ما سر الحب الجارف لكالفينو خارج إيطاليا؟
ترجمة: أحمد شافعي -
الحديث عن شعبية إيتالو كالفينو خارج إيطاليا يعني الحديث عن كالفينو في الترجمة، في ضوء أنه قرأ وحظي بالحب في لغات أخرى وليس في الإيطالية. بالنسبة لكاتب يطفو «بعض الشيء في الهواء» -على حد قول كالفينو نفسه- فإن الترجمة قدره - كونها الفضاء المزدوج الوسيط.
لنبدأ بهويته الإيطالية (أو غير الإيطالية)، وهي إيطالية كانت دائمة الميل إلى الآخر. ثمة معلومات في سيرته (كان يحلو له التلاعب بها) منها مولده في كوبا، ونشأته في سان ريمو -وهي مدينة متطرفة الكوزموبوليتانية في ذلك الوقت- وزواجه بمترجمة أرجنتينية. كما أنه عاش سنين كثيرة في فرنسا وسافر في العالم. ولا عجب أن مدينة نيويورك، وهي المعبر الدائم للثقافات واللغات، كانت المكان الذي يعده «مكانه» أكثر مما سواه.
علينا أن ننتبه للشغف الذي كان يستشعره، منذ البداية، تجاه الكتَّاب غير الإيطاليين، منذ اكتشافه في شبابه لكيبلنج، وبحثه الذي كتبه عن كونراد في الثانوية، ويتصادف أيضا أن يكون كونراد كاتبا بلغة لم يولد فيها. ولتبقى في أذهاننا صداقته وتعاونه مع سيزر بافيس وإليو فيتوريني، والاثنان كاتبان ومترجمان زميلان، وكانا أيضا محررين. وما هذه إلا إشارات قليلة إلى تكوينه ككاتب قبل تحقيقه شهرته العالمية.
كان كالفينو، الدولي أكثر مما هو إيطالي، يتأرجح بين الأماكن واللغات واعيا تمام الوعي بما يمكن استخراجه من انفصال المرء عن أصوله. وتذكروا أنه كتب أكثر أعماله نضجا -وأحظاها بالحفاوة ومن ثم أكثرها ترجمة- في فرنسا وهو يمر عن قصد بحالة خصبة من النفي اللغوي.
لقد كان مترجم ريموند كينو، وهو كاتب فرنسي مشهور بنزواته اللغوية، وإن كنت أضيف هنا أن «لا فياب إيتاليان» [Le fiabe italiane] وهي الحكايات الشعبية الإيطالية التي جمعها وضبطها كانت أيضا لونا من الترجمة.
يقول وليم ويفر -مترجم كالفينو الأمريكي- في حوار مع مجلة باريس ريفيو إن كالفينو كان سهل الترجمة لأنه كان يكتب بلغة أدبية: بمعجم عالمي يبذل نفسه بصورة طبيعية للترجمة. غير أنه يضيف أنه واجه كذلك تحديا في تكرار إيقاع نثره المحسوب، وأنه كان يرفع صوته بقراءة مقاطع من «مدن لا مرئية» وهو يترجمها.
يفهم ويفر أيضا ولع كالفينو باللغة العلمية والمصطلحات التقنية، وهو ما يشكّل عقبة أخرى لأي مترجم، حيث يدخل على كتابته لغة أخرى، وهي لغة دقيقة التحديد. وهذا ما أريد أن أقوله: كالفينو، الكاتب الإيطالي الفريد، لم يكتب قط بالإيطالية الصرفة. بل إنه على العكس كانت له لغته الخاصة -ومملكته التعبيرية التي لا تخص أحدا سواه- شأن كل الكتاب المهمين والمثيرين للاهتمام.
في مقالته «الترجمة هي الطريقة الحقيقية لقراءة نص» يتناول كالفينو قضية التعددية من خلال الإشارة إلى «مستويات اللغة المختلفة». ويذهب إلى أن الترجمة «تستوجب لونا من الإعجاز»، مشيرا إلى «جوهرها السري» كما لو أنها خلاصة تستقطر باستعمال الأداة المناسبة. وإن وعيه هذا بقضايا الترجمة لا ينبع فقط من كونه مترجما/ كاتبا، بل من كونه رجل أدب وفي الوقت نفسه رجل علم، فهذا الازدواج الجوهري في طبيعته كامن في الطريقة التي يتأمل بها الطبيعة الإشكالية للترجمة. يكتب أن «الموضع الذي يعمل فيه الأدب العظيم هو الهوامش غير القابلة للترجمة في كل لغة».
لعل الملاحظة الأكثر إدهاشا في مقالته هي التالية: بسبب التفاوت بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة، «يعاني» الكتَّاب الإيطاليون «دائما من مشكلة مع لغتهم نفسها ويعيشون حالة عصاب لغوي». تأتي قدرة كالفينو على تحديد هذه المشكلة من نظرته إلى الإيطالية نظرة مزدوجة: من الداخل ومن الخارج، وكأنه ذو لسان أجنبي، أو من مسافة محسوبة مثل شخصيته «السيد بالومار» على أي حال. لقد كان كالفينو يقدِّر الترجمة لا لأنها تتيح له أن يكون مقروءا في أماكن أكثر وحسب، بل أيضا من أجل أن «أزداد فهما لما كتبته ولأسباب كتابتي له». كانت الترجمة بالنسبة له لونا من عملية كشف يرى بها ذاته ويعرفها من زاوية جديدة، من منظور أجنبي غريب.
يتواتر مصطلحا الاختراع والابتكار لدى النقاد غير الإيطاليين في ما يتعلق بكالفينو. ففي استعراض جوزيف مكلروي النقدي لـ«مدن لا مرئية» بنيويورك تايمز سنة 1974 يصف كالفينو بأنه «أكثر الحكَّائين أصالة في إيطاليا». وعند حديثه عن الرواية يلفت مكلروي النظر إلى الحوار بين الإمبراطور قبلاي خان والرحالة ماركو بولو. وترد على الذهن محاورات أفلاطون، ولا عجب، فالناقد يناقش قوالب نماذجية، وينتهي إلى قوله «لو أنها قوالب، فهي أيضا أشبه بإشارات توجز في ذاتها القوة التي تنتظر ترجمتها إلى قالب. وكتاب كالفينو ليس كأي كتاب أعرفه».
الأصالة مصطلح يشير حتما إلى الترجمة، مبرزا الدينامية الجارية بين «النص الأصلي» الأوليِّ والنص الجديد الذي يتشكل ثانويًّا. الأصالة تتعلق بالراديكالي، وعليه فإنها تتعلق بما هو ثوري. كالفينو نفسه اعتبر «مدن لا مرئية» أكثر كتبه جماهيرية في أمريكا. والمثير للفضول، بحسب الكاتب نفسه، أن هذا الكتاب كان الأبعد عن الأدب المعتاد بالنسبة للقراء الأمريكيين.
كان أناتول برويارد -في استعراضه النقدي لـ«ماركوفالدو» سنة 1983 في نيويورك تايمز أيضا- أقل حماسا من مكلروي ولو أنه أيضا يصف كالفينو بـ«الكاتب الإيطالي الذي يبدو أن يتسبب في أكبر الإثارة لدى القراء الأمريكيين». ويقارن كتابة كالفينو الفنتازية بالصور النادرة لدى شيريكو، وهو فنان آخر مختلط الأعراق يجمع بين أطياف مختلفة.
يشير كذلك إلى نقاد يصفون مشروع كالفينو بـ«التحرر» -وهو مصطلح مشحون في الوعي الجمعي الأمريكي. ويشير إلى مقارنات بين كالفينو وجابرييل جارثيا ماركيز وخورخي لويس بورخيس وكلاهما كاتب بالإسبانية ذو تأثير طاغ. ويخلص إلى أن «كالفينو يخترع، لكنه لا يثابر». وأحب كتب كالفينو وفقا لبرويارد هو «لو أن مسافرا في ليلة من شتاء». ولا أجد داعيا للاستفاضة في استعارة المترجم المسافر فقد ابتذلت برغم ملاءمتها.
لماذا كان كالفينو محبوبا كل هذا الحب خارج إيطاليا؟ لعلي أشير إلى لغته المبتكرة، والخيال الجامح كثير التنقل، واستعمال المفارقة أيضا. في استعراضه النقدي، يصر برويارد على أن ثمة مغالاة في تقدير استعمال كالفينو للمفارقة. ولا أوافقه في هذا. فلقد كان كالفينو بارعا في اللعب بالسجل اللغوي، والتنقل بين الرفيع والدنيء، والطريف والجاد، والفلسفة والفنتازيا، والانتقال من جنس أدبي إلى آخر. ونظرته الموضوعية-الذاتية استوعبت العالمي بجانب الكوني، واليومي بجانب الأبدي.
في إحدى ورشي الطلابية في جامعة برينستن، قمنا بترجمة قصته القصيرة «حوار مع سلحفاة»، وهو قسم مقتطع من روايته «بالومار». وهكذا يمكنني أن أؤكد مدى محبة كالفينو في أمريكا، حتى في أوساط القراء الشبان. لقد أحبَّ طلبتي التعامل مع نص رائع التحديات يحتوي فيضا من المصطلحات العلمية وروح الطرافة الطاغية.
في النهاية، قد تكون الطرافة هي أصعب ما يمكن ترجمته جيدا. تتقدم القصة بوضوح من خلال قالب المحاورة الأفلاطونية، أو ربما المحاورة الليوباردية [نسبة إلى جياكومو ليوباردو الفيلسوف الإيطالي]. وأعتقد أن كالفينو كان دائما في حوار مع نفسه، مع توأمه الخفي، عساه يرى نفسه حسبما قلت سابقا من منظور جديد. وهو في هذا المقام يجسد حساسية المترجم دائم اللعب مع نصين، وصوتين.
يتكلم كالفينو مباشرة عن الترجمة -المشروع المميز الذي ينفرد به البشر- في «حوار مع سلحفاة». يقول بالومار للسلحفاة: «لكن حتى في حال استطاعتنا أن نثبت أن الأفكار موجودة داخل رأسك القابل للانسحاب، فلا بد لي من التصرف في ترجمتها إلى كلمات لأتيح لها الوجود أيضا بالنسبة لآخرين، فضلا عنك. تماما كما أفعل في هذه اللحظة، إذ أعيرك لغة حتى يتسنى لك إنتاج أفكارك».
في الورشة، أدركت أن الرغبة في ترجمة كالفينو، وإحسان ترجمته، تنشأ من لغته الدقيقة، التي لا يعتريها الغموض أبدا، والتي تكون بمثابة مرسى صلب في تجربة الترجمة دائمة الغموض التي تبقى دائما، ومهما حسنت الظروف، مغامرة واستكشافا. وفيما كنا نعالج النص أنا وطلبتي، سألنا أنفسنا عما كان كالفينو ليفعله بترجمة جوجول والخوارزميات الأخرى التي تحول اللغات وتغيرها.
إن لغة كالفينو -شديدة التعقيد، راقية السخرية، دقيقة المرح- تجد لها صدى في أي لغة. فمن يقرأونها في الترجمة، يجدون روحا مبهجة، مستحيلة المحلية، قادرة دائما على الوصول، متقبلة للتأويل. ولقد كان مركز جاذبيته -مركز الجاذبية الطافي لرائد فضاء- هو الذي عبر به شتى أنواع الحدود وجعله شديد القابلية للترجمة. وثيمة الخفة التي بحثها بغاية الرهافة قرب نهاية حياته تشير -في المقام الأول- إلى جوهره هو نفسه، جوهره الأثيري، التعددي. وكل من يقرأ كالفينو في ترجمة يصادف روحا تميل بطبيعتها إلى الأراضي الأجنبية، أو بالأحرى يجد فيها بيئة لغوية سهلة الاختراق.
كالفينو محبوب خارج إيطاليا لأن اللغة التي اخترعها احتوت جميع المكونات اللازمة، احتوت ذلك «الجوهر السري» الذي يثمر -بنتائج استثنائية- معجزة الترجمة. وبسبب اهتمامه العميق بكتَّاب آخرين، وسخائه معهم بلا حدود، وخاصة من قرأهم عبر الترجمات، يبدو لي من الحق، بل من المقدَّر، أن يكون استقباله بالغ الحرارة والإثارة في لغات العالم الأخرى.
ترجم هذا المقال إلى الإنجليزية ألبرتو فورفولياس بوش بالتعاون مع الكاتبة والمقال مأخوذ من كتاب صادر في 2022 بعنوان «مترجمةً نفسي وغيري» [Translating Myself and Others ] عن مطبعة جامعة برينستن