لمقهى.. ودوره في التحولات الثقافية بمدينة صلالة
تكتسب مدينة صلالة حاضرة محافظة ظفار أهميتها من منطقة البليد الأثرية التاريخية، التي ما زالت أطلالها شاهدة على عمقها التاريخي، وعلى مكانتها الاقتصادية والتجارية المزدهرة.
وذلك بسبب إنتاج وتجارة اللبان الظفاري «لبان الدخنة». وعليه أقيمت علاقات اقتصادية وسياسية وتجارية مع الحضارات القديمة؛ كالأشورية والمصرية والرومانية والفارسية وغيرها. كان لها طريق تجاري مع بلاد الصين، حيث أطلق المؤرخون عليه « طريق البخور» على غرار «طريق الحرير». كما كان للميناء موسم يصدر فيه الخيول العربية الظفارية الأصيلة إلى بلاد الهند والسند، في موسم كان يعرف بموسم «الخيل».
لقد عاش الناس في تلك الفترة حياة ترف ورفاهية ورخاء؛ بسبب ارتفاع سعر اللبان الذي كان يوازي الذهب والبترول في يومنا الحالي.
لكن لا شيء يبقي على حاله! لقد هوت بها سلسلة طويلة من الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والكوارث الطبيعية القاسية. ولم تستطع صلالة الصمود، فنهش في جنباتها المثلث الخطير: المرض والفقر والجهل لفترة طويلة، ظلت تنتظر بكل صبر وأمل من ينتشلها من حالة البؤس والشقاء، ويعيد لها مكانتها، ويقفز بها قفزة جبارة إلى مصاف الدول المتطورة والمتقدمة مثلما كانت عليه منذ عهود سابقة.
انبلج فجر النهضة المباركة بقيادة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- باني نهضة عُمان الحديثة، بنظرته الثاقبة وحكمته الصائبة، فجعل من سلطنة عُمان دولة عصرية بكل مقاييس التقدم والازدهار، واحتلت عُمان بفضل جلالته مكانة مرموقة في العالم، تحققت على أراضيها جميعا -ومنها ظفار/ صلالة- إنجازات عمرانية وحضارية ضخمة، وشيدت صروح العلم والمعرفة والثقافة، وانطلقت عجلة التنمية والتطور العظيم التي تستهدف رخاء ورفاهية ونماء واستقرار الوطن والمواطن العُماني.
توسعت حدود مدينة صلالة الصغيرة الضيقة، صارت مدينة حديثة مترامية الأطراف، تضم أحياء وضواحي جديدة تمتد من عدونب غربًا، إلى الدهاريز ونواحيها شرقًا. وأضحت مدينة صلالة قطعة من الجنة رابضة على ساحل بحر العرب، تحيط بها أشجار النارجيل من كل مكان.
ازدهرت فيها الحركة الاقتصادية والتجارية والسياحية ازدهارًا كبيرًا، وترتبط بدول العالم من خلال ميناء صلالة، ومطارها الدولي. وانتشرت في أرجائها المجمعات التجارية الحديثة المختلفة، والمطاعم الفاخرة، وأصبحت العاصمة الثانية التجارية والسياحية للسلطنة عمان. قبل 1970 لم يكن يوجد في ظفار مقهى واحد، أمّا الآن فأصبحت المقاهي الراقية في كل مكان، لا يكاد يخلو منها شارع رئيسي.
لقد كان احتساء القهوة السمراء يقتصر على كبار السن، وكانت عنوان الجود والكرم في مجالس الرجال الاجتماعية، والدينية، والأدبية، المتمثلة حينئذ في إلقاء الشعر، والمسامرة، والسير، والحكايات التاريخية، والحكايات العجائبية وغيرها. وكان للقهوة مذاق وطعم واحد لا يتغير، إلا بإضافة الهيل أو الزنجبيل إليها. وكانت بعض النساء الكبيرات في السن يتناولن القهوة في أوقات الضحى، أو بعد الغداء في فناجين البورسلين البيضاء الصغيرة. وكانت القهوة شبه محرمة على الفتاة؛ وذلك لاعتقادات اجتماعية وصحية.
عندما فتحت أوائل المقاهي في المدينة، كانت بسيطة فارغة لا إقبال عليها، كانت تشتغل في أوقات معينة. واليوم تفتح أبواب بعضها لمدة 24 ساعة، وتوشك كراسيها أن تكون «fully booked»، يرتادها الناس بمختلف مآربهم ومشاربهم: منهم السيّاح، والباحثون عن عمل، ورجال الأعمال، والنساء، ومراجعة الدروس، والراغبون في تبديد سلاسل الوحدة والإرهاق، بالإضافة إلى الإعلامين، والفنانين، ومناقشة، حل الخلافات.. إلخ، ولكل من مرتاديها غرض وهدف من وجوده في المقهى.
منذ زمن طويل شرعت المقاهي فتح أبوابها، وكانت ملاذًا آمنًا للكتّاب والأدباء والمثقفين في كثير من المدن العربية والعالمية، حيث يفترش هؤلاء المبدعون أوراقهم وأقلامهم على طاولاتها، ويستنشقون عبير القهوة، ويحلقون معها في سماء من الإبداع والفن والذوق.
تحولت بعض المقاهي إلى أيقونات ثقافية وأدبية مشهورة؛ بسبب الشخصيات الثقافية المبدعة التي تركن إلى أركان المقهى بالأوراق والأقلام كتلك التي اشتهرت بمصر: مقهى «الفيشاوي» و«الحرافيش» و«ريش»، وكان من كبار روادها الفائز بجائزة نوبل الكاتب نجيب محفوظ، والفنان عبدالحليم حافظ، والشاعر كامل الشناوي وغيرهم من أساطين الفكر والأدب والثقافة. لقد خطت أقلامهم، وتفجرت قريحتهم بأجمل الأعمال الثقافية والأدبية والفنية في هذه المقاهي. وكان هكذا الحال في المقاهي الثقافية التي ظهرت في بقية المدن العربية.
وأخذت فكرة المقاهي الثقافية في التطور شيئًا فشيئًا، فعلى الجانب النسائي مثلًا، وبعد أن كانت تقام فعالياتهن الثقافية على استحياء؛ مخافة نقد المجتمع السلبي لها، وعدم القدرة على مواكبة المتطلبات الثقافية، ولكن لما لمس الناس أثرها، وبانت أهميتها، تخطت النساء قيود الخوف والقلق، فنوقشت الكتب، وأقيمت الورشات والفعاليات التدريبية والفنية إلخ. وكانت الثمرة أن عرف الكثير من الكتاب والمثقفين بهذه اللقاءات فانضموا لها وشجعوها، وأثروا في تعميق نقاشها، وروجوا لها.
مع بداية تكوين ورشة القصة القصيرة في صلالة عام 2016م النافذة الأكبر في تعليم القصة القصيرة بالمحافظة، والمقامة بإشراف المديرية العامة للثقافة والرياضة والشباب، لم يكن لها في بداية الأمر مكانًا خاصًا مستقلًا، باتت حاجتهم لبيئة خصبة صالحة لاحتضان مواهبهم وإبداعهم أمرًا ملحًا. كان الحل أن يختاروا مقهى مناسبًا، ووقع الاختيار على مقهى «كوستا» ذي الواجهة الحمراء الدافئة والإيجابية في المجمع التجاري «الجاردنز»، وكان بالنسبة لأعضاء الورشة مقهى يضئ صباحاتهم الوردية، ومساءتهم العنبرية، يزيدهم إبداعًا وتألقًا، حيث تأخذهم روائح القهوة الساحرة إلى عوالم يختلط فيها الواقع بالخيال، وتنسج مخيلاتهم أحبال من الأفكار القافزة والمبتكرة في إنتاجهم الأدبي والثقافي. حرك هذا المقهى بضجيج زبائنه، وبخار القهوة ونكهاتها المتطايرة، وأضوائه الخافتة الحالمة، مكامن الإبداع، والخيال، والإحساس، والجمال في المتدربين على كتابة القصة القصيرة.
مع تنامى وتزايد أنشطة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء فرع ظفار، والمجالس الثقافية، كمجلس إشراقات ثقافية، وغيرها من المهتمين بالشأن الثقافي. باتت الحاجة للمقاهي الثقافية كمحضن مريح واضحة، لتوسيع دائرة اللقاءات، حيث يستمتع الناس بفنجان من القهوة يعيد الحيوية والنشاط بطعمه المُر الذي يحلى الأوقات، ويداعب خلايا الإبداع والإحساس.
وتوسيع دائرة الفعاليات الثقافية في بيئة أكثر حرية وأريحية، وتعميق أثرها، وتكثيف برامجها، واحتضان الأقلام الشابة، وتوجيهها التوجيه الصحيح، ومساعدتها وتمكينها من كتابة الجنس الأدبي المناسب.
استقطاب الشباب إلى المقاهي الثقافية، وإبعادهم عن الملل، والروتين غير المفيد، وخلق برامج وفقرات ثقافية ترفيهية مفيدة، وإشراك المجتمع المدني في الفعاليات والأنشطة الثقافية.
فَلَحت الجهود، في جعل بعض المقاهي أكثر جذبا وإقبالا عليها من قبل الكتاب والمؤلفين من الرجال والنساء، ليس لأنها تقدم المشروبات الحارة والباردة، ولا لأن لمشروباتها أسماء رائعة اسبريسو، لاتيه، موكا، كابتشينو..الخ. كان الجذب في المناخ الهادئ الذي توفره المقاهي للضيوف، وكذلك في اللوحات الفنية والتشكيلية الرائعة، وتفاصيل الديكورات الجميلة، والموسيقى الهامسة، ووجود رفقاء الكتاب والقهوة، الذين يبدون كنسائم البحر، وعبق الدخون، يتسرب الوقت معهم، كما تتسرب الحروف إلى فنجان القهوة، وتنتج أراء وأفكار مبدعة.
حاليا، وإن كانت تقام الفعاليات والأنشطة الثقافية في مقاهٍ ثقافية، عددها أقل من عدد أصابع الكف الواحد، إلا أنها تعد واحة ثقافية يلتقي المبدعون فيها بكل يسر وأريحية. تضم رفوفا لإصدارات وكتب وروايات الأدباء والمؤلفين في المحافظة. صارت هذه المقاهي منصات ثقافية هامة، لتوقيع الكتب والإصدارات الجديدة، والاحتفاء بأصحابها وبإنجازاتهم الأدبية والثقافية.
ولا شك أن المقاهي الثقافية في مدينة صلالة ستكون مصدر للإلهام، والإبداع، والتميز وستكون حاضنة جيدة للثقافة بشتى أنواعها. إذا هيئت تهيئة مناسبة؛ لتقدم فيها عروض حية من الفن العماني (الظفاري) والرقصات الشعبية المحلية، والفنون التراثية، وعروض الأزياء التقليدية، والأمسيات الشعرية، بالإضافة إلى الحفلات الغنائية والموسيقية الساهرة، والعروض المسرحية.
ثمنة الجندل كاتبة عمانية