)، الذي وضع فيه الزبير سيرة المدينة والنّاس والمكان، وكتاب (Landscaped of Dhofar)، الذي اهتمّ بالمساحات الشاسعة الخضراء في ظفار ومدنها، مثل صلالة وطاقة مرباط ورخيوت وثمريت وضلكوت وسدح وغيرها، وكتاب (Window on Oman) وكتاب (أبواب ونوافذ عمان)، وكتاب (موسوعة جبال عمان)، الذي أشرف عليه بتكليف من السلطان قابوس - رحمة الله عليه، باعتبار جبال عمان كنوزا غير مكتشفة وأمكنة غير مستغلة سياحيا بقممها وسفوحها وكلّ الحياة فيها ومن حولها، يبدو لي أنّ محمد الزبير سخّر كاميراته للأمكنة في عُمان، يهتمّ بتاريخها البصريّ وبتحولاتها في النّاس، مثل كائن حيّ يمكن الإصغاء إليه وهو ينمو والتقاط صورة معه، يتجاوز بها معنى الانتفاع الذي أشار إليه إلى معنى الملاذ لفضاء طبيعي نظيف لم يمسه أحد. وبتعبير آنسل آدمز مصور الطبيعة المعروف «أشتاق إلى النظافة العالية للأماكن - فهي نظيفة جدا ونقية ولم يمسّها أحد». فـ(موسوعة جبال عمان) لم يكن كتابا تعليميا للتلاميذ، ولا للمهتمين تعريفها بها فقط، وليس حصرا لها، ثمّة أمر آخر تهتمّ به الصورة أكثر: يُظهر لنا عالما طبيعيا منظما بدقة شديدة ومُطهرا من العلل لدرجة أننا قد نشك في أنه تمّ تطهيره كونيا قبل ظهور المصور في مكان الحادث. بهذا الشكل يمكن مناقشة طريقة تصوير محمد الزبير للطبيعة وأماكنها أيضا، حتى لا نقف عند وصف الصور وكتابتها -ما يحدث كثيرا في تقديم كتب الصور العربية وعرضها- وهي التي لا تحتاج إلا للنظر إليها والإمساك بعلاماتها البصريّة، ومهمتها في هذا العالم. أن نهتم بصور محمد الزبير للأمكنة باعتبارها تعبيرا كاملا عما يشعر به تجاه ما يتمّ تصويره، فنتجاوز بذلك الحديث عن الصورة إلى الشخص الذي أنتجها، وعن شعوره، وكيف جعل من ذلك استعارة بصريّة حيّة للحريّة، للنظر غير المحصور، للتطلعات، ننظر من خلالها للمحتوى الطبيعي غير الوثائقي، يحرضنا على الفهم والاهتمام بشعور المصوّر، بتلك النزاهة المباشرة والصادقة للنقل بلا تأويلات زائدة نفسد بها المتعة. الذي سيحدث أولا سوف ننظر لكلّ ما حولنا من ضيق، ونحاول تجاوزه أو ربما الحديث عنه في أقلّ ردّة فعل. وهذا أثر رومانسيّ صغير للصورة في النفس.
صور محمد الزبير للطبيعة والأماكن في عمان تحظى بتقدير الذي ينظر إليها؛ لأنّها ربّما، غير معدّلة، لا إضافات فيها، وتحاول دائما أن تكون بدائل للأصل، ننظر إليها وإليه كلما شئنا أن نقدّر هذه النعمة.
السيرة البصريّة
لا توجد مادة أو كتاب يدوّن بوضوح سيرة محمد الزبير الذاتيّة البصريّة؛ لكن عند النظر في كتبه الفوتوغرافيّة التسعة سنجد تلك النزعة الواضحة جدا لدى الزبير نحو العمارة وشؤونها، حتى في تلك الكتب التي عنوانها العمارة. ابتداء من الصور الجوّية فيها، صور المشاهد الجميلة (Landscape)، المباني وتفاصيلها الحجريّة إلى الأبواب والنوافذ ونقوشها.
ثلاثة كتب كانت عناوينها مباشرة في هذا الشأن: (رحلة عمان المعمارية) وهو كتاب يمكن وصف العمل البحثي فيه بالصبور المتتبع، و(أبواب ونوافذ عمان) وأخيرا (دار الأوبرا السلطانية- مسقط)، وهو الذي اهتم فيه بصور أشهر العروض الفنيّة وعمارة الدار من الخارج والداخل.
يشير محمد الزبير لهذا الأمر «كان لأسرتنا، طوال تاريخها، بيوتها المصممة لها، معروفة جيدا لأهل الأحياء المدينة التي تقع فيها تلك البيوت، تستقطب زوارا من مناطق قريبة وبعيدة. وقد اقتفيت أنا أثر أبي وأجدادي في الاهتمام بالعمارة منذ وقت مبكر من العمر واستمر معي هذا الاهتمام، بل والشغف حتى اليوم، ثم انتقل مني إلى الجيلين التاليين». بنى والده الزبير بن علي بن جمعة بيتا على طريقته الخاصة في العام 1914 وعندما غادر لظفار مستشارا للسلطان تيمور بن فيصل (1886 - 1965) صمم له بيتا هناك وسكن فيه مع عائلته. ولما دمره الإعصار عاد وبنى (بيت الزبير) المشهور الآن في مسقط القديمة. صار والده هو المسؤول عن مباني القصر والحكومة في كل من ظفار ومسقط. فالسيرة البصرية المهتمّة بالعمارة لدى محمد الزبير تدعمها سيرة البناء والعمارة الممتدة من جدّه إليه ونقلها الزبير للجليين التاليين في العائلة. وليس أفضل من الصورة رديفة للعمارة في بيانها للمنجز الحضري الجديد، وفهم علاقتها بالبشر، ومستدع سريع لذكرياتها عندما يلوذ الشخص بها.
تصوير العمارة يعني تصوير أثر الإنسان في محاولاته للاعتناء بسكنه أو بتلك الأماكن التي يلوذ بها لغرض ما، وبالتالي فهذه الصور، تعني أنّ عملا كثيرا حدث هنا في العيون والزنود في يوم ما، وتعني ذلك الولع الفطريّ بالأصول، بالهوية البصريّة التي لا تحتاج لكلام كثير لتحديدها ونسبتها للبلاد والعباد. العمارة وصورها المجال الأقوى المرادف لحفظ النسب وتأكيد مسقط الرأس في شبه الجزيرة العربية. وأظنّ أن محمد الزبير وجد الطريقة التي يضاعف بها هذه العمارة ودلالاتها: الصورة الفوتوغرافية.
العمارة تعني الحدود، الحماية، مصدر القوة والإلهام، تخالطها العاطفة التي ترعى الذاكرة، وتستفز المصورين: لا تتأخروا في الحفاظ على كلّ ذلك. وهو استفزاز أخلاقي بالدرجة الأولى. خصوصا تلك العمارة التي لم تتغرّب وبقيت المحليّة فيها واسعة يمكن تمثل أسلوب حياة النّاس فيها والنظام الاجتماعي الذي يرعى هذه الحياة.
أظنّ أن محمد الزبير عمل بيده في البناء، مثل أبيه وجدّه، يفهم الحجم والوزن، ويعرف صوت مواد البناء، يقدّر حرارتها، وشكلها وملمسها. وهذا وحده له دور مهم في تعلمه مفاهيم الجمال الأساسية التي دعمت بشكل ما تصوير العمارة لديه ونبهته إلى كيفية ارتباط النّاس بأنفسهم، ببعضهم البعض، بالطبيعة، بهذه المواد، تماما مثل بناء صار مهندسا.
إذا كانت الحداثة في الغرب تقدمّ العمارة على أنّها الاختزالية «الأقل يعني الأكثر»، فإنّ العمارة في عُمان وفي الخليج تعني في الأساس الفطرة. المواد من البيئة نفسها، والبناء بما يشبه الجسد وحاجته في ظلّ المحيط والمناخ. كلّ شيء له وظيفة حتى الزخارف النباتية أو الحروفيّة. لذا؛ عندما نتناول العمارة كتابة، كلاما، رسما أو عيشا، نتحدث عن الإنسان أولا وعلاقته بتلك العمارة بعيدا عن التسلية وقريبا من قدرتها على ردفه بالطاقة، وقدرة حوش البيت أن يأخذ أهله إلى الله. ثمّ ننظر في الصورة ثانيا، بعيدا عن التأويل، بعيدا عن الكذب في الصورة أو في المصوّر، وقريبا جدا من تمجيد الشكل الفطريّ العميق، الذي يأخذ صفة التقديس أحيانا. هنا سوف نرى ذاتية المصور الخاصّة، التي لا يقوى على التصرّف في درجة ظهورها.
بورتريهات الزبير
المنشور منها في كتبه قليلة، إذا لم يفسح لها غير صفحات في نهاية الطبعة الرابعة من كتابه (عمان بلادي الجميلة) مقارنة بصور العمارة، وصور المشاهد الجميلة الواسعة، التي تنتصر دائما في كلّ كتبه، وتحظى بالمساحة الأكبر. كنت أتساءل كيف سيقدّم مصور شغوف بالعمارة صور الوجوه وعمارتها؟! ينظر إليها بالطريقة التي ينظر بها إلى العمارة؟! أعتمد في هذا التساؤل على عملي الطويل مع المصور عبدالله الخان الذي تخصص في تصوير المباني دراسة في كلية إيلنج بلندن، أكّد ذلك لقاءه التاريخي بالمعماري العراقي محمد مكيّة فترة عمل مكتبه في البحرين مع صديقه المعماري يوسف الصايغ، ونقده الهادئ جدا لطريقة الخان في تصوير المباني. أرشيف الخان الممتلئ بصور العمارة والمساحات المفتوحة ندرت فيه صور الوجوه.
سمّى الزبير ذلك الفصل (النّاس)، وجعله يحتفل «بالوجوه العمانية ذات التعابير العفوية والملامح البريئة والابتسامة العريضة المرتسمة على هذه الوجوه اللطيفة. ويمكن قراءة الكثير من التفاصيل الدقيقة حول مظاهر الحياة اليومية في الزمن الغابر من خلال صور هؤلاء الأفراد كبارا وصغارا، فهي مثل المرآة التي نعبر من خلالها إلى لحظة توقف عندها الزمن».
بورتريهات الزبير لم تلتقط في أستوديوهات تعزلها عن بيئتها، فهي ليست مصنوعة بهدف الاستخدام الخاص، الوظيفي، ولم يهيئ لها غير نيّة المصور الزبير نفسه. وجدتها تشبه إلى حدّ ما حضور الجسد في الثقافة العربية وطريقة تمثله بالأزياء والهيئة التي يبدو عليها الشخص. ولعلّ ما كتب في مطلع الفصل إشارة لذلك، فالوجوه «تظهر ملامح الأطفال والشباب وكبار السن الذين تزينوا بأجمل الملابس التقليدية والحلي العمانية، غنى التراث الثقافي لعُمان وعراقة العادات والتقاليد وجمال الاحتفالات والمناسبات الوطنية التي تبرز صدق المشاعر وبراءة الملامح وأصالة هذا الشعب الأبي. هذه الصور التي بين أيديكم تلخص الحكمة والعراقة والتاريخ والثقافة الشعب عُمان» يؤكد هذا المعنى. كما يؤكد على الغنى، الكثرة، والصدق فيها، ينقلها الزبير مثل نقل مرآة، بطبعها تقلب، لكنّها لا تفسد. تعكس فتضع الصورة في معناها اللغوي القديم في العربية (العكس)، وتضع رؤيتها متشبهة بالمجاز في العربية. بورتريهات الزبير إشارات جغرافية، وثقافيّة مستفيدة من العمّة والكمّة عند الرجل، وحضور الزيّ وهيئة النشاط عند المرأة. ورسالتها: لا تزيدوا على بساطتها الزائدة. الجميع سيرى ما هو حقيقي بصريّا، والذي سوف يفسر سيكون ضمن شروطه الموضوعية الخاصة، بلا موقف شخصيّ محتمل. فلا شيء- في عالم التصوير- أروح من صدق المصوّر، ولا أجمل من تعريف هنري تالبوت للصورة: معجبة بيد الطبيعة.