كتابات من تحت القصف.. النار بين الأصابع
***
هي المعركة السرمديّة بين أنبياء الأرض ومصّاصي الدماء، وبين الزيتون والنار، بين ثقافة الكرامة والأنفة والحياة والخلاص والحلم والانتفاضات العبقرية، القائمة على ثقافة «اقرأ» السماوية، وبين ثقافة الاحتلال المتمثلة بالهدم والحرق والقتل والتخريب والجهل والضيق والموت والحصار والخرافات الدمويّة والاستلاب والشطب والإلغاء، وتطوير كل أشكال القمع عبر التاريخ، وإعادة إنتاجها بساديّة، على كلّ ما هو فلسطيني!
***
يحمل الشهيد فسيلة خضراء لها صورة السكين، فيواجهه القتلة بالرصاص والهراوات والفزع والفسفور، والتّعدي المنفلت المسعور، على الشيوخ والنساء والصغار والبيوت، وبالرصاص المجنون والغاز المسيل للعار؟ ثم بالقصف السافر الممتد الذي لا ينتهي.. لكن لسان حاله يقول: يكفي أن أزقة البلاد تغتسل بدمي! أنا الهنديّ الأحمر، راكب الريح، وصديق الشجر، أنا شقيق الموج وأقواس قزح. قطوفُ البراري أنا، ومعلّقة الإيقاع وغفوة النار، وعصا الخرافة وغزال التعويذة وجموح القطيع الطائر. أنا الرامي جدائله بعد سلخ فروة رأسه، والطاعن في السهوب حين رمَتْه السهامُ المسمومة. موتي ذريعة المحتل الأخلاقية المفضوحة، ومرافعته المُخزية، وحضارته الزائفة، وأنا الشاهد على تخاذل العالم المنافق الكذّاب، الذي يفعل عكس ما يقول، بل يمدّ القاتلَ بأسلحته الباطشة.. ويتفرّج على حليب الرّضّع الأحمر الشاخب على الحيطان.
أنا الأوّل، هنا، والخالد في المثَلَ الباكي وفي بذور المكان. وأنا بصمة الجَمْر، وأغنيتي الصعبة مكابرة وإصرار. أنا الهندي الأحمر الجديد الذي سيبدّل نهاية الحكاية، ويبقى في عناد الحياة وقوّتها الباقية.
***
أيّها المُسجّى على الهتافِ المشتعل بالقلوب، والمُرصّع بأنابيب التغذية الجبرية المُحرّمة، خوفا من موتك الحاسم الزلزال.
أيُّها الصاعدُ على استطالةِ المآذنِ وشعلة الجُلّنار.
أيّها المتماهي بغيم الجنّةِ الُمتناسخِ، من أثوابِ الساحل الشاميّ إِلى سدْرة المُنتَهى.. وصولاً إلى مدية الغاضب ورصاصة الشجاع.
أيتها الزّفةُ الرانخةُ بَعِرق الملائكةِ في صَهْد العُرْسِ المستحيل، والأيّلُ بقرنيه البرقيّين، يُطْلقُ شِعابَ الرّعدِ في السماء.
أيّها الفصيحُ المتلعثمُ من فرْط اتّساع عيون الغزالةِ، التي تأخُذكَ إلى شالها المُطهم بالشّهد.
أيّها المسكونُ بالشمس لتمحوَ ظلْمةَ النهارِ، وتجعلَ الليلَ نهارياً مثلَ ملامحكَ الواضحةِ في العتمةِ وبين الغرباء.
أيُّها الحيُّ المقتولُ الذي لا يموت، وصورتهُ في البيوت..
إنك حيٌ، ولا يليق بك الغياب.
***
أيها السامع المرتبك! لا تكتم أنفاس ضميرك، واسْمَع القصف كما ينبغي. كانت بيوت غزة أغنية للبحر، تحبّ البرتقال، وتنام على وردة التعب! لكنها شمعة كونيّة، يتحلّق حولها الضوء والملائكة! وكان شعبها حقيقيا يسكن في ترابه وسمائه.. لكنّ الاحتلال الإسرائيلي سعى، منذ عقود لفرضِ مقاربة إذلالٍ مستحيلة عليه.. فرفض! والحقيقة واضحة للذين يرون! لكنّ السيدة العمياء «العدالة» لم تنتبه، وظلّ الفلسطينيون في الحصار، وتحت «بساطير» الجنود والاستهداف. ومنذ شهر ونصف الشهر رأينا الجوارح الوحشية قد اجتاحت مداخل غزة، واتخذت هيئة الانقضاض.. ولم يبقَ شيء في المدينة غير مخلّفات الطائرات والجنود وقنابل الفسفور! وها هو جنرال الموت يعلن بأن هارمجيدو قد بدأت.. وستفيض الطرقات بالجثث والديدان.
إن الغزاة، بكلّ حمولتهم الفولاذية الحداثية الحارقة، قد استهدفوا كلّ مناحي الحياة؛ من ماء وكهرباء ومخابز ومشافي وتموين، في مشهد عريض يذكّر بالتطهير العرقيّ والمذابح المفتوحة، ودون رحمة! وليدفعوا الجموع لأن تخرج من أحيائها، وتتجه نحو نكبة جديدة، وتقيم خيامها على أرض أخرى ليست لهم، في سيناء.
فماذا سيقول العالَم الذي خذل نفسه، قبل أن يخذلنا، ولم يستطع أن يحمي آلاف الأطفال والنساء والشيوخ؟ وقد رأى القوانين والأعراف والقيم، تُداس ببسطار المحتلّ الفاشيّ الإسرائيلي؟
إن كل مَن يساند الاحتلال بالذرائع أو الدعم المادي أو السياسي، أو يصمت أمام المجازر.. هو شريك في هذه المجزرة المروّعة، غير المسبوقة!
إن القطاع الثقافي والإعلاميّ مُطالبٌ بأن يقدّم نصَّه للضحايا المدنيين الأبرياء، دون تأخير، لعلّه يساهم في إيقاف الموت الذي يختطف طفلاً يُقتل كل عشرة دقائق، وإنسانا، في غزة، كل أربع دقائق!
وإلا؛ ماذا سنقول لامرأة هدموا بيتها، وترى كلّ أولادها ممدّدين في قبر جماعيّ؟ فهل سيحتمل التاريخ دموعها الكاوية، التي تماثل الزجاج المطحون أو معدنٌ مصهور يغلي؟
إن أعداء غزّة، على اختلاف عصورهم ووجوههم وألسنتهم، كانوا يأتون من الرماد، ولا يشربون إلاّ الدم ! وهذا الذي سيجعلهم ينصرفون عنها، فأرضها لا تحتمل القراصنة، وطعام شهدائها من الجنّة.
.. إننا نناشدكم،أيها الأشقاء، والنار بين أصابعنا.
***
سيكونُ الثلجُ أحمرَ هذا العام، جمريّا يتوهّجُ مثل جِفْتِ عَجَم الزيتون المُعَجّن بالزيت اللاذع الموّار في الموقد الكبير.
ستلفح الموجةُ البيضاء وجوهَ السكون الخائفة من مواقد الشجر الساحر على التلال، التي لا يرفّ جفنها فزعاً من كبّارة البلد المتكلّسة المنحوتة على شكل السكون، تلك التي ترى المدن الضائعة والرؤوس المقطوعة والأفواه الفارغة من الأصوات، والتي رضيت أن تأنس للضبع الناهش لحم أمها؛ البيارة الخالدة.
سيكونُ تقويمٌ آخر لأعراسِ الربيع ولوزِ النوّار، وستأخذُ الحقائبُ نشيدها كاملا من أبجديةِ النبع المتجدّد، ليبدأَ دْرسُ فلسطين؛ حيث بسملةِ العودةِ.. ويمضي إلى التفاحةِ كاملةً من ذُرى الكرمل إلى نقبِ الرمل الساخن، ومن الليمون إلى القمر، ويرفعُ ألوانَ البيرقِ فوق القبّة التي تُرضع النجوم، عاصمةً إلى أبدِ الدهّرِ، لينتهي على أسوار الدولةِ الأكيدةِ، لزمن جديدٍ، نذكرُ فيه الشهداءَ والجرحى وأسرى الحرية القاسية، ويفهقُ من ضوئهم نور الرجل، الذي لن يترجّل دون ميعاد للحياة.
***
ثمة دبيب في رَحْم الشوارع، وثمة نبض يخفق في الجدران، وثمة انفجار قادم في كل مكان، بدأ من القدس،إلى جنين، وتوقّف في غزّة، لكن صداه سيكون في المرايا القريبة والبعيدة!
***
لقد رأيته، لقد رأيته، لقد ألقى فَرْش العجين إلى بيت النار، وظلّ الناس يتضوّرون قهراً، فجفّ الحبَق!
وكانوا أسرابا تملأ الأفق، من المذبحة إلى الخيمة إلى المجزرة..
ضعفاء، مساكين، ثكالى، عطاشى، بين الركام العظيم بلا طريق.. لا حول لهم ولا قوة، عاجزون، مشرّدون.
لكنهم هتفوا: عاش الوميض الذي سيرفعنا إلى السارية.
المتوكل طه شاعر فلسطيني