ما بين بيكاسو ودوشامب.. هل خربت الحداثة الفنية وما بعدها الفن؟
حين توفي الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب عام 1968 قال بابلو بيكاسو «كان على خطأ». كانت تلك المقولة مناسبة للجمع بين الفنانين الأكثر شهرة في القرن العشرين في معرض مشترك أقيم في متحف الفن الحديث بستوكهولم عام 2017. فبالرغم من أنهما كانا مختلفين في سبل التفكير في الفن والرؤية والأساليب والمواد والتقنيات غير أن كل واحد منهما كما يُقال قبض على قرن من قرني الثور الهائج الذي هو الفن الحديث وسعى كل واحد منهما بطريقته الخاصة إلى ترويض ذلك الثور. ولكنهما بقدر ما أسعدا الكثيرين بفنهما الذي عبر عن رغبة إنسان القرن الذي احتضن حربين عالميتين في التمرد على الماضي والإفلات من مواعظه العقلانية وطريقته المترفة في النظر إلى الإنسان والعالم بقدر ما سببا اختلافا بين نقاد الفن الذين كانت أصوات بعضهم تعلو بين وقت وآخر وهي تتهمها بتخريب الفن، ممارسة ومفهوما وفتح الباب للفوضى التي سمحت للكثيرين من أصحاب المواهب التالفة والناقصة أن يصبحوا فنانين مشهورين ويتمتعوا بمكانة لا يستحقونها من خلال تخريب الذائقة الجمالية الذي بدا من وجهة نظر البعض عملا ممنهجا، تبنته المؤسسات الفنية والمتاحف بعد أن صارت في عهدة خبراء لا يجدون مصلحة لهم في الوقوف أمام التيار الدعائي العارم الذي يرفع من شأن الفنانين اللذين صنع الواحد منهما تاريخا للفن التشكيلي مجاورا للتاريخ الذي صنعه الآخر.
لقد عمل كل واحد منهما في منطقته، غير أنهما في حقيقة ما فعلاه احتلا بتأثيرهما الحيز الأكبر من تاريخ الفن في القرن العشرين. كان قرنهما بالرغم من ظهور فنانين كبار إلى جانبهما بدءا من هنري ماتيس وانتهاء بانسلم كيفر مرورا بكاندنسكي وموندريان وخوان ميرو وهنري مور وجياكومتي ومئات آخرين حول العالم.
بين التكعيبية وفن المفاهيم
من الصعب الحديث عن بيكاسو ودوشامب كما لو أنهما رفيقا مهنة واحدة. يوم قرر دوشامب ترك الرسم كان بيكاسو في طريقه إلى أن يترك الأسلوب التكعيبي. التكعيبية التي بدأت عم 1912 كانت استلهاما متقدما لنظريات بول سيزان الهندسية. مات سيزان عام 1906 بعد أن تأكد أن أعماله ستذهب إلى اللوفر وأن كل ما قاله عنه صديق طفولته الروائي أميل زولا كان خطأ. أنهى سيزان سلطة المنظور في الرسم وقرر أن المنظر الطبيعي إنما يتألف من تشكيلات هندسية وهو ما وهبه مكانة خارج المدرسة الانطباعية التي لم يتعامل رساموها مع فنه بشيء من التقدير. دوشامب وبيكاسو كانا شابين حررتهما الهبة السيزانية من الماضي وصارا يعملان، كل بطريقته على تمرير اختراعاتهما تحت عنوان القطيعة. عام 1907 رسم بيكاسو لوحته «نساء أفنيون» التي تأخر عرضها لسنوات وفي عام 1917 وقع دوشامب عمله «النافورة» الذي هو عبارة عن مبولة رجالية، قام بشرائها من مخزن لأدوات البناء. بدا دوشامب بـ«النافورة» مسيرة الفن المفاهيمي الذي سيتعرف عليه تاريخ الفن بشكل موسع في ستينيات القرن العشرين مع حركة «فلوكسس» الألمانية وبالأخص مع يوزيف بويز (1921ـ 1986) الذي أعاد صياغة نظريات دوشامب بطريقة ثورية. كان بيكاسو وهو يحطم الشكل البشري من خلال اللعب بالخطوط الخارجية يتوقع ألا تحظى لعبة رفيقه دوشامب بأي نوع من الاهتمام العالمي. غير أن توقعاته باءت بالفشل. ربما كان سعيد الحظ لأنه مات عام 1973. في ثمانينيات القرن العشرين بدا واضحا أن استعادة فن دوشامب صارت عنوانا لما سميت بـ«حركة الفنون المعاصرة» وهي حركة اجتاحت العالم بأسره، من الصين حتى الولايات المتحدة. لقد تبنى فكر ما بعد الحداثة الطريقة التي فكر فيها دوشامب في الفن، بل أنه اعتبر تلك الطريقة حلا لخروج الفن من مأزق جماليته التي باتت نوعا من الخديعة والزيف.
قوة الفكر في مواجهة قوة الجمال
كان بيكاسو وهو رسام أكاديمي خارق يعتبر نفسه وارثا لرسامين كبار مثل روفائيل وفيلاسكز وديلا كروا الذي أعاد رسم لوحته «نساء الجزائر» ثلاث مرات في محاولة منه لاكتشاف مواقع رؤية ليست موجودة في اللوحة الأصلية. أما دوشامب فقد كان أشبه بمَن يسخر ويضحك ويلعب. ولكنه لعب سيصنع تاريخا للشغب الذي لا يكف عن أن يحدث ضجيجا من حوله. ما صار يُسمى بـ«فكر ما بعد الحداثة» يدين بالشيء الكثير لما فعله دوشامب في مجال الفن. كل الفنون المعاصرة (الفن الجاهز وفن الحدث والفيديو آرت وفن التركيب والتجهيز والأداء الجسدي وفن المفاهيم) خرجت من عباءة دوشامب. كان دوشامب مثلما هو حال بيكاسو حين هدم الشكل البشري يتصرف بثقة كما لو أنه يرى اختراعاته وقد صارت نموذجا للفن بعد مائة سنة من وقوعها. لقد استفز الاثنان العين الخبيرة. فإذا كان بيكاسو قد راهن على الأبعاد غير المرئية من الجسد البشري فصارت رسومه هي النقيض تماما لما تتمكن من القبض عليه عدسة التصوير الفوتوغرافي فإن دوشامب استدعى قوة الفكر في مواجهة قوة الجمال. هدم بيكاسو قوانين الجمال التي كانت سائدة من أجل أن يخترع قوانين جديدة لجمال مختلف، أما دوشامب فإنه استبعد الجمال نهائيا وأخضع الفن للفكر.
المتاحف وقد دخلت إلى السباقربما كان القرن العشرون هو أسوأ عصور الفن في التاريخ. ذلك ما يقوله نقاد فن كثيرون. هناك مَن صمت خائفا من جبروت المال. فرسام مثل بيكاسو تُباع أعماله المتاحة في المزادات بمئات الملايين من الدولارات، أما دوشامب فإن مؤسسات فنية ومتاحف وجامعات قد تبنت نهجه في الفن وهناك مئات الكتب التي تحتوي على نظريات سعى واضعوها إلى وضع الفن في خدمة المتغيرات الاجتماعية والسياسية بما يلبي الحاجة الشعبية إلى ظهور فن يقع تحت السيطرة. ولست من المتحمسين لفكرة أن دوشامب كان يخطط للوصول إلى ذلك المأزق. في ظل ذلك الوضع صنعت المؤسسات الفنية نقادها الذين يروجون للفن الذي تبنته. وذلك ما يبدو جليا في نشاط مؤسسة «ساجي أند ساجي» بلندن التي صارت ومنذ بدء الألفية الثالثة تطلق فنانين لا يمتلكون الحدود الدنيا من الموهبة مثل تريسي أمين وداميان هيرست لتصنع منهم نجوما على مستوى ثقافي واجتماعي. والمشكلة تكمن في أن مؤسسات في عدد من الدول حديثة العلاقة بالفن صدقت تلك الأكاذيب وصارت تشتري أعمال أولئك الفنانين بملايين الدولارات كما حدث في قطر التي اشترت من داميان هيرست منحوتة لتضعها في بوابة مستشفى حمد ومن ثم اضطرت لإزالتها بعد أيام. وفي الجانب الأكثر خطورة تعزف جامعات فنية عالمية عن تدريس الحرفة الفنية وهي تضخ كل سنة أجيالا من الشباب يشكل الالتحاق بنجوم الفنون المعاصرة همها الأساس بعد أن غادرت المنطقة التي تؤهلها لإنتاج أعمال فنية ذات سمات جمالية واضحة. لقد رُبيت هذه الأجيال على فكرة عدم الاكتراث بالجمال الذي لم يعد هدفا.
الفن في سياق الهدم
كما لو أن الخطأ الذي أشار إليه بيكاسو قد التهم الجزء الأكبر من المشهد الفني العالمي صار علينا أن نبحث عن الفن الحقيقي بصعوبة وسط ركام من الأشياء التي لا قيمة لها والتي تحظى باهتمام الصحافة ومقتني الأعمال الفنية ومروجي الشائعات. في الوقت الذي انسحبت فيه الأعمال الفنية الجميلة المكرسة تاريخيا إلى صالات المزادات لتنضم إلى العاديات أو «الانتيك». خلال العشرين سنة الماضية تدهورت أحوال الفن التشكيلي وتراجع أمام تقدم الفنون البصرية، لكن ذلك لم يكن سوى نتيجة لما جرى في القرن العشرين. فإذا كان بيكاسو قد اعتبر دوشامب مخربا وهداما فإن هناك مَن يساوي بين الاثنين في الهدم والتخريب وإشاعة الفوضى وهناك مَن يعتقد أن بيكاسو الذي اعتبر مخترعا لأساليب جديدة في الرسم قد ألهم الكثير من الرسامين الجرأة على العبث بقوانين الحرفة وصولا إلى انقطاع الصلة بها. وهنا تبرز أسماء لفنانين نالوا شهرة استثنائية في القرن العشرين مثل الأمريكي جاكسون بولوك والفرنسي ايف كلاين والإيطاليين بيير ما نزوني ولوسيو فونتانا.
عدوى انتشرت مثل لوثة
بالرغم من أن الفنانين الأربعة دخلوا إلى تاريخ الفن في القرن العشرين من أوسع أبوابه غير أن اللافت أن الأعمال الفنية التي نفذوها قبل أن ينالوا الشهرة كانت ضعيفة على مستوى الحرفة وما كانوا من خلالها قادرين على أن يتبوأوا المكانة التي حصلوا عليها. كان بولوك (1912 ــ 1956) يقلد بيكاسو قبل أن يخترع أسلوبه في الرسم الحركي وهو الأسلوب الذي أصابت عدواه مئات الرسامين حول العالم مثل لوثة. أما كلاين (1928 ــ 1962) فقد اشتهر بأزرقه الحبري الذي كان يغطي به سطوح لوحاته إضافة إلى حفلاته التي كان يغطي فيها نساءه العاريات بذلك اللون، ومن ثم يقوم بسحلهن على قماشة اللوحة وسط أجواء موسيقية. تأثر مانزوني (1933 ــ 1963) بـ«كلاين» واشتهر بلوحاته البيضاء التي كرس من خلالها السطح باعتباره بديلا للمناظر المستعارة من الطبيعة إضافة إلى أنه عبأ فضلاته في علب صغيرة اعتبرت تمهيدا لفن المفاهيم. وأخيرا فإن شهرة لوسيو فونتانا (1899 ــ 1968) تعود إلى قيامه بإحداث شقوق على سطح لوحة، لا شيء فيها. كانت تلك الشقوق بمثابة التوقيع الذي جعل من فونتانا رساما مشهورا. يمكنني أن أضيف إلى تلك السلسلة العشرات من الفنانين الذين اكتسبوا شهرة لا لشيء إلا لأنهم كسروا القواعد الفنية واخترعوا طرقا جديدة في الرسم. ربما يجب ذكر الشاعر البجيكي الفرنسي هنري ميشو (1889 ــ 1984) الذي دخل تاريخ الفن باعتباره رائد الأسلوب التبقيعي في الفن. لم يكن ميشو رساما قبل أن تخطر له فكرة إلقاء الحبر الصيني على الورق وانتظار ما تسفر عنه تلك العملية من بقع وخطوط.
اللعب في منظوره السياسي والاجتماعييوما ما سيُقال إن الحداثة وما بعدها قد عبثتا بالفن ومهدتا لظهور أجيال فنية لا تعبأ بتاريخه. لقد امتزج الفن باللعب منذ أن ظهرت المدرسة الدادائية (1912) التي دعت إلى إحراق المتاحف والانتهاء من مسألة الجمال. وإذا كانت تلك المدرسة قد انتهت سريعا بظهور السريالية التي كان سلفادور دالي (1904 ــ 1989) الذي حافظ على المهارات الأكاديمية أهم رموزها في الرسم فإن المبادئ الدادائية لم تفقد حيويتها في ظل التنافس المحموم بين بيكاسو ودوشامب على قيادة الفن في القرن العشرين. من وجهة نظري لم يكن هناك فنان ينافسهما في ذلك السباق بالرغم من أنهما أحيطا بالكبار. كان تأثيرهما هو الأكبر دائما. المتأثرون ببيكاسو لم يكن يجرؤون على تقليده، ذلك لأن تقليده هو بمثابة فضيحة لا يمكن إخفاؤها. ما تعلموه منه كان هو الأسوأ. تعلموا الجرأة من غير أن يدركوا أن بيكاسو كان طفلا عبقريا. أما على الجانب الآخر فقد كان المتأثرون بفن دوشامب يظهرون ويختفون عبر سني القرن العشرين وكان أبرزهم الألماني يوزيف بويز (1921 ــ 1986) وهو الوارث الحقيقي الذي عرف كيف يطور محاولات دوشامب ليصل بها إلى مستوى اللعب الذي صار فنا سياسيا واجتماعيا.