عمان الثقافي

كتاب النعمة .. سؤال المؤلف والزمان

28 أغسطس 2024
28 أغسطس 2024

لا يزال الأثر العماني يتحفنا ببدائع المخطوطات ونفائس الآثار، فطوبى لعلماء أهل عُمان ومن تعهد تلك الألواح بالكتابة والحفظ والصون والتجليد ومن اجتهد في جمعها وحفظها في رفوف الخزائن جيلا بعد جيل، عابرة للزمان والمكان إلى حيث شاء الله أن تجد مستقرها في عناية المحققين والدارسين من أجل ترميمها ورقمنتها وتحقيقها وإخراجها في أبهى حلة، ولكم كنت مفتونًا بتقليب ألواح هذه المخطوطات التي عفت عليها الأزمنة وهي حبيسة الرفوف في المكتبات العامة والخاصة أو بين مقتنيات المهتمين وموروثاتهم.

وقد قادتني الأقدار في أثناء بحثي عن المخطوطات إلى مخطوط سماه مؤلفه كتاب النعمة وهو أرجوزة في الاعتقاد والفقه منسوب إلى الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي مؤلف كتاب بيان الشرع، وكانت وزارة التراث القومي والثقافة (سابقا) قد طبعت هذا الكتاب سنة 1984م اعتمادا على إحدى نسخ المخطوطات دون تحقيق أو دراسة، وقد قارنت هذه الطبعة مع المخطوطات المتوفرة فوجدت فيها أخطاء مطبعية وإملائية كثيرة، ولذا يأتي هذا التمهيد كمقدمة لتحقيقي لكتاب النعمة محاولا فيه سبر أغوار هذه الأرجوزة تبيانا لنفاسة قدرها وجلالة فنها وبراعة أبياتها، وتكمن أهمية هذا المخطوط -إضافة إلى مكانة مؤلفه العلمية والتأريخية- في أنه يعد من أوائل المخطوطات النظمية التي وصلت إلينا إذ هو فيما يبدو من بين أقدم الأراجيز المحفوظة في مخطوطات متفردة ومتناثرة في المكتبات العُمانية والمغربية، حيث عاش ناظمها في القرن الخامس الهجري وهو ما أثبتناه في هذا التمهيد.

عنوان الكتاب

تتصدر أغلب المخطوطات التي وقفنا عليها بعنوان تُستَهلُّ به الأرجوزة وهو: «كتاب النعمة»، ويرد في بعض المخطوطات باسم: «كتاب النعمة ونور الظلمة»، وتختتم بعض المخطوطات بالقول: «تمت الأرجوزة المسماة النعمة الكافية والموعظة الشافية».

ويصرح الناظم باسم الأرجوزة تصريحا واضحا في قوله:

«فهذه النعمة للأديب

تأخذ في الموجود والتقريب

سميتها النعمة وهي النعمة

تُنبِئُ في الدين تسد الثلمة»

موضوع الكتاب

تبتدئ بعض المخطوطات بفهرسة لمحتوى الأرجوزة، حيث تشتمل على أربعين بابًا بدءًا بالباب الأول الذي تتصدر به الأرجوزة بعد جملة البسملة وهو عبارة عن مقدمة تتضمن حمد الله وذكره والصلاة على نبيه -صلى الله عليه وسلم- وذكر الشهادتين والقرآن الكريم وصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتقال الإسلام عبر أجيال الأمة الإسلامية، ثم يشتكي المؤلف الراجز من حال المجتمع في عصره وكيف غلب على الناس حثالة المجتمع - حسب تعبيره - إلا القلة القليلة وهو بذلك يستعين بالله وبكمال صفاته سبحانه وتعالى.

وهكذا تتوالى أبواب المنظومة تباعًا في مختلف الفنون العقدية والفقهية حتى يختتم بإسهاب في الباب الأربعين في المواعظ والنصائح مع الإشارة هنا إلى اختلاف مسميات الأبواب اختلافات طفيفة بين المخطوطات، وعلى الرغم من هذا التبويب المنظم لمضمون الكتاب إلا أن الناظر في أبيات هذه الأرجوزة يجد فيها التباسا في تسلسل الأبيات الشعرية وتداخلًا في موضوعاتها وتكرارًا لها، كأن تأتي أبيات في أحكام الطهارة متداخلة مع الباب الثالث عشر في صلاة المسافر وهذا على سبيل المثال لا الحصر، ولعل في ذلك دلالة على أن الأرجوزة أطول مما هي عليه في المخطوطات التي بين أيدينا ففُقِدتْ صفحات منها أو أسقطها النساخ سهوا بسبب قدم الكتاب وكثرة استنساخه.

مؤلف الكتاب وعصره والشواهد المؤيدة

يتكرر اسم المؤلف في تقييدات معظم مخطوطات الكتاب، إذ يُذكر بوضوح أن مؤلف الكتاب هو «الشيخ محمد بن إبراهيم بن سليمان بن عبدالله الكندي السمدي النزوي» مع اختلاف الألقاب العلمية بين المخطوطات، وترد أحيانا عبارة «المنسوب إلى» قبل ذكر اسم الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي، ولئن كانت كلمة «المنسوب» تثير في ذهن الناظر قدرا من الشك وكأنها دعوة صريحة من الناسخ إلى ضرورة التحقق من صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف، إلا أن هنالك في متن الكتاب ما يدلل على عصر المؤلف ومعاصريه من العلماء ويرجح على الأغلب صحة نسبة الكتاب إلى الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي مؤلف بيان الشرع وهو الأمر الذي سنقص دلائله في هذا التمهيد.

الشاهد الأول على صحة نسبة الكتاب لمؤلفه حاضر بقوة في الباب الأول من الأرجوزة فالناظم يصرح تصريحًا واضحًا بأنه نظم هذه الأرجوزة في السنة «الخمس المائة»، وذلك حسب النسخة الأقدم التي اهتدينا إليها من هذا الكتاب، وذلك في قوله:

«وإنني نظمت في الخمس المائة = أرجوزة موجزة مبرأة»

وتجدر الإشارة إلى تضارب هذا التأريخ في النسخ الأخرى اللاحقة، فقد ورد تأريخ النظم في بعض المخطوطات أنه في السنة «السبع المائة» وفي أخرى أنه في السنة «التسع المائة»، إلا أننا اعتمدنا السنة «الخمس المائة» لأن هذا التصريح الزمني ورد ذكره في المخطوط - رقم 3268 - المحفوظ في دار المخطوطات الوطنية بوزارة الثقافة والرياضة والشباب، ويرجع تأريخ نسخ هذا المخطوط إلى سنة 1171 للهجرة على يد ناسخه «عبيدالله بن أحمد بن حمود الحسني»، وهو المخطوط الأقدم زمانا من بين المخطوطات التي بين أيدينا، حيث يقول ناسخه: «قد وافق الفراغ من نسخ هذه الأرجوزة الشريفة يوم الاثنين ليومين بقيتا [بقيا] من شهر جمادى الأولى من سنة إحدى وسبعين بعد المائة والألف سنة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم..»، وتحديد الناظم لزمان النظم في «الخمس المائة» فيه اتفاق مع فترة حياة الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي المنسوبة إليه هذه المنظومة فقد عاش الشيخ في القرن الخامس الهجري وتوفي سنة 508 للهجرة.

ولعل هذا التباين الحاصل في تأريخ كتابة الأرجوزة بين المخطوطات المحفوظة في المكتبات العُمانية هو الذي أدى إلى التشكيك في نسبة الأرجوزة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي، وهو ما يبدو جليا في بعض المخطوطات بإضافة عبارة «المنسوبة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي».

ونشير هنا إلى أن الباحث سلطان الشيباني يرجح نسبة القصيدة إلى عالم من علماء القرن الثامن الهجري، وقد قيد ملاحظته هذه في تحقيقه لكتاب اللمعة المرضية بقوله: «ومن النظم العلمي المشهور عند العُمانيين بعد ابن النضر أرجوزة النعمة وهي رجز مبعثر الأبواب في أكثر من ألفي بيت، وينسب نظمها للشيخ محمد بن إبراهيم الكندي صاحب بيان الشرع كما هو صنيع المؤلف هنا [الإمام نور الدين السالمي] مع أن ناظمها يصرح في مقدمتها أنه نظمها في (السبع المائة)، أي القرن الثامن الهجري، وفي بعض النسخ الخطية: (في التسع المائة) أي في القرن العاشر الهجري».

ويتفق الباحث فهد السعدي مع هذا الرأي حيث يقول في كتابه قاموس التراث: «وبرز في أواخر القرن الثامن وأول القرن التاسع الهجري الفقيه الناظم عمر بن سعيد بن راشد البهلوي فانتقل بالنظم مرحلة أخرى فكانت أراجيزه من بعد أرجوزة ابن النضر من أوائل الأراجيز العُمانية بجانب أرجوزتي النعمة والكافية، والأولى [النعمة] ناظمها مجهول عاش في القرن الثامن الهجري» ثم ذَيَّل قوله في الهامش بقوله: «المشهور نسبة أرجوزة النعمة إلى محمد بن إبراهيم الكندي ولكن يرجح الباحث سلطان الشيباني عدم نسبتها إليه وأن ناظمها من أعلام القرن السابع الهجري».

وأرى أن ميل هذين الباحثين إلى ترجيح أن يكون مؤلف الأرجوزة من علماء القرن السابع أو الثامن للهجرة مرده عدم اطلاعهما على المخطوط الذي يذكر فيها المؤلف نفسه أنه نظم الأرجوزة في السنة الخمسمائة وهو المخطوط الأقدم الذي اهتدينا إليه من بين مخطوطات الأرجوزة كما أسلفنا بيانه.

والشاهد الثاني الذي نرجح من خلاله صحة نسبة الأرجوزة إلى الكندي ما نجده في كتاب اللمعة المرضية من أشعة الإباضية للإمام نور الدين السالمي، حيث يقرر بوضوح أن هذه الأرجوزة للشيخ محمد بن إبراهيم الكندي فيقول: «ولمؤلفه [أي بيان الشرع] القصيدة المعروفة بالنعمة وهي رجز في أصول الشرع وفروعه وهي طويلة جدًا»، وقوله: «المعروفة» يدلل على شهرتها بين العُمانيين في ذلك الوقت وتواتر علمهم بمؤلفها.

والشاهد الثالث الذي يُستأنس به في نسبة الأرجوزة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي أن العلماء المذكورين في الكتاب متقدمون عليه أو معاصرون له، إذ يذكر المؤلف أنه استقى مراجعه في منظومته من الشيخ أبي سعيد الكدمي والشيخ ابن بركة البهلوي وهما من علماء القرن الرابع الهجري، وذلك في قوله:

«روى لنا قدوتنا الإمام

وخير من جادت به الأيام

أبو سعيد الكدمي الحبر

أفضل من سيق إليه البشر

قد حملوا عنه الثقات السادة

علومه نعم الكرام القادة

جواب من يعرف بالتأكيد

عن شيخنا القاضي أبي سعيد

فخذ بما سمعته واعمل به

فإنه لمن سجال غربه»

ويقرر المؤلف أن اعتماده في هذه المنظومة كان على كتاب التقييد للشيخ ابن بركة البهلوي فيقول:

«نظمت ما شمت من التقييد

عن ابن بَرْكِ السيد العميد

عبد الإله حامل العلم عنِ

الأشياخ من أهل الرضا والفِطَن

عن النبي المصطفى وصحبهِ

وكل ما جاء به عن ربه

أحببت أن أؤثر مما أثَّرَه

مختصرًا في الشرع مما فسره

مؤيدًا بالحجج المنيرة

يعرفه ذو الفضل والبصيرة»

وقد يُفهم من قوله هذا أن اعتماده كان فقط على كتاب التقييد لابن بركة الذي قيد فيه جوابات أشياخه الذين تتلمذ على أيديهم إلا أننا نرى توسيع الفهم ليشمل -إضافة إلى كتاب التقييد- عموم التقييدات المتناثرة في بطون الكتب عن ابن بركة وهي كثيرة، وإن مما يؤسف له أن هذا الكتاب لم ينل بعد حظه من الدراسة والتحقيق فلا يزال حبيس الرفوف في مكتبة الإمام نور الدين السالمي -مصنف بالرقم 250- وقد أشار ناسخه الشيخ عبدالله بن عُمر بن زياد إلى أنه نسخه من نسخة منقطعة من أولها وأوسطها.

ومن العلماء المذكورين في الأرجوزة محمد بن زائدة الذي هو من علماء القرن الرابع الهجري وله سيرة موثقة في كتاب بيان الشرع لناظم الأرجوزة، وكذلك أبو الحسن البسيوي صاحب الجامع المشهور، ومنهم من يعود تأريخهم إلى القرن الثالث الهجري وهم من كبار علماء أهل عُمان مثل زياد بن وضاح وعزان بن الصقر وبشير بن محمد بن محبوب.

وقد امتدح الناظم أبا الحسن البسيوي بقوله:

«وقال قولا شيخنا أبو الحسن

وهو علي البسيوي ذو الفطن

بقية الأشياخ في هذا الزمن

من لم يكن لدينه أو السنن

يعرفه مثل طلوع الشمس

لا خير فيه إنه ذو لبس»

وعبارة: «بقية الأشياخ في هذا الزمن» تدلل على معاصرة الناظم للشيخ أبي الحسن البسيوي، بل وتحتمل أيضا تتلمذه عليه، ولا نستبعد ذلك فالشيخ أبو الحسن البسيوي من علماء القرن الرابع ولا يعرف تأريخ وفاته بدقة، والناظم على فرض أنه الكندي من علماء القرن الخامس، والأبيات تشير إلى علاقة وثيقة بينهما فدلالة المعاصرة ثاوية في قوله «في هذا الزمن» ودلالة التتلمذ في وصفه إياه بقوله «شيخنا»، وقوله «بقية الأشياخ» تدلل على أن البسيوي قد عُمِّرَ طويلًا حتى أدركه الكندي وقد ذاعت شهرته العلمية حتى جعل الكندي أمر معرفته شرطًا للمهتم بدينه كما يُفهم من البيت الأخير الذي اقتبسناه.

ويذكر المؤلف أيضًا في أرجوزته كتابًا باسم مختصر الزبيري، ويرد ذكره على هيئة سؤال عن الكتاب فيقول:

«سألت عن مختصر الزبيري

يؤخذ ما فيه من التأثير

قال نعم إلا مواريث الولا

فإن في مذهبنا لن يقبلا»

ولعله عنى هنا بمختصر الزبيري كتاب الكافي للزبير بن أحمد بن سليمان الذي يتصل نسبه إلى الصحابي الزبير بن العوام، وهو من علماء الشافعية في أواخر القرن الثالث وبداية القرن الرابع توفي سنة 317 للهجرة، وقد ورد ذكره في بيان الشرع بكتاب الزبيري في موضع واحد، وله مصنفات أخرى، وأرى أن في هذا أيضًا دليلًا على صحة نسبة الأرجوزة إلى مؤلف بيان الشرع لاتفاق ذكره في الكتابين، وهنا فائدة جليلة تدلل على تسامح المؤلف مع علماء المذاهب الأخرى، وتوسعه في العلم وأخذه من الآخر إن وجد أن الحق معه حتى وإن كان هذا الآخر مخالفًا له في المذهب، وليس هذا بغريب على علماء المذهب الإباضي فهذا دأبهم قديما وحديثا.

ومما أشكل عليَّ في أثناء اشتغالي بتحقيق الكتاب ذكر شخصية عُمانية لم تحفظها كتب السير والتراجم، وهو الشيخ يحيى بن عبدالله السموألي وابنه راشد بن يحيى السموألي، فقد أشار إليهما الناظم في عدة أبيات ولما بحثت عنهما لم أجد شيئًا يُذكر سوى إشارة بسيطة للشيخ سيف بن حمود البطاشي في كتابه إتحاف الأعيان في تأريخ بعض علماء عُمان حيث قال: «يحيى بن عبدالله بن يحيى بن إبراهيم بن عُمر السموألي من فقهاء زمانه ويبدو أنه في القرن السابع وفي بعض الآثار يحيى بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن عمر السموألي، فهما اثنان متقاربان في النسب».

وقد أرخ البطاشي أيضا لوالد الشيخ يحيى بن عبدالله فقال: «هو الشيخ الفقيه القاضي عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن عمر السموألي من علماء القرن السادس وكان في زمانه من العلماء الشيخ الفقيه عبدالسلام بن سعيد بن أحمد بن محمد بن صالح وعُمر بن محمد بن أحمد بن عبدالله بن النظر وعادي بن يزيد بن محمد البهلوي اليحمدي ومحمد بن سعيد الأزدي القلهاتي وإبراهيم بن محمد بن أحمد السعالي... وكانت وفاة الشيخ عبدالله بن محمد في شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وخمسمائة، أما ولده يحيى بن عبدالله فهو من الفقهاء وله أجوبة في الأثر ولم أعرف تأريخ وفاته».

ثم وجدت في الكتاب ذاته أيضا ذكرا آخر للشيخ يحيى بن عبدالله وابنه الشيخ راشد بن يحيى حيث قال البطاشي - بعد أن ذكر سيرة محمد بن أبي غسان إلى المشايخ من أهل عُمان وهي السيرة التي سبقت إحدى أكبر وقائع تأريخ عُمان سنة 579 للهجرة - قال: «وكانت هذه السيرة الفيصل، كان كتبها إليهم آخر كتبه وقبل خروجهم عليه بعقبة بوة، قال ناسخها: (وجدت في كتب الشيخ الفاضل الأكمل راشد بن يحيى، أخبرنا أن أسلافه وجملة من أهل عُمان يقولون كانت هذه السيرة لمن كتبت إليه ملحمة وكان الشيخ يحيى بن عبدالله ووالده محافظين عليها، ومذ دارت عندنا كتبناها وقد مضى لذلك ثماني وستون سنة)».

ولا تحيل تراجم البطاشي لهذين العلمين إلى وجود تقارب بين عصر الشيخ يحيى وابنه -القرن السابع- وعصر الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي - توفي سنة 508 للهجرة- ولا أرجح أن يكون ذكرهما في الأرجوزة أضيف لاحقا من قبل النساخ، ذلك لأن الأبيات تظهر رسوخًا يدلل على أنها من أصل الأرجوزة ولو افترضنا جدلا أنها من إضافات النساخ لوجدنا ذكرًا لعلماء آخرين من القرون اللاحقة لعصر مؤلف بيان الشرع.

والذي أرجحه أن المذكور في ترجمة البطاشي هو غير المذكور في الأرجوزة، فهما علمان مختلفان تشابهت أسماؤهما ويؤيد هذا الرأي قول البطاشي في ترجمته: «وفي بعض الآثار يحيى بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن عُمر السموألي، فهما اثنان متقاربان في النسب»، وأرجح أن تكون الشخصية الثانية متقدمة على الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي أو معاصرة له، بدلالة وجود مسألة للشيخ يحيى بن عبدالله السموألي مقيدة في بيان الشرع استهلها كاتبها بقوله: «من حاشية الكتاب عن الفقيه يحيى بن عبدالله السموألي...»، ويفيدنا هذا التقييد أن الشيخ يحيى بن عبدالله متقدم على الكندي أو معاصر له بدلالة نقل الكندي عنه.

ومن الشواهد التي تدعم صحة نسبة المنظومة إلى الكندي قوله:

«وفي سؤال لأبي محمد

عبدالإله خير أهل الرشد

وهو سموألي أبو المعمر

قاضي عُمان ورفيع العنصر»

وقد استشكل علي أيضا في البدء أني لم أجد ترجمة لهذا الشيخ المذكور، فعدت إلى مصنفات الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي لعلّي أجد شيئًا عنه، فوجدت قصة في بيان الشرع لحكم شرعي جرى على قضية اختلاف بشأن فلجين، نورد نصها كما هي: «وكان في جملة من حضر الشيخ أبو محمد نبهان بن أبي المعمر وأبو عبدالله محمد بن إبراهيم [الكندي] ويوسف بن محمد بن يوسف والحسن بن محمد بن الحسن، وحضر من حضر من جباة الفلجين فجرى الاتفاق على إزالة الحبل المعترض في الوادي وعلى أنهم يمددوا بالتراب على وجين الساقية الشرقي، وألا يقطع للمدر أغرز من الساقية، وأن أقصى ما ينتهي مدرهم إلى حشاة صغيرة مقابلة للطريق التي تفضي بين الدارين السهيلية منهما سهيلي هذه الطريق لورثة الشيخ أبي الحسن بن أبي المعمر والدار التي تخشى هذه الطريق للشيخ أبي عبدالله بن أبي المعمر، وبعضها مما يلي الوادي دار لموسى بن سليمان، وأحسب أن ذلك في سنة ثماني وثمانين وأربعمائة سنة، انقضى».

وفي هذا الحكم إثبات لمعاصرة الناظم وهو الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي للشيخ أبي محمد بن أبي المعمر المذكور في الأرجوزة، ويدلل على صحبتهما لبعضهما، كما يثبت الحكم أيضا وجود ثلاثة أبناء لأبي المعمر وهم أبو محمد -المذكور في الأرجوزة- وأبو الحسن وأبو عبدالله، وإطلاق لقب الشيخ على كل واحد من هؤلاء الإخوة يدلل على مكانتهم العلمية وهو ما يثبته الناظم بقوله في وصف أبي المعمر: «قاضي عُمان ورفيع العنصر».

وإن من اللفتات المهمة التي تفرد بها الناظم لهذه الأرجوزة ذكره لشخصية تأريخية تثير قدرا من الغموض والإشكال تحمل اسم «خردلة» وذلك في إشارة مبهمة تفيد بقتله في نزوى بعد أن قتل أحد الشراة العُمانيين أشار إليه المؤلف بقوله: «الشاري عبدالرحمن»، وقد أفردت له مقالا نأمل أن يُنشر عما قريب.

وإذا ما قررنا هذه الأدلة فإننا نميل إلى الجزم بصحة نسبة الأرجوزة للشيخ محمد بن إبراهيم الكندي صاحب الموسوعة الفقهية الموسومة ببيان الشرع، ويرد في الأرجوزة بيت قد يحتمل الإشارة إلى عمر المؤلف إبان نظمه للأرجوزة فيقول في الباب الثاني من الأرجوزة:

«فقد يقال إن حفظ مسألة

أفضل من قيامه بالنافلة

ثلاث في ستين عاما تضرب

فكيف ذا عما يفيد ترغب

فكيف ما ينافس الحليم

في ذخر ما يبقى وما يدوم»

ويبدو أن هذه الأبيات تحتمل أن المؤلف قصد بها الإشارة إلى عمره إبان تأليفه للكتاب، وذلك يعني أن الكندي أكمل نظم الأرجوزة في أواخر حياته في عامه الثالث والستين سنة 500 للهجرة، وهذا يضيف إلينا أن الكندي عاش 71 عامًا، حيث إن تأريخ وفاته المشهور سنة 508 للهجرة، وفي هذا استنتاج محتمل أضافته لنا هذه الأرجوزة كحصيلة علمية لتاريخ الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي.