كتاب: سنان أنطون: دنيا الكوابيس الأليفة
لعبة مرايا متقابلة ومتتالية في آن؛ ليس هذا الأسلوب جديدًا في الأدب، إذ لعله ابتدأ بهوميروس ووصل أقصى تجلّياته لدى تولستوي عالميًا، وعبد الرحمن منيف عربيًا. وليس أسلوبًا جديدًا لدى سنان أنطون أيضًا، إذ استخدمه في رواية «يا مريم» وإن ضمن دائرة أضيق من دائرة روايته الأحدث «خزامى» التي صدرت أخيرًا عن منشورات الجمل. ليست مرايا متقابلة تمامًا، إذ تتشظى أحيانًا، وإن بدرجة أقل من تشظي روايته «فهرس» التي ما تزال الرواية التجريبية الأكبر ضمن روايات أنطون الخمس.
ثمة إغراء كبير في تتبّع جذور «خزامى» في روايات أنطون السابقة، ربما باستثناء «وحدها شجرة الرمان»، الرواية الأشهر لأسباب عديدة، التي عمد أنطون بجرأة إلى التخلّي عنها بقوة في «خزامى». ولكنّ التشابهات محض قناع، حتى ولو ركن القراء والنقاد إلى القراءة الكسولة التي تختزل أعماله في «تهمة» الكتابة عن العراق. ثمة تخليات كثيرة في هذه الرواية التي طال انتظارها، وكان صاحبها على قدر الرهانات، إذ باتت أفضل رواية له، أفضل حتى من «فهرس» التي نكاد لا نجد روايات منافسة كثيرة لها في العقدين الأخيرين. تخلى أنطون جزئيًا عن النزعة التجريبية التي كان يمكن لـ «خزامى» أن تمثّل متاهة أعقد، وتخلّى جزئيًا عن مكانه الأثير ليغادر منطقة أمانه السابقة، غير أنه تردّد في مغادرة منطقة أمان أخرى هي حجم الرواية، إذ ألزم نفسه بحجم متوسط كان يمكن لهذه الرواية أن تطول أكثر بلا إملال.
«خزامى» هي جدلية المنفى والوطن، أو المنفى والمنفى الآخر، أو ربما (ولو لبعض شخوصها) الوطن والوطن الآخر. جدلية أشبه بمغناطيس يجذب القراء على اختلافاتهم، أو أشبه بكابوس جاثم على صدور الجميع، حتى أولئك الذين يتوهمون أحلامًا هنا أو هناك. جدلية غفلة ويقظة، وكأن الذاكرة موشور «مبلل بالحروب» (لو استعرنا عنوان ديوان سنان)، يضيء تارة ويخفت تارة. جدلية التذكر والنسيان، أو التذكر والتناسي، إذ تنوس الذاكرة بين حضور وغياب واقعي ومجازي في آن. الذاكرة هروب لدى عمر الذي يعوض نقصانه الجسدي بالتناسي، وكأن فقدان الذاكرة لديه وطن اختياري في رحلة القفز بين أوطان/منافٍ عدة. وفي المقابل، تكون الذاكرة وطنًا لدى سامي حيث الزهايمر آخر درجة من درجات الخيانات المتلاحقة التي نكبته.
«خزامى» رواية زمنين، ومكانين، وذاكرتين، ووطنين، ومنفيين، والأهم أنها رواية كابوسين مقيمين لا يرحلان، وحيث لا مكان للحلم حتى لدى الشخصيات الأخرى التي تدور في فلك الشخصيتين الرئيسيتين. حتى أصحاب الوطن الواحد، والذاكرة الواحدة، واللغة الواحدة أسرى كوابيس أخرى لا مفر منها. رحلة تيه في أمكنة وأزمنة لدى عمر وسامي، وهي في الوقت ذاته رحلة تيه في المكان الواحد والزمان الواحد لدى باقي الشخصيات. وكأن لعنة العراق أصابت الجميع: من هربوا منه، ومن يحنّون إليه، ومن سمعوا عنه، ومن لا يعرفون مكانه على الخريطة. لعنة وجودية حتى لدى الشخصيات البسيطة التي لا تدرك معنى الوجود، وتحاول التملص من متاهة المنفى بالعيش يومًا بيوم، حيث تمسي الرتابة جحيمًا آخر، كابوسًا آخر يخلق منفاه.
كان لا بد لـ «خزامى» أن تُكتَب كما كُتبت؛ مقاطع بلا ترتيب منطقي. مقاطع متداخلة تارة، متوازية تارة، متنافرة تارة. مقاطع مثل فعل التذكّر أو فعل التناسي، ذاكرة متخبّطة كأصحابها العالقين بين الماضي والحاضر، وحلم مستقبل مجهول ينذر دومًا بكابوس غامض. ليس تداعيًا حرًا تمامًا، بل تداعٍ مضبوط الإيقاع،
تبدو الشخصيات كلّها وكأنها تخلق كوابيسها المريحة ضمن متاهة الكوابيس المفروضة عليها قسرًا. ثمة من يختلق وطنًا، وثمة من يختلق ذاكرة، وثمة من يختلق هواية جديدة، وثمة من يبتكر مشروعًا جديدًا، وثمة من يعيد تشكيل حياته لينفض غبار الماضي كله. ولكن الكوابيس هي الكوابيس، أكانت في العراق، أو في بورتريكو، أو في فيتنام، أو في أميركا. فالأرقام هي الأرقام، حيث الأرقام هي الوطن، هي الهوية، هي من تمنح حياتهم معنى وقيمة، أكانت أرقام ملفات الهجرة، أو أرقام بيوت المنفى، أو أرقام رحلات الطيران، أو أرقام الضمان الاجتماعي وجوازات السفر.
متاهة جميلة ومرعبة في آن، يقدّمها أنطون ببراعة في تلك المقاطع التي تشكّل جسد الرواية المثخنة بالمنافي والكوابيس. يكاد يكون كل مقطع قصة مستقلة في ذاتها، وجزءًا من قصة كبرى في آن. لا نجد براعة المقاطع كثيرًا في الروايات العربية، إذ تبدو عمومًا منتزعة من سياقاتها كأنها أعضاء مبتورة، إلا أن أنطون أحد أفضل من يقدّرون قيمة المقاطع ومعانيها، وأحد أفضل من يكتبونها في الرواية العربية. لك أن تشكّل متاهة هذه المقاطع على هواك؛ لك أن ترتّبها كما تشاء، أن تعيد ترتيبها، أن تبعثرها، وقد قُدّر لي أن أقرأ الرواية بترتيبين مختلفين، فضّل أنطون الترتيب «الأسهل» في نهاية المطاف، بخاصة في الربع الأخير من الرواية.
ما يجعل «خزامى» أفضل روايات أنطون هو التحدّي الذي فرضه الكاتب على نفسه في مغادرة ما يرتاح إليه. ثمة تقاطعات مع رواياته السابقة حتمًا، إذ فيها بساطة «إعجام»، ولوعة «يا مريم»، وبراعة «فهرس»، إلا أنها لا تشبه أيًا منها. ثمة قطع شبه تام مع المشاعر الفيّاضة التي وصلت ذروتها في «وحدها شجرة الرمان»، ودرجات متفاوتة في الروايات الأخرى، بيد أن «خزامى» رواية الهدوء الخادع. ما من مشاعر جيّاشة واضحة، بل سطح نهر ساكن رائق. «خزامى» رواية الشخصيات التي تقلّم مشاعرها على نحو واعٍ أو لا واعٍ، بحيث تتخلّص من جميع ترهّلات الصراخ والعويل. هي رواية الابتسامات لا الضحكات، رواية الدموع لا النشيج، رواية الهمس لا الصراخ، رواية التمتمة، رواية مثل لمسة على النصل من دون أن تدمي اليد، غير أنها تدرك ما يفعله النصل، وما يفعله الدم. رواية قارب يتهادى بنعومة في ذلك النهر الممتد من اللامكان إلى اللامكان؛ ثمة مويجات خفيفة تربك هدوءه أحيانًا، إلا أن النهر، هذا النهر، نهر الخزامى، نهر بلا شطآن، فالشطآن ثبات، و«خزامى» بشخصياتها لا تنتمي إلى دنيا الثبات، بل تتغير بتغيّر كوابيسها التي قد لا تكون سيئة بالضرورة.
يزن الحاج كاتب ومترجم سوري