لم تكن لديّ أي نوايا لأصير كاتبة.. بشرى خلفان: اللحظة التي سأقع فيها في فخ الرضا.. سأنتهي
تشكّل فضولها الأولي تجاه الكتابة منذ تعرفها على حروف الأبجدية، ونما برفقة المكتبات القليلة التي دأبت على زيارتها في مسقط، دون أن تتملكها نوايا أكيدة حول رغبتها في أن تصير «كاتبة». في البدايات كانت تذهب للكتابة بشكلٍ غير مُفكر فيه، ولكنها الآن وبوعي تام تؤجل العالم الحقيقي لتواجه عوالمها المتخيلة داخل النص. فالكتابة في أحد أشكالها تُمثلُ حالة لجوء لمكانٍ آمن، وترى أنّ الكتابة عملية مستمرة لا ترتهن بالجلوس إلى مكتب الكتابة الفعلي، لأنّها تعتمل في الرأس وتشغل الذهن لوقت ليس بالقصير.. هكذا تعيد القاصّة والروائية العُمانية بشرى خلفان تأمل عالمها الكتابي منذ الدهشة الأولى وحتى وصولها مؤخرا لقائمة البوكر العربية القصيرة.
صدر لها العديد من الأعمال، في القصّة القصيرة «رفرفة»، و«غبار»، و«حبيب رمان»، و«صائد الفراشات الحزين»، وصدرت لها في الرواية: « الباغ»، و«دلشاد». وفي الشعر: «مظلة الحب والضحك» و«ما الذي ينقصنا لنصبح بيتا».
•لنتحدث عن التشكل الأولي لعلاقتك بالقراءة والكتابة ومحرضاتهما؟
انتميتُ لأسرة تشجع على القراءة، فكنا نذهب نهاية كل أسبوع لزيارة مكتبة العائلة في فرعها بروي، ومنها نقتني القصص ومجلات الأطفال المصورة، ولأني كنتُ الخامسة بين أخوتي من حيث ترتيب الولادة، فقد تعلم أخوتي القراءة قبلي وبذلك كانوا يطلعون ويعرفون أكثر مني، لذا كنت أريد أن أكبر بسرعة وأتعلم أكثر لأقرأ ما يقرأون وأعرف ما يعرفون.
وكان لقرب بيتنا من المكتبة الإسلامية في روي مزية، فكنت أقضي الإجازة الصيفية أقرأ فيها، ثم كبرنا أنا وأخوتي فاختلفت اهتماماتنا وتنوعت قراءتنا، وبدأت أبحث عن المختلف في مكتبة أبي التي كنت أتسلل إليها وأقضي فيها أوقاتا طويلة.
ما زالت أغلفة سلسلة الخنفساء المرقطة والسلسلة الخضراء حاضرة في ذهني، كذلك مغامرات الشياطين الثلاثة عشر والمغامرون الخمسة، ونسخ الناشئة من روايات ديفيد كوبرفيلد وأوليفر توست وذو القناع الحديدي والفرسان الثلاثة وغيرها.
هكذا تأسست القراءة في طفولتي وهكذا غرس حب القراءة فيّ، وأظن أن هكذا أيضا كونت نظرتي الحالمة عن الحياة.
أمّا الكتابة فأنا لا أستطيع أن أحدد كيف بدأت علاقتي المبكرة بها، نعم كنت متفوقة في حصة التعبير، وأفوز بجوائز صغيرة في مسابقات المدرسة، وكنت غالبا في جماعة الصحافة أو الإذاعة المدرسية، وكنت أكتب خواطري ومذكراتي في مرحلة المراهقة، لكن كان هذا كل شيء.
لكني ورثتُ الحكايات عن جدتي «عزة بنت سعود الهاشلية»، الحكّاءة العظيمة. كنتُ في طفولتي أجمع الفتيات لأعيد حكي حكاياتها عليهن، ولكن عندما كبرت وقرأت أكثر، لم تعد حكايات جدتي كافية، فبدأتُ أضيف عليها، وربما هذا أول ما مهد فكرة تحولي لكاتبة.
•هل كانت هنالك نوايا داخلية ومبكرة لأن تصبحي كاتبة؟
لم تكن لديّ أي نوايا لأصير كاتبة، لم أفكر في ذلك مطلقا، وأظن أنّ الشك رافقني بشأن ذلك حتى بعد نشر مجموعتي الأولى «رفرفة». كنتُ آنذاك لا أفهم معنى «مشروع كتابة». أكتب فقط لأن هناك ضجيجا عاليا في داخلي، ولأنّي مُولعة بالأفكار والصور التي تتلاحق في ذهني ولا أجد سبيلا للتعبير عنها إلا بالكتابة، أكتب خيالاتي الشخصية وأبتدع طرقا جديدة للتعبير عنها، بعيدا عن التخطيط لما هو أبعد، بل كان لدي وأنا طفلة تصور طريف بعض الشيء حول أنّ جميع الكُتاب هم موتى بالضرورة، أو أنّهم على أفضل تقدير يأتون من مكان بعيد جدا أو من زمن آخر ينتمي للأبيض والأسود فقط، ذلك أني بعد مرحلة التأسيس في الطفولة، ابتدأت بقراءة المنفلوطي، والمازني، وطه حسين، وتشارلز ديكنز، وفيكتور هوجو وغيرهم، أو ربما كنت أستمتع بالحكايات والروايات وأغرق فيها فلم ألتفت يوما للكاتب، ويخيل لي بأني في مرحلة ما وأنا طفلة كونت تصورا سحريا بأن الكتب تكتب نفسها.
هذا التصور رسخ، حتى أني عندما زار نزار قباني عُمان وأقيمت له أمسية في النادي الثقافي، لم أذهب كما ذهبت الصديقات لحضور أمسيته، ورغم أني في تلك المرحلة كنت من قراء شعره ومن المعجبين به. كنت أخاف ذلك الحضور الحقيقي والمادي للكاتب، والآن أنظر في الأمر وأستنتج أني كنت أخاف من تلاشي السحر، ولأن الكتابة والكتب شيء يشبه السحر لم يكن مقبولا عندي أن أحوله لـ«مشروع»، كنت أرى في الكلمة أبعادا مادية لا تتناسب والمادة الحلمية التي تغذيت عليها.
•في ظل أنكِ لم تكوني تصنفين نفسكِ ككاتبة، ما الذي جعل أول مشاريعكِ الكتابية تخرج للنور في العام 2004؟
من ١٩٩٥ حتى ٢٠٠٤ كنت أعتبر نفسي هاوية للكتابة، حتى عندما بدأت بكتابة ونشر القصص في الصحف عام ١٩٩٦، ولكني كنتُ أتهيب من فكرة نشرها في كتاب، فذلك يعني اعتراف بأني أصبحت كاتبة، حتى لو كان هذا الاعتراف بيني وبين نفسي، كنت أخشى تحمل تلك المسؤولية، ولذا احتجتُ ثماني سنوات حتى قررتُ نشر مجموعتي القصصية الأولى «رفرفة»، ولأني كنت أرى أنّ الأدب يستحق أفضل من هذا الذي كنت أكتبه، كنت مترددة وخائفة، لكن في النهاية أفلح الأصدقاء في إقناعي بجودة نصوصي، وبأنه علي استجماع شجاعتي ووضع تجربتي تحت اختبار التلقي والنقد.
•بعد كل الحفاوة التي تلقى بها المتلقي روايتيكِ «الباغ» و«دلشاد»، وبعد وصولكِ إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية.. هل تقلصت هذه الأحاسيس.. أعني نفي صفة «الكاتبة» عنكِ؟
ربما كان لعلاقتي المبكرة بالأدب دور في تهيبي لإطلاق صفة الكاتبة على شخصي، كنت أجدها مسؤولية عظيمة، أن نسهم في خلق كل تلك اللذة التي لا توصف، كل تلك العوالم الموازية، العوالم التي استمتعنا بها وكانت لنا نحن كقراء ملجأ ومغامرة وكشفا.
لكني صرت كاتبة صاحبة مشروع منذ مجموعتي «حبيب رمان»، في تلك المرحلة وبعد ثلاث مجموعات قصصية وكتاب شعري، اتخذت قرارا واعيا بذلك وبدأتُ في العمل عليه.
•كيف تعاملتِ مع فكرة الترشح للبوكر، ثم وصولك للقائمة القصيرة؟
بغض النظر عن الجوائز وقيمتها المادية والمعنوية، والنجاح واتساع رقعة القراء، فإن الخوف الوحيد الذي كان يساورني دائما هو الوقوع في فخ الرضا الداخلي، لأني أعرف أن اللحظة التي سأشعر فيها بالرضا، سأكون انتهيت ككاتبة، لا يوجد فخ مثل الرضا وانعدام الشك، وعلينا دائما أن نكون منتبهين وأن نحمي ذاتنا الكاتبة من هذا الفخ، وهذا ما أحاوله، ولا علاقة لذلك بالخوف من الضوء أو الشهرة، بل بالقناعة الشخصية وتصورنا للأدب والأهم وجود الموهبة من عدمها، وهذا ما لا يستطيع أي ضوء أو شهرة أو مال أن يسلبه منك، أو كما قال أورهان باموق: «لا الضوء ولا المال ولا الشهرة يمكن أن يفسدوا موهبة حقيقية».
كل هذه الأفكار وما شابهها كانت تمنعني من التقدم للجوائز، لكن ربما أسهم العمر والتجربة في إنضاج فكرة القدرة على حماية الذات الكاتبة، فقدمت «دلشاد» للبوكر. مع ذلك، وفي ليلة البوكر تلك، وقبل النوم رددت هذا الرجاء طويلا: «رب لا تفتني وقدر لي الخير ورضني به» والخير عندي في الفوز وفي عدمه في آن واحد، نعم، كنت أخاف الفوز وعدمه بنفس الدرجة وقد استجاب لي الله، وقدر لي الخير ورضاني به فله الحمد، لكن هذا الرضا، وبطبيعة الحال، أخذ بعض الوقت ليتكون.
أفكر أحيانا أن ربما كانت الجوائز وغيرها هي طريقة من طرق الله لمنح كل واحد منا ما يسد به ثغرة في نفسه، ثغرة نحن بحاجة ماسة لسدها، فالذي يحتاج الضوء سيُعطى الضوء، ومن يحتاج الاعتراف سيمنح الاعتراف، والذي يحتاج الشهرة سيُعطى الشهرة، والجوائز أيضا وبقيمتها المادية تسد ثغرة مادية في كثير من الأحيان، أما من كان مثلي، الذي لم يطمئن بعد لكتابته أو للحياة، فإن الله يأخذه وعلى مهل إلى المرحلة التي يطمئن فيها أكثر، وربما لن أصل هناك أبدا، لكن الله دائما يمنحني القدرة على التجاوز وإعادة النظر والتركيز على العمل ومحاولة تجويد ما أكتبه.
•لماذا تكتب بشرى خلفان؟
هذا السؤال يحتمل إجابات متعددة ومختلفة في كل مرحلة من مراحل حياتي، لذا لا أجد الآن إجابة محددة، لكن ما أنا على يقين منه هو أني لن أستطيع العيش أو النجاة في هذه الدنيا دون كتابة، رغم أني قد أبقى لعدّة شهور دون كتابة فعلية، ولكن الكتابة تعتمل هنا وهنا، (أشارت إلى رأسها وقلبها) طوال الوقت، وأنا أقرأ وأنا أقود سيارتي، وأنا أطبخ أو أدير بيتي وشؤون عائلتي الصغيرة، تكون الكتابة حاضرة، فهي حياة تعاش لا لحظة ترتهن بالجلوس إلى طاولة الكتابة وشاشة الحاسوب.
أفكر أحيانا بأننا ربما كنا مجموعة من الذوات المتجاورة، هذه الذوات الضاجة والمرتبكة والعدمية والمترددة والمذعورة من هذا العالم تلجأ للذات الكاتبة لتطمئن، لذا فالكتابة في أحد أشكالها حالة لجوء لمكانٍ موازِ. هروب من ضجيج الحياة إلى سكون الكتابة، ليس لأن المحمول الأدبي بلا شكوك أو أسئلة أو جراح أو ضجيج داخلي، لا، بل لأن لحظة الكتابة هي لحظة يتكثف فيها الكون فيدخل في حالته الحلمية الساحرة التي تسرقك من نفسك، وتنتشلك من عالم المحسوس إلى عالم الأفكار والتخييل والرؤى، ذلك إن الكاتب لا يُعيد إنشاء العالم، بل ويُعيد إنشاء ذاته من خلال عملية الكتابة.
في السابق كنتُ أقوم بالكتابة بشكل غير مفكر فيه، هي لحظة حادة ومكثفة من الأفكار تتحول إلى أخيلة وكلمات فأجدني أجلس للكتابة، كنت أكتب القصص كما يكتب الشعر، دفقة واحدة، ثم أشتغل على تشذيبها. أما الآن فأنا ألتزم أمام نفسي بالكتابة، بالمشروع الذي أعمل عليه، فأؤجل العالم الذي أعيش فيه، وأنشغل بالعالم الذي أقوم بإنشائه، مشهدا تلو المشهد، بتدافع الأفكار وتنوع الأصوات، وهذا يمنحني الحياة المتجددة، والسكون الذي تنشده روحي الضاجة.
•هل الكاتب مُتغير، وقناعاته متغيرة؟
بالتأكيد، وهذا ينطبق على الكاتب وغيره، فأنا مؤمنة أننا خلقنا لنتعلم، والتغير نتاج المعرفة، وحتى على مستوى الكتابة، هناك متغير في طريقة رؤيتنا للأدب وللكتابة، قناعتنا متغيرة، فعلى سبيل المثال رواية «دلشاد» جعلتني أعيد النظر، في فكرة الحبكة وسلطة الشخصيات، في البدايات كنت مؤمنة بالنص القائم على الحبكة. وظننتُ بوجوب السيطرة على الشخصيات، وكنتُ لأسخر نوعا ما من ما يقال حول أنّ الشخصية تتدخل في الأحداث وتغير مصائرها، لكن هذا ما حدث فعلا في «دلشاد»، فوجدتني أخضع لها، وتركت لها حرية تشكيل الأحداث بشكل كبير.
من جهة أخرى أظن أنّنا ننظر أيضا لعملية الكتابة بشكل رومانسي.. «نُرمنس» الكتابة إن صح القول. أظن بأنّ النظرة الرومانسية للكتابة هي السبب الرئيسي في عدم واقعيتي في تعاملي مع الحياة -رغم أني عملية جدا- وتصوراتي المبكرة عن الكتابة. لقد أخذ مني الموضوع قرابة خمسة وعشرين عاما، لأتمكن من مراجعة تلك النظرة. الرومانسية، وربما عندما خفتت قليلا صرتُ أنظر بتصالح أكبر للحياة والكتابة على حد سواء.
•نريد أن نعرف، عندما تغيرت نظرتكِ من الرومانسية إلى الواقعية، كيف تأثرت الكتابة لديكِ؟
قلت لك أن النظرة الرومانسية للكتابة استمرت طويلا، ثم عندما بدأت بقراءة تجارب الكتاب الآخرين، عن حيواتهم وكيف يُديرون كتاباتهم وأوقاتهم، صرت أفهم كيف أن الكتابة عملية طويلة ومعقدة وأنها بحاجة إلى التزام واعٍ. وصرت لا أعتمد على مزاج الكتابة، بل أعمل على خلق هذا المزاج، فالرواية إنشاء كامل ينبغي أن يُسخر الكاتب جل تفكيره وطاقته لأجله، فعندما أبدأ في كتابة رواية مثلا، أبتعد عن مواقع التواصل الاجتماعي وأخفف من ارتباطاتي الاجتماعية، أنعزل نوعا ما، وألتزم بعدد من ساعات الكتابة وأيضا بعدد كلمات أحاول الوصول إليها يوميا، طبعا هذا العدد من الكلمات يتم مراجعته وتشذيبه بشكل دائم ومستمر، فالغرض ليس الكم، ولكن هذه المُحددات تخلق التزام أراه ضروريا بالنسبة لي للمضي في مشروع طويل.
نعم الأمور تغيرت، فمع العمر والتجربة، تختلف الأشياء، رؤيتنا للحياة، أولوياتنا، قدراتنا وحتى وضعنا الصحي كما في حالتي، وكما تعرفين فإن على الكاتب أيضا أن يتعامل مع أمور أخرى طوال الوقت، المصاريف والفواتير وإدارة البيت والوقت والطاقة والالتزامات الاجتماعية، وهذا يحتاج لواقعية للتعامل مع الحياة، فمثلا ولأني مصابة بالديسك، ينبغي أن أدير آلامي أيضا، فتقصر مدد جلوسي على المكتب، أضع منبهًا يذكرني بوجوب الحركة، ولا أقرأ إلا بمساعدة حامل للكتب، هذا كله يجعلني أتعامل مع الكتابة ومع نفسي بشكل واقعي وبعيدا عن تلك النظرة المفرطة الرومانسية التي كنت أرى بها عالم الكتابة والعالم الذي أعيش فيه.
•لنتحدث عن بعض طقوس الكتابة وأسرارها؟
ذكرت الطقوس أعلاه، ولكن أظن أنه من الطرائف أني عندما أبدأ مشروع كتابة طويل، يجاوره دائما مشروع موازٍ لا علاقة له بما بين يدي، فعلى سبيل المثال، عندما كنت أكتب «الباغ» اهتممت بالتصوير، واقتنيت كاميرا احترافية وصرتُ أذهبُ إلى مزارع الباطنة وبحرها لالتقاط الحركة والتفاصيل الصغيرة، وأيضا ترجمتُ بشكل مواز أجزاء من عدّة أعمال عن اللغة الإنجليزية، ترجمتُ بشغف كبير ثمّ تخليتُ عن الأمر.
وفي أثناء كتابتي لروايتي «دلشاد» اتجهتُ إلى الذات الأم المانحة للغذاء بداخلي، كنت أتعلم إعداد طبق جديد كل يوم، أحببتُ موضوع الخبز كثيرا وصنعتُ أشكالا عديدة من المخبوزات والحلويات، لا تنسي تأثير عزلة كورونا هنا، الآن وأنا أفكر فيها تبدو لي هذه الممارسات الجانبية كشكل من أشكال التنفيس عن ضغط الكتابة الروائية المتطلبة.
•يستشعر المراقب لأعمال بشرى خلفان حالة من الحذر والتأني، المغامرة المحسوبة؟
أظن أن تقديري العالي للأدب، ورؤيتي المؤسسة والرومانسية له، يجعلاني في حذر دائم، نعم أنا حذرة جدا في الكتابة رغم أني لست بالضرورة كذلك في الحياة، ونعم كنت حتى سنوات قريبة أخاف الفشل في الكتابة، وأظن أن لتربيتي الصارمة دورًا في هذا، حتى تعلمت التصالح معه، أعني الفشل، والقبول به بل وحتى التبرك به، إن جاز القول.
وفعلا أنا بطيئة في الكتابة وكنت كذلك في النشر، إذ تشغلني الفكرة ويستمر تخميرها طويلا، يمتد لسنوات أحيانا، كي أستطيع أن أفحصها جيدا ولأكتبها بشكل جيد، وهذا عامل شخصي لا يقاس عليه، فالكتاب يختلفون في ذلك، هناك من لديه القدرة على تقديم عمل كل عام أو نحو ذلك وهناك من لا يستطيع، في النهاية هي قدرات وقناعات، ومع الزمن والتجربة استنتجت أنه لا يوجد صح أو خطأ في هذه المسألة. الكثرة قد تنتج أعمالا ليست على القدر نفسه من الجودة، ويحدث ذلك حتى مع البطء والتأني، وغالبا وفي كلتا الحالتين، سيكون هناك عمل جيد وعمل متواضع وعمل متفوق، ولكن الميزة في استمرارية الإنتاج تكمن في تراكم الخبرة، وهذا الأمر يعود للتصالح مع فكرة الفشل مجددا، ومزية البطء هو إعطاء الزمن المساحة الكافية كي يعمل أدواته فينا، وليكسبنا المعرفة والخبرة والنضج وبعضا من الحكمة.
قيل لي ذات مرة: «أنتِ الوحيدة بيننا التي لم تندم على مجموعتها القصصية الأولى»، وأنا لا أعرف صدقا إن كنت الوحيدة فعلا أو إن كنت ندمت أم لا، ولا أعرف إن كان هذا عيبًا أو مزية، ولكن الآن صرتُ أفكر بطريقة مختلفة، ففي تلك السنوات الثماني، كان يمكن أن أنشر أكثر، حتى ولو فشلت مجموعتي الأولى كان يمكن أن أتعلم أكثر وأسرع.
ظلت الكتابة في عُمان ردحا من الزمن فيما يخص التاريخ، إمّا مباشرة وتقريرية وإما مواربة، وقلّما وجد القارئ العام نفسه فيما يُكتب! فمن أين جاء كل هذا القبول والرواج الفارق لروايتيكِ «الباغ» و«دلشاد» من وجهة نظرك؟ وهل كنتِ تتوقعين كل هذا الاحتفاء غير المعتاد للرواية العُمانية من قبل القارئ العام خصوصا قبل القارئ النخبوي؟ هل ثمّة مغازلة ما للصوت الرسمي عبر «الباغ» تحديدا؟
أظن أن «الباغ» وجدت القبول لأنها نجت إلى حد كبير مما ذكرتيه، من المباشرة والتقريرية والمواربة والأهم الاصطفاف.
لم أتوقع النجاح الذي حظيت به «الباغ» حقا، من يستطيع أن يدعي أنه يعرف؟ فلسنا نحن من نضع محددات النجاح، وإنّما الآخر، القارئ هو الحكم والفيصل، لكني أظن أني اجتهدت وأخلصت قدر استطاعتي وإمكانياتي، كونها روايتي الأولى، أخلصت للأدب والفكرة.
ولعل الناس وجدوا حكايتهم في «الباغ». فكل ما يعرفوه عن تاريخ عُمان هو حكايات تواردت على الألسن، أو من المدونات الرسمية.
بالنسبة للجزء الثاني من السؤال، فلا أظن أني بحاجة لمغازلة أحد، لا الصوت الرسمي ولا غيره، فطوال عمري حاولت أن أحافظ على استقلاليتي الفكرية، وهذا كان دافعي في الكتابة في الأصل، أن أقول ما أريد أن أقوله، بصوتي الخاص. ما جاء في «الباغ» كان قناعتي الشخصية، وأنا مسؤولة عنها، أصبت فيها أو أخطأت، لكن هذه القناعة لم تتشكل وفق الهوى ولم تملَ عليّ، بل تشكلت بعد بحث ميداني ومكتبي مستفيض، رجعت فيه إلى مصادر متعددة وجلست إلى أناس كانوا مصطفين في معسكرات مختلفة ومتضادة، حتى كونت رأيي الخاص، وبطبيعة الحال وافقت البعض ولم توافق آخرين، وربما صادفت «الباغ» لحظة تاريخية مناسبة، سمحت بهذا القدر من المكاشفة، فالبعض، وأنا منهم، كان يعتقد أن الرواية ستصادر لأنها تطرقت إلى قضايا ومشاهد لم تطرق من قبل ومن بينها تفاصيل ما حدث يوم 23 يوليو 1970 داخل القصر، وعندما لم تصادر الرواية صار القول بأنها «الرواية وأنا» قد غازلت الخطاب الرسمي، لا أخفيك كان هذا مؤلما في البداية، أما الآن فما عدت أكترث حقا. شخصيا كل ما أستطيع قوله هو أني حرصت على تعلم فن الرواية، والابتعاد قدر الإمكان عن الخطابية العالية، ونبرة الكتابة المستفزة لأنها لا تناسبني، ولأني لا أرى أن هكذا يكتب الأدب، ثم علينا أن ننتبه أن القارئ اليوم قارئ ذكي جدا وعنده خبرة تراكمية، فإما أن تحترمه أو أنه لن ينتبه لا لك ولا لكتابتك.
في النهاية لاقت «الباغ» نجاحا لافتا من قبل القراء، قراء من شرائح مختلفة ومن أعمار مختلفة ومن مرجعيات مختلفة، بل ومن معسكرات سياسية مختلفة، في عُمان وخارجها. وقد ذهلتُ شخصيا عندما اقتبس الناس بعضًا من مقاطع الرواية أثناء إعصار شاهين، فقد صدرت الرواية عام 2016، وفي عام 2021 حضرت بشدة في وعي الناس، لدرجة أنّ بعض مقاطعها قدمت كدليل على الوحدة الوطنية. من قبيل: «يا نخوض رباعة يا يشلنا الوادي رباعة» و«يوم تكون من عمان تكون من كل عمان»، أن يبقى العمل حاضرا كل هذه السنوات في أذهان الناس، يعني بالنسبة لي أنه لامسهم وعلّم فيهم، ذاك كان جهدي في «الباغ» كرواية أولى بكل عثراتها وحسبي أني حاولت.
•هل كان ثمّة عبء في الخروج من عباءة « الباغ» ونجاحها لتجربة «دلشاد»؟
دخلت عالم الرواية الثانية بحذر شديد، كنتُ أمام معضلة اسمها نجاح «الباغ»، الذي جعلني أكثر حذرا، وأنا المتشككة بطبيعتي. فكرة «دلشاد» كانت موجودة قبل «الباغ»، بل وكتبتها كواحدة من محاولاتي التجريبية المبكرة، مع ذلك أوقفتها كمشروع روائي واحتفظت بها في الأرشيف، كفكرة أقصد، لأني وقتها لم أستطع القبض على جوهر الفكرة بإحكام، بعد الباغ صار الموضوع أكثر تعقيدا، فأنا أريد أن أقدم رواية أكون قد طورت فيها من أدوات الكتابة وجودت فيها على المستوى الفني.
وفوق شكوكي «الدائمة» حول قدرتي على كتابة شيء جيد، وعندما عقدت أمري وبدأت بالاشتغال على الأبحاث وتوقيع الأماكن ميدانيا، عرفتُ بمرضي وكنتُ لشهور عدة في صراع مع مرض السرطان ونفقه المظلم والانسحابات المرتبطة بتناول الأدوية وتأثيرها على مراكز اللغة والذاكرة، وحالة الضباب الدماغي التي كنت أعاني منها بسبب الكيماوي.
لكن بعد أن عدتُ من رحلة العلاج، وكنت بدأت فعلا في الدخول إلى حالة من الاكتئاب، بسبب عجزي عن الكتابة، أقام الأصدقاء والزملاء الأعزاء أمسية في «الهوم لاند كافيه» أو مقهى الوطن، بعنوان: «وردة على ضفة الوادي»، حظيتُ خلالها بكمية هائلة من المحبة ومن التقدير، ذلك التقدير لشخصي ولكتابتي كان غامرا، ككاتبة وإنسان في آن، أعاد لي ثقتي في كتابتي، وكان أيضا حافزا للعودة للكتابة، وفعلا بدأت في كتابة «دلشاد» في اليوم التالي.
أكيد كنتُ خائفة أن تقع «دلشاد» في مقارنة مع «الباغ». ولكن ما أن صدرت الرواية، وتلقيت بتلك الحفاوة العظيمة، حتى شعرت بأني شفيت تماما، وأجمل ما في الأمر أن الكثير من القراء صاروا يتحدثون عن «دلشاد» و«مريم» وشخصيات أخرى بوصفهم أشخاصًا حقيقيين لا شخصيات روائية، وكان لكل قارئ شخصيته المفضلة، فهنالك من أحبّ «دلشاد» أو «ماه مويزي» أو «فردوس» أو «سنجور جمعة» أو «مريم» أو تعلق بـ«عبداللطيف» وآلمه موته.
«الباغ» و«دلشاد» لامستا أماكن غائرة في نفس وذاكرة القارئ العُماني وامتدت كذلك إلى القارئ العربي، وهذا يجعل المسؤولية أكبر والحمل أثقل، فعندما، على سبيل المثال، يفاجئك شخص خارج من الضباب في أعالي جبال ظفار، ويلتقيك صدفة فيتعرف عليك ويشكرك على كتابتك التي ألهمته وأمتعته والأهم لامسته، تبقى في حالة ذهول قد تمتد لأشهر مستشعرا ثقل المسؤولية المضاعفة تجاه ما تكتب، شكلا ومعنى، وهذا بقدر ما هو مفرح إلا أنه يحزنني أحيانا.
•المتلقي أحبّ بشرى خلفان في هذه المنطقة.. منطقة التاريخ وكشف حياة العُمانيين، أوجاعهم وخذلانهم وجوعهم المنسي، هل معنى ذلك أن تحبس بشرى نفسها في هذه المنطقة التي لا نختلف على ثرائها؟ أم يمكن أن تغامري نحو كتابة تلمس حياة اليوم؟
الكتابة مغامرة، وأنا لا أعرف كيف سيتلقاني القارئ في أي كتابة قادمة، سواء كانت في هذه المنطقة التي اعتاد فيها عليّ أو غيرها. عليّ أن أكتب وأقيس التلقي في أوانها. بالطبع أنا أريد أن أصقل أدواتي، أن ألعب في منطقة مختلفة، وأن أجرب كتابة جديدة لأختبر نفسي قبل أي شيء آخر. لكن هل الاقتراب من اللحظة الراهنة وتناول المواضيع الدارجة سيحقق ذات النجاح الذي حقّقه الاقتراب من التاريخ؟ وربما لم تكن القضية أبدا في منطقة الكتابة أو موضوعها بقدر أن الأمر يتعلق بجودة ما يكتب، أسلوبا وتمكنا، هل توجد مسلمات في هذا الأمر؟ هذه أسئلتي أنا لنفسي، فما معنى الكتابة الجديدة التي ننشدها؟
ومع احترامي الكبير للقارئ وما يغمرني به من محبة، إلا أني لا أصمم كتابتي لإرضاء قارئ معين، لأن القراء بكل بساطة متعددون، وبتعددهم يتعدد التلقي، فإذا أصابني الحظ لأن شريحة واسعة من القراء أعجبها هذا اللون، فليس معنى ذلك أن أتوقف هنا وألا أحاول أن أكتب في مساحة أخرى، وهنا علينا أن نسأل أنفسنا، هل سعي الكاتب هو الوصول لشريحة كبيرة من القراء، أم للكتابة الجيدة في حد ذاتها والإضافة إلى الأدب؟ وطبعا نحن لا نملك تعريفا نهائيا وحاسما للكتابة الجيدة، ولذا أفضل الإخلاص لنفسي ولكتابتي، وتعميق نظرتي للحياة والوجود والعالم.
•ما هو الهدف الرئيس للأدب برأيك؟ وما أهمية الحكاية داخل النص الروائي بالنسبة لك؟ وما هو طموحك في كتابتك القادمة؟
ربما كان الإمتاع هدفا أساسيا للآداب والفنون، لكن الإمتاع ليس كل شيء، هناك أيضا المعرفة المنقولة، المعرفة الإنسانية خصوصا، وقد نتفق أيضا على أنّ القارئ غالبا يريد الحكاية، فقد بدأت حياة الإنسان بالحكايات، منذ الإنسان الأول العائد من الصيد والمتحلق وجماعته حول النار ليحكي لهم ما صادفه وما حدث له في رحلته، حتى العائد من وظيفته وزحام الطريق اليوم، كل لديه حكاية يحكيها، وكل يستشعر قيمة هذه الحكاية سواء كانت خاصة أو عامة، ودائما ستجدين شخصا يسألك أن تكتبي حكايته لأنه لا يمتلك الأدوات اللازمة.
وهي مهمة جدا، فلا أظن بوجود رواية خلت من الحكاية، وإن اختلفت أساليب الطرح والتقنيات الفنية المستخدمة. فمثلا ديستويفسكى كان لديه حكاية دون إهمال لتقديم الجانب المعرفي وتحديدا سبر الغور النفسي لشخصياته في الأخوة كرمازوف مثلا، التي أسست عليها نظريات في علم النفس لاحقا. لا يوجد عمل روائي يشتغل دون حكاية حتى «كونديرا» المُنظر العظيم، لا تخلو رواياته من الحكاية، وإن اشتغل على التنظير الفلسفي من خلالها، حتى بدت أجزاء منها كمقالات طويلة.
لكن كما تعرفين هناك فرق كبير بين الحكاية والرواية، ففي الرواية امتداد في استخدام الذاكرة مثلا، هناك أدوات وطبقات متعددة من القول والمعنى، هناك لعبة الضوء والظلال، هناك المنطوق وهناك مساحات الصمت، هناك أساليب وتقنيات، وهناك تلك الرؤية العميقة للحياة، التي تجعل للحكاية حمولتها المعرفية الخلاقة، ومتعة الرواية لا تأتي من الحكاية فقط، بل من أسلوبها ومخاتلتها واشتغالها على البنى السردية واللعب بالزمن وتشظي الأمكنة، والرواية حاوية كما يقال لكل الفنون الأخرى، لذا فمن الممتع أن نتعامل مع الرواية كساحة تجريب هائلة ليس في الشكل فقط بل وفي اقتراح الأفكار، وهذا ما أطمح إليه، أن أتمكن من اللعب بكل هذه الأدوات.
•لنتحدث الآن عن المرض، كيف غيّر علاقتك مع الكتابة، عندما يمرض الإنسان فهو إمّا أن يختار أن ينأى بنفسه عن كل شيء، وهناك من يريد أن يتشبث بالحياة والأمل والكتابة أيضا؟
منحت في تلك الشهور الفرصة لإعادة النظر في نفسي وفي العالم وفي كتابتي، وتغيرت قناعاتي حول الكثير من المفاهيم والأوهام المتشبث بها، ربما زادت صعوبة الكتابة ولكن في الوقت نفسه زادت متعتها، فصرتُ أشعر بأني بحاجة لأن أعيش عوالم كثيرة ومتعددة، للتعويض عن عوالم لم أعشها بعد، وصرت أكثر حرصا على المغامرة أثناء ذلك، وبشكل ما جعلني المرض أكثر واقعية.
المرض أيضا يضعك في اختبار أمام شجاعتك الداخلية، ربما لأنك تصل فيها لمرحلة تقول فيها «أنا العائد من الموت ليس لديّ ما أخسره الآن»، هي شجاعة متوهمة ربما، لكنها تساعد في اتخاذ القرارات، وبالتخلي عن طرق تفكير وخيارات سابقة.
ومن الناحية العملية فقد أثر موضوع المرض على مسائل من قبيل إعطاء الوقت قيمته، فكما تعرفين عندما نكون صغارا وأصحاء نظن أن هناك الكثير من الوقت، لكن عندما نواجه بلحظات مفصلية في حياتنا نبدأ في إعطائه قيمته الحقيقية، ونلجأ إلى تنظيمه بشكل أفضل، بالإضافة إلى اكتساب عادات جديدة ترفع من سقف الإنتاجية والتخلي عن بعض العادات والممارسات غير الضرورية التي تؤدي لهدر الطاقة والوقت، بما فيها النظرة غير الواقعية للناس والعلاقات.
أعترف بأن فكرة الزمن صارت تحاصرني، والمرض جعلني أفكر في العلامة التي أريد أن أتركها ورائي، بشكل إنساني وبشكل إبداعي.
•لنذهب إلى ما كتبتهِ وقت المرض، وإن كنتِ تفكرين بنشره؟
هذا أمر لم أتخذ فيه قرارا بعد، ولا أعرف الشكل الذي سأعتمده في حال أني قررت نشره، لا أعرف إن كانت ستخرج على شكل سيرة أو رواية أو مذكرات أو ربما خليط من كل هذا، لكني أطمح في قول شيء ما عن تجربتي على المستوى الروحي والنفسي، عن التحولات العميقة، عن اليأس والحزن والفرح والحب والخذلان، عن المسافات الشاسعة التي قطعتها، عن تعدد العلاجات ومستوياتها، عن الأدوية والمرض والأطباء، عن أمّي التي رافقتني روحها وأحاطت بي، عن حب العائلة الشافي، عن أمومتي وأولادي، عني أنا، لكني لم أجد الصوت بعد، ولا أرغب في أي حال من الأحوال أن أقول شيئا لا يمت بصلة لتجربتي أو رؤيتي، ولا يضيف لتجربتي الكتابية.
•هل لديكِ خشية أن يكون كتاب سيرة؟
ليس لديّ خشية من ذلك، ولكني لم أستقر على شكل الكتابة رغم أنه بحوزتي مذكرات كثيرة عن أيام المرض. لكن السؤال: هل أريد أن أنشرها كما هي؟ وهل ستشكل أي إضافة لمشروعي؟ أو للأدب بشكل عام؟
•ربما لأنّكِ تخشين من نبرة التعاطف؟
التعاطف شعور جميل، لكننا خلطنا بينه وبين استجداء الشفقة، التعاطف أمر نبيل، الأدب يقوم بذلك، الأدب يجعلنا أشخاصا أكثر تعاطفا لأننا نكون أكثر فهما للمشترك الإنساني الذي يجمعنا، تجربتنا الإنسانية والوجودية العميقة، أنا لا أخشى التعاطف، بل أخشى ألا أضيف شيئا جديدا للأدب، لذا عليّ أن أحدد بدقة ما الذي أريده من هذه الكتابة، هل التوعية بالمرض هو ما أحاوله من خلال هذه الكتابة، أم أن الهدف هو البحث في الغور الإنساني وإيقاظ كل تلك الأسئلة الوجودية التي لازمتني طوال رحلة المرض والعلاج، هل أريد كتابة منشور توعوي أو كراس مرجعي في كيفية التعامل مع الكيماوي، أم أريد أن أنقل تجربتي الشخصية ببعدها الآخر، بعدها الروحاني والوجداني؟ وأظن عندما سأصل إلى إجابات واضحة سأكتب.
•كانت الحكايات تتوالد في «دلشاد»، هل عدم قدرتك على إيجاد نهاية لهذه الرواية، هو الذي دفعكِ لجعل القارئ يترقب الجزء الثاني؟
أحب هذه الآراء والتخمينات، تبهجني، أحب أن يذهب البعض للظن بأني فقدت القدرة على الإمساك بخيط السرد، أو أن الشخصيات استفدت حكاياتها، أو كما ذهب أحد النقاد إن ذلك السطر في نهاية الجزء الأول من الرواية كان جزءا من الإيهام المتعمد، أو أني من فرط توليد الحكايات عجزت عن إنهائها. أحب هذه التخمينات وتسعدني لأنها تشي باللهفة وعمق التفاعل مع الرواية وشخصياتها، لكني لن أقول إلا انتظروا الجزء الثاني، فهناك ما زال الكثير ليقال عن «دلشاد» وبناته وأحزانهم وضحكاتهم العالية.